- الإعلانات -
منذ استقلاله اختار المغرب نهجا كينزيا يعتمد تطبيق سياسات اقتصادية تشرف عليها الدولة تارة عبر مخططات خماسية أو ثلاثية وتارة عبر برامج حكومية عشوائية غير خاضعة لمراقبة برلمانية ولا تتلوها محاسبة. وإلى حدود تسعينيات القرن الماضي كانت كل الخطط الاقتصادية للدولة تطبق في أجواء يطبعها الميل للتخطيط المركزي واحتكار الدولة للقرار الاقتصادي والسياسة الاقتصادية والانتاج في قطاعات حيوية، إلى أن بدأ بعض التحول لما بدأت الدولة برنامجا شاملا للخوصصة الذي تخلت بموجبه عن شركات حكومية وكذا وظائف اقتصادية مهمة لصالح قطاع خاص في وضعيات احتكارية أو منافسة احتكارية في أغلب الأحوال.
لم يُخرج هذا التحول الهيكلي الدولة من منطقها الكينزي الذي يؤمن بوضع السياسات الاقتصادية من أعلى، بواسطة بيروقراطيين يستمرون في مناصبهم لوقت طويل. وحتى لما يتعاظم الفشل تتم التضحية ببعض السياسيين بينما يجدد البيروقراطيون جلدهم وينبعثون من رماد الأزمة بخطاب جديد ولكن بالمنطق القديم إياه: السياسات الاقتصادية يجب أن تصمم في أعلى وأن يتم تنزيلها على من هم أسفل، أما الدولة فهي الفاعل الأساسي المؤهل لخلق النمو والرخاء والتنمية.
ساهم الطابع الريعي للدولة المغربية في ديمومة هذه الفلسفة في الحكم، فالدولة لا تفضل أن تتخلى عن وظائفها كي لا تتخلى بالتالي عن سلطة الضبط والمراقبة والتحكم. وصممت كل المؤسسات ووضعت كل القواعد كي تتولى الدولة الشأن الاقتصادي من أجل أهداف ليست التنمية الاقتصادية على رأسها، بل الاستقرار وإن في ظل الفقر والتحكم في الأفراد وإن كانوا محرومين معدمين.
تشكل السلطة بطبيعتها فلسفة ضد الرخاء الاقتصادي، قد تخلق نموا اقتصاديا محدودا في بعض الحالات الخاصة جدا (كوريا الجنوبية في عز ديكتاتورية الجنرال بارك أو الصين الشعبية تحت حكم الحزب الشيوعي الصيني، إلخ)، لكن من المستحيل أن يتحول النمو في ظلها إلى تنمية تمس كل جوانب حياة الأفراد. وتظل المقاربات الكينزية التي تلجئ للأوراش الكبرى وللسياسات الماكرواقتصادية ملجئ هذه الأنظمة. إنها مقاربات تدعي أن التنمية تخطيط محكم يتولاه بيروقراطيون ونخب سياسية واقتصادية وليس من الأجذر به أن يأخذ اختيارات من هم أسفل في الحسبان، ولا حتى رأيهم لما يتعلق الأمر بفشل الجهود وضياع الموارد بمحاسبة من كان السبب، إن المقاربة من أعلى مقاربة عمياء لا تؤمن بحق الجزء الصغير في العقد الاجتماعي في الاختيار ولا في الاعتراض ولا في المحاسبة.
وفي الجهة المقابلة، هناك المقاربة الأخرى التي لم نجربها بعد، المقاربة المؤسساتية المبنية على فلسفة الحقوق الطبيعية للإنسان، المقاربة التي تؤكد على أهمية أن تكون القواعد واضحة وديمقراطية وتحترم حرية الأفراد في اتخاذ القرار وفي محاسبة من يتولى نيابة عنهم صرف المال العام. هذه المقاربة التي تشكل أساس كثير من الديمقراطيات الغربية الحديثة تحد من جموح المقاربة الكينزية نحو الشمولية وتعطي للأفراد حرية اتخاذ القرارات الاقتصادية على “المستوى الجزئي”، المستوى الذي تضعفه المقاربة الكينزية لصالح “مستوى كلي” تسيطر عليه نخب تحوله لخدمة مصالحها ضدا على مصالح الأفراد، الذين بني العقد الاجتماعي على حماية حياتهم وحريتهم وملكيتهم.
إن الاقرار بفشل (النموذج التنموي) إنما هو إقرار بفشل أسلوب في الحكم، وفشل الدولة في حماية الحقوق وبناء الثقة، وفشل في إقناع المواطن المغربي بالاستثمار والابداع والخلق وبذل الجهد لتحسين إنتاجيته. وما نراه اليوم من عودة ظاهرة “الهروب الكبير” عبر قوارب مهترئة من سفينة لا يعلم أحد في أي ميناء سترسو في السنوات القادمة مؤشر أساسي على الفشل في حماية الحقوق، وهذا بالتالي تقويض لجهود التنمية التي تأتي من أسفل عبر تبادل المنافع التي يرعاها نظام التبادل الطوعي بين الأفراد.
تتحقق التنمية من خلال تكامل الجهود الفردية، من خلال الفعل الجزئي (الميكرو-اقتصادي)، الفعل الذي يشكل الفرد البسيط محوره وجوهره، وكلما تم تصميم النظام الاقتصادي والاجتماعي كي يتم اتخاذ القرار في مستوى أعلى، يصبح الفرد الذي يجب أن تخذمه التنمية خارج قواعد لعبتها، بل يصبح أحد ضحاياها؛ فلا سلطة له لاتخاذ القرار، ولا محاسبة من يتخذ القرار، ولا الحفاظ على الحقوق أو استرجاعها إن هي ضاعت. إن الآلية الديمقراطية والانتخابية التي تسمح له بمراقبة السياسيين والنخب والبيروقراطيين يتم سلبها منه في نظام صمم ليعمل من أعلى، ولا يهمه شأن من هم أدنى.
هنا تكمن معضلة المغرب: لا تتلائم التنمية مع فلسفة السلطة، ولا يمكن للسلطة أن تتخلى عن منطقها في الحكم من أجل تحقيق التنمية كي لا تنفلت الأمور من بين يديها.
ينحصر هم السلطة الأساسي في توفير الغذاء، والباحث الذي قال أن “الفلاح يحمي العرش” اختصر كثيرا من النقاش حول هذا الموضوع. ويمكن أن نأتي بأمثلة عديدة على التصرف اليومي للبيروقراطية المغربية ضد الاستثمار والمبادرة الحرة والخلق والابداع، وهي كلها من ضمن أخرى مفاتيح التنمية الاقتصادية، لماذا إذن تعاديها بيروقراطيتنا إن كانت الدولة تشتغل حقا من أجل التنمية؟
إن الانتقال الاقتصادي لا بد له من انتقال ديمقراطي يمهد له الطريق، ويزرع الثقة ويحرر الأفراد من الخوف تحريرا إيجابيا وليس تحررا أقرب منه للتحلل من أغلال قديمة تتبعه فوضى وعنف تؤخر التنمية أكثر مما تجعلها قريبة. هناك اليوم في كل جهات العالم ومن ثقافات مختلفة بلدان التزمت جديا بالاصلاح المؤسساتي (السياسي والاقتصادي) وكان عقد واحد أو عقد ونصف على أبعد تقدير كافيا لتنتقل من حال إلى حال، من حال العطالة والفقر والبؤس والمديونية المفرطة إلى حال الرخاء والسلم الاجتماعي والتحرر من الثقافة المنغلقة التي يؤبدها الفقر.
إذا ما كانت هناك نوايا حقيقية وإرادة لتنمية البلد فيجب أن تبدأ الدولة بصيانة الحقوق الفردية وحماية اختيارات المواطنين، وفتح النقاش العام على الأفكار المختلفة، وتشجيع كفاءات “الدياسبورا المغربية” على العودة للمساهمة في الاستثمار وتعليم الأجيال الجديدة التي هي اليوم ضحية مؤسسة تعليمية منهكة وفقيرة المحتوى والمعرفة.
إن نظرة من أعلى، نظرة استعلائية لقضية التنمية، لن تحل المعضلة المغربية، ولن تساهم على التقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام. وعلى مساهمة الدولة أن تنحصر في حماية الحقوق الطبيعية للأفراد وأن تسحب نخبها المستحودة من السوق وأن تضمن لها حقها في الاستثمار وخلق الثروة، ولكن ليس على حساب المستهلك الذي يحتاج إلى سوق تنافسية محررة من القيود الحكومية ومن سطوة من هم أقوى.
كل نموذج اقتصادي مغربي جديد يجب أن ينظر إلى قضية التنمية الاقتصادية من منظور ميكرو-اقتصادي.