- هل “النموذج التنموي” المغربي ممكن؟
كَثُر الكلام وتضخم عن “النموذج” التنموي في المغرب، وعن عجز السياسات العمومية، طيلة العقدين الأخيرين، على الحصول على نسبة نمو معقولة كفيلة بتشغيل الشباب، وبخلق الثروة وتوزيعها في إطار قواعد الإنصاف والعدل والتوازن.
فكيف يمكن الحديث عن “نموذج” تنموي، سابق أو لاحق، حين نعلم أن المقومات التأسيسية للنموذج مُفتقدة أو على الأقل غير متوفرة؟ فالمغرب لم يسبق له، موضوعيًا وتاريخيًا، أن انخرط جدّيًا في بناء الشروط المؤسسة لإقامة مشروع نهضوي ينتج ممكنات النمو والتنمية، ويرتقي، فعليا، بالبلاد والعباد إلى مستوى من العيش الكريم والعدل وحفظ الكرامة. فكيف يمكن تصور “نموذج” خاص للتنمية من دون طبقة وسطى مُواطنة ذات تطلعات تاريخية، ومن دون إقامة أسس تربوية، في الأسرة والمدرسة والمجال العام، تحض على التفكير والمبادرة والعمل، ومن دون تأطير ثقافي يسعف على تفتح ملكات الناشئة والشباب، وكيف يمكن تصور هذا المشروع في غياب “نماذج” قيادية، سياسية وغيرها، تجذبهم لاكتساب قيم الالتزام والعمل الجماعي والتسامح والمحبّة والتضامن؟
لكن هل حقّا نتوفر على ما يلزم من المستندات المُقنعة لادعاء امتلاك “نموذج تنموي”؟ وإلى أي حد نتوفر على ما يكفي من شروط الوعي بالنموذج في شموليته لكي نحكم عليه إيجابًا وسلبًا؟ وهل حقّا صَنع المغرب نموذجه الاقتصادي والاجتماعي اعتمادا على قرارات وطنية داخلية أم أن العوامل الخارجية وضغوط مؤسسات التمويل الدولية، والتداعيات السلبية لاقتصاد السوق، وجشع أغنياء البلاد، وغياب الحس المواطني لدى من وضع وأدار ونفذ السياسات العمومية، وسقوط قيم العدل والتضامن، كل ذلك أدى بما سمي ب “النموذج” التنموي إلى الإقرار بفشله؟
الظاهر أن عناصر النخبة السياسية في المغرب أصبحت من هواة الهدر الخطابي، بل إن الهدر تحول إلى قاعدة عامة، في الكلام والتقارير والسياسات وفي طرق تنفيذها. ذلك أن المتتبع النزيه يصعب عليه الانخراط في المناقشات الجارية حول “النموذج التنموي” دون استحضار المنجز الكبير الذي أنتجته النخب العلمية المغربية في تقرير الخمسينية. وقد كانت خلاصات هذا التقرير أكثر من بليغة سنة 2006، حيث خيّر خبراء التقرير أصحاب الشأن السياسي ما بين شروط “المغرب الممكن” وبين الاستمرار في سياسات عمومية تنتج الفوارق وأسباب التوتر والظلم؛ بل وتنتج ما سمي ب”السيناريو الكارثة”، علما بأن عنوان التقرير وهدفه الأكبر تمثل في دراسة وتقييم وقائع ومعطيات ونقائص “50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025″، متضمنا توصيات ورافعات كبرى للنهوض بدينامية التنمية. فماذا جرى حتى يعترف أصحاب القرار، بعد عشر سنوات على التقرير، بفشل “النموذج التنموي”؟ لا شك أن البلاد فتحت “أوراشا” كبرى، وسنًّت سياسات قطاعية طموحة، لكن ما الأسباب التي تجعل أعلى سلطة في البلاد تدعو، طيلة الأربع سنوات الأخيرة، إلى الإقرار بمحدودية السياسات العمومية وإلى اقتراح توجهات جديدة؟
الظاهر أن عناصر النخبة السياسية في المغرب أصبحت من هواة الهدر الخطابي، بل إن الهدر تحول إلى قاعدة عامة، في الكلام والتقارير والسياسات وفي طرق تنفيذها.
محمد نور الدين أفاية
لا أحد اليوم ممن يمتلك القرار التنفيذي، بعد تقرير الخمسينية ومعاينة الفشل، يمكنه إعفاء نفسه من المسؤولية. بل أكثر من ذلك طُلب من المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بتعاون مع بنك المغرب سنة 2015، إنجاز دراسة شاملة حول “الثروة الإجمالية للمغرب” لمعرفة مصادرها، المادية واللامادية، وإبراز مواطن العجز والنقص فيها، واقتراح “سياسة عمومية” جديدة، لتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية الصارخة التي تميّز كيان المغرب وحياة ناسه، وتميز الصور المتناقضة التي ينتجها عن ذاته ويبعثها إلى العالم.
كان من المفروض أن تُنجز هذه الدراسة في ثمانية أشهر لكنها تطلّبت ما يقرب من سنتين، وقد تضمنت اقتراحات وتوصيات، لكن في الوقت الذي دعا الخطاب الملكي الذي طالب بإنجازها إلى تنظيم حملة تواصلية على نطاق واسع لتعبئة مؤسسات الدولة والمجتمع من أجل وضع سياسات جديدة تقطع مع تلك التي تنتج الفوارق وتعمّقها، يبدو أن الآلة التعبوية لم تُنجز المطلوب (عِلمًا بأن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي يتميز بإنتاج تقارير في منتهى الأهمية والجرأة والالتزام المواطني والمؤسسي تخص جل قطاعات الدولة والمجتمع)؛ غير أن نتائج هذه الدراسة تطرح العديد من الأسئلة حول صدقية حيثياتها ومنهجيتها واستنتاجاتها؛ حيث تعتبر أن ما يتجاوز 70 بالمئة من الثروة الإجمالية للمغرب تعود إلى الرأسمال اللامادي، أي كل ما يتعلق بالرأسمال البشري، والرأسمال الاجتماعي (نسبة الاندماج الاجتماعي..) والرأسمال التنظيمي (نوعية المؤسسات والإدارة العمومية..) والثقافي، إضافة إلى ما يرتبط بموضوعات الكفاءة والثقة والابتكار والجاذبية،… لكننا حين نتفحّص النتائج الفعلية للدراسة نجد أن واقع حال هذه الأنماط من الرأسمال هي التي يعاني فيها المغرب من أشكال متنوعة من الأعطاب والنواقص والعجز، بل وسيعاني منها بشكل أكثر مأساوية في المستقبل إذا استمر الوضع في التفاقم، مع الهجرة المخيفة لمتخرجّيه وأطره، والنزيف المتواصل لكفاءاته التي يصرف عليها ملايين الدراهم لتقتنصها بلدان أخرى أكثر جاذبية وأمانا.
من جهة أخرى راج حديث مسترسل عن ربط “المسؤولية بالمحاسبة”؛ وقد عاين المغاربة طيلة سنتي 2017 و2018 فصول “مسلسل” مثير لمدى تطبيق هذا المبدأ. واختلطت المستويات والمعاني. ووجد الناس أنفسهم يتساءلون: هل المحاسبة تقتصر على مجرد “الإعفاء”؟ وهل المسؤول، الذي من المفروض عليه أن “يُسأَل” ويقدم أجوبة مُقنعة على نتائج سياسته، ويُحاسب على عدم احترام وُعوده والتزاماته، وعلى أخطائه وتقصيره، هل كان من المفروض، منطقيًا وسياسيًا، أن يحاسب حقّا، أم نقتصر على تقديمه “هدية” إعفاء، وكأننا نجازيه على سياسته بدل محاسبته عليها؟
إنني مقتنع بأننا نعاني في المغرب من مشكلة معنى الكلمات ومن استعصاء فعلي على التفاهم حولها، ولقد تبين في أكثر من مناسبة أن الدولة ترفع شعارات كبرى، ومنها المحاسبة أو الحداثة بدون أن تعمل على استنبات مقوماتها في المؤسسات والعقليات والوجدان والمواقف، ولا سيما على الصعد المؤسسية والتعليمية والثقافية، أو تعمل على بناء فضاء سياسي عصري فعلا يكون فيه الزعيم والمسؤول السياسي قدوة على صعيد التفكير والقرار والسلوك. بل إن المعضلة أن الدولة المغربية أضحت منتجة لتضخم خطابي غير مسبوق، وتنشأ مؤسسات عصرية لكنها تفرغها من مضامينها وتحرفها عن الأهداف التي تأسست من أجلها، لأسباب واهية ومزاجية حتى؛ كما تطالب بوضع تقارير لتشخيص الأوضاع واقتراح مقومات نهوض، ويتم إنجازها، لكن الآلة التعبوية، والجاهزية التنفيذية، والنتائج المُحصًّلة كثيرا ما لا تتوافق مع البرامج والسياسات المرسومة، أو يتمخض عنها نتائج عكسية.
فكيف يمكن تبرير الحديث عن “نموذج تنموي” في ظل سياسات مالية “أرثوذوكسية”، تضعها وزارة المالية كل سنة، لا تتزحزح قيد أنملة عن نسب العجز والتضخم والحرص على ما يسمى بالتوازنات الماكرو اقتصادية؟ والظاهر أن الاقتصاد المغربي بقي مرهونا لجدلية قاهرة تتحالف ضمنها عوامل وضغوط خارجية، وجماعات منافع داخلية كثيرا ما لا تضع المصالح العليا للبلاد ضمن أولوياتها. فمنذ أن وضعت الحماية الفرنسية الأسس البنيوية للاقتصاد المغربي، وفي ضوء المحاولات الجريئة لحكومة عبد الله إبراهيم في أواخر الخمسينات لاستعادة “الاستقلال” الاقتصادي الوطني، والتي عملت جهات عدة على إفشالها، وانطلاقا من سياسة المغربة في بداية السبعينات التي استهدفت إنشاء مقاولات “مغربية” كان ممن استفاد منها أن يفكر في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، مرورا بالإملاءات القاسية للمؤسسات المالية الدولية في إطار برنامج التقويم الهيكلي في بداية الثمانينات، إلى المجهودات الإصلاحية لحكومة التناوب؛ كل هذه الاختيارات الاقتصادية لا يمكن نعثها أنها كانت تندرج ضمن “نموذج تنموي” طالما أن كل توجهاتها تدخل ضمن إرادة دائمة لإدماج الاقتصاد المغربي في منطق “التبادل الحر” وتحرير السوق، وتشجيع الصادرات وجلب الاستثمارات الخارجية، والحفاظ على “التوازنات الكبرى”، مع اللجوء الدائم إلى الاستدانة الخارجية والداخلية لتعويض العجز، كما يلاحظ ذلك الاقتصاديون المغاربة. كما بعض الدارسين الأجانب ( في كتابه “أطفال رفاعة، الإسلام والحداثة” (2003) يقارن “غي سورمان” بين التجربة الماليزية النهضوية وأسباب إخفاق “النموذج التنموي” المغربي، كما عرضنا مع ادريس الكراوي، في كتاب “النخبة الاقتصادية المغربية” (2009) لبعض عوائق الإصلاح والتنمية في المغرب.
كيف يمكن تبرير الحديث عن “نموذج تنموي” في ظل سياسات مالية “أرثوذوكسية”
لا شك أن الدولة تخصص نسبًا لا بأس بها للاستثمار العمومي، لكن كل المجهودات المبذولة، العمومية والخاصة، لا تصنع نموا كافيا يسمح بتشغيل عشرات آلاف الشباب الذي يلجون سوق الشغل؛ كما أن الدولة تخصص ميزانية لا بأس بها لقطاع التعليم، لكن مردوديته ونتائجه وجودة تكويناته لا تتناسب مع ما هو مطلوب من طرف القطاعات الاقتصادية والمؤسسية المختلفة، ولا ما هو مطلوب من مقاييس المعرفة العلمية ومقتضيات التفكير العصري؛ ومن يكتسب كفاءات يجد نفسه ميّالا أو مضطرا إلى الهجرة للتفتح في بيئات عالمية أكثر احتضانا وجاذبية. بل ويُلاحظ أن هذا “الهوس الهجروي” أصبح يساور ويتنامى داخل فئات واسعة من الشباب، وحتى فئات عمرية أخرى.
والظاهر أنه إذا كان من “أصالة” تُميز الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية – وليس النموذج التنموي- للحكومات التي تعاقبت على مصير المغرب طيلة العشرين سنة الأخيرة، فهي أنها ساعدت بعض الفئات القليلة على الاغتناء الفاحش والسريع بفضل الريع، ووسائل أخرى غير مفهومة من طرف خبراء الاقتصاد والمال والأعمال، كما أنها قلّصت – حسب تقييمات المندوبية السامية للتخطيط- من درجة الفقر، غير أن هذه الاختيارات ساهمت، بالتأكيد، في إثقال كاهل المغرب بمديونية ثقيلة خارجية (وصلنا إلى 36 مليار دولار) وداخلية تتضخم سنة بعد أخرى، وفي إنتاج شروخ اجتماعية كبيرة، وفوارق اقتصادية ومجالية صارخة. وفي هذا السياق كيف يمكن الاعتماد على قواعد الاقتصاد النيوليبرالي والتعويل عليه لإقامة “نموذج تنموي” يسمح بإنتاج ثروات يستفيد منها أكبر عدد ممكن من الفئات الاجتماعية والجهات؟ وهل يمكن تخيل ذلك بدون سياسة إعادة توزيع منصفة وتضامنية لهذه الثروات للحد من مظاهر الظلم وهدر الكرامة التي تستفز كل مَن ما يزال يملك إحساسا بإنسانية الإنسان؟
ومن يعتبر هذا الاستفهام مُبالغا فيه فيكفيه أن يلج المؤسسات الاستشفائية، العمومية وحتى الخاصة، أو يراقب كيف يتم “نقل” المغاربة داخل المدن الكبرى (بما فيها العاصمة) وفي البوادي، ويقف عند وضعية سكان الجبال والأحياء الفقيرة، وينصت حقا لمعاناة الشباب الذين انسدت عليهم الآفاق وكفروا بالوعود والسياسات. كما يكفي أن ينتبه الإنسان قليلا إلى ما يعتمل في ثنايا المجتمع المغربي من تحركات واحتجاجات واحتياجات ومظاهر عنف جديدة، لكي يقر بأن المغرب والمغاربة ليسوا في حاجة إلى “نموذج تنموي”، حتى ولو كان افتراضيا فقط، بل هم في حاجة، أولا وأساسًا، إلى إعادة بناء وتغيير “نظرة” النخب السياسية إلى الإنسان المغربي باعتباره آدميا قبل ادعاء تصوره “مُواطنا” له حقوق وعليه واجبات، كما ينص على ذلك الدستور.
صحيح أننا نعاني من حديث متضخم عن انهيار القيم، وهو موضوع مناقشة مطروحة في كل المجتمعات اليوم، لكن مشكلتنا، نحن، تتمثل في كون العديد ممن يتباكى على انهيار القيم، أو يدعي المحافظة عليها، هو أول من يُعرض ما تبقى من نبلها للتشويه، وأن فئات عديدة دخلت السياسة باسم القيم وباسم الدين لكي يغطي البعض منهم على لهفهم للمصالح وتسابقهم على الامتيازات. كما أنه لم يعد من الممكن ادعاء التفكير في المجتمع في شموليته في الوقت الذي تعمل فيه الآليات الاقتصادية والمؤسسية على صناعة ما يتناقض تماما مع شعاراتها التي بررت وضعها، أي اختزال السياسة في شعارات “أخلاقية” والحصول على المنافع بشكل جشع، والتضحية بالصالح العام من أجل التفتح الشخصي والعائلي.
يعيش المغرب لحظة مفصلية من تاريخه السياسي والاجتماعي، وفي سياق الوعي التاريخي الضروري بمآلاتها، وفي سياق البحث الجدي عن “مشروع تنموي” له أبعاد سياسية شمولية، لا مناص من إيجاد أفق وطني جديد مبني على قاعدة تضامنية، تجمع ما بين القيم والمصالح، بحيث ينحو في اتجاه حل الرهانات الكبرى التي يواجهها المغرب؛ السياسية ( باستنبات قواعد الديمقراطية في أشكالها التمثيلية والتشاركية والمؤسسية)، والاجتماعية (بإعادة توزيع منصف للثروة الوطنية وتحقيق تنمية متوازنة بين الجهات)، وإنسانية ( بحفظ كرامة الإنسان وتوفير الأمن والأمان)، وثقافية ( بوضع مضامين تربوية ومشروع ثقافي متجدد يحفز على الوعي والتفكير والمبادرة وكفيلة بخلق رأسمال بشري حامل لأفق جديد).
لا شك أن محاولات وسياسات عديدة تم تجريبها طيلة العقدين الأخيرين في هذا الإطار، لكن نتائجها كانت مخيبة للتوقعات، حسب التقييمات الرسمية، وأحسب أن ذلك يرجع إلى غياب تقاليد البناء على المكتسبات، وإضاعة الفرص التأسيسية، وإفراغ المبادرات الكبيرة بسلوك سياسات صغيرة، وهدر الوقت في الحسابات السياسيوية، مما عرّض هذه المحاولات للانحراف وخلق نتائج عكسية، وأوضاعا تتطلب، اليوم، معالجات سياسية مغايرة وجذرية لربح الرهانات السياسية والاجتماعية والإنسانية والثقافية التي بدونها لا يمكن التعويل على أي سياسة أو “نموذج تنموي” مهما كانت النوايا.
- لا رجاء في أي نموذج تنموي بدون الثقافة
وفي سياق الحديث عن “النموذج” التنموي، أو التوزيع غير العادل للثروة، وفي إطار الأهمية القصوى للثقافة في أي مشروع نهضوي، يحضرني ما صاغه الفنان” جورج ماتيو” في كتابه “التجريد النبوئي” من أسئلة أجدها تنطبق على حالتنا المغربية بكثير من الإلحاح، يمكن صياغتها كالتالي: ما هي الأولويات الحقيقية بالنسبة لدولة حديثة؟ هل هي الرفع من مستوى العيش وإيجاد العمل والشغل؟ هل هي العدل في الضرائب؟ هل ضرورة النمو الاقتصادي، والنظام والأمن وتنظيم وسائل الترفيه، وإشعاع الثقافة؟ أم التعبير عن إرادة فعلية للإعلاء من شأن الإنسان؟
هل يتعين علينا أن ننتظر ترقية للإنسان تتحقق لوحدها أم علينا أن نستثمر كل الجهود من أجل انتصار الكينونة على المِلكية، وتغليب الكرامة الإنسانية على الغرائز البدائية؟
هل يجب علينا أن نوجه الثقافة ونوفر شروط تنميتها، أم نترك الحرية لكل المصالح الخاصة والمالية لتخريب ما تبقى من إنسانية حقيقية؟
يطرح هذا النمط من الأسئلة على كل من يدعي رفع لواء الحداثة أو التنمية الذي، غالبا، ما يحصرها في تعبيرات مظهرية، وسطحية لا أثر لها في الارتقاء بالذوق والتمدن والتوزيع الإنساني العادل لخيراتها. بل وتفرض هذه الأسئلة ذاتها على كل السياسات. والجواب عليها لا يمكن أن يقتصر على إصدار توصيات أو حتى على مواقف مبدئية، بل الجواب عليها يفترض سلوكا عمليا يسترشد بعقل عملي وعصري، ذي حس مواطني بمضامين اجتماعية تضامنية حقًا. فمصداقية كل سياسة اقتصادية واجتماعية أو ثقافية تستمد عناصرها من عملية تأسيس فعلي لمقومات مادية وثقافية تسمح بتفتح الإنسان وتوفر له شروط التعبير عن إبداعيته وملكاته. بل إن الجواب العملي، وليس الشعاراتي، لكل دولة على هذه الأسئلة هو الذي يقيس إنسانية سياستها، أو يبرز الأبعاد الثقافية والحضارية لاختياراتها، أو على العكس من ذلك يفضح ادعاءاتها وشعاراتها.
وتوكد تجارب العالم الرائدة أنه لا مجال للحديث عن “نموذج” تنموي، بالمعنى البسيط الذي يعني أول ما يعنيه، الاقتداء بقيمه ورموزه ونخبه ومؤسساته وتمدّنه من دون العمل على وضع سياسة ثقافية تتفاعل، عضويا، مع المجهودات التنموية، ووضع سياسات جديدة لإدماج العوامل الثقافية في المخططات والبرامج بطرق مبتكرة يجعل الجميع يكتشف القيمة الاقتصادية والحضارية للثقافة، في تنوعها وغناها، بما يجعلها تحتل المكانة الملائمة في النهضة المندمجة، وبما يِؤمن شروط تطويرها، وتفتح لمن يحملها آفاق انخراط، بطرق وظيفية ومُنتجة، في الممارسة اليومية والاجتماعية.
غير أن ما نعث ب “النموذج التنموي” المغربي، الذي تمّ الإقرار الرسمي بمحدوديته، لم يتعامل، يوما، مع الثقافة من زاوية النظر إليها كرافعة للتنمية وثروة مجتمعية، ويعمل على توطيد الأهمية الوظيفية لهذا الثقافة في الرأسمال غير المادي الوطني ويجعلها في قلب أي مشروع تنموي، علما بأن إبراز أهمية القيم الثقافية في الوعي بأن الرأسمال غير المادي لأمة ما يكمن في التأكيد على أن الأخلاق – هذا إذا كان لأصحاب القرار قناعات وممارسات فعلية تهتدي بقيم هذه الأخلاق وتعلي من شأنها- تقاس بإرادة تحقيق الخير لأكبر عدد ممكن من الناس، وتحقيق العيش المشترك والاندماج الاجتماعي، ومحاربة كافة صور الإذلال.
غير أن ما نعث ب “النموذج التنموي” المغربي، الذي تمّ الإقرار الرسمي بمحدوديته، لم يتعامل، يوما، مع الثقافة من زاوية النظر إليها كرافعة للتنمية وثروة مجتمعية
إزاء مسلسل الانتقاص من العامل الثقافي في السياسات العمومية، كما داخل أوساط المقاولات الخاصة وأصحاب الثروات، وفي سياق اهتزاز المرجعيات والقيم، وأمام سطوة السياسة وضجيج وسائل الإعلام، تؤكد كل الدلائل على أن العاملين في الحقول الثقافية والمثقفين، فقدوا الثقة في أفكارهم. فالأطر التقليدية التي عادة ما كانت تسمح للمثقفين بالتعبير عن إنتاجهم وأفكارهم مثل الجامعة، تتعرض للإهمال والتراجع. وحركت وسائل الإعلام، المكتوبة والسمعية البصرية والإلكترونية أقلامًا وأصواتًا تصوغ خطابات تتقدم كأنها تمتلك الكفاية والمشروعية للحلول محل المبدع والمثقف النقدي والمؤرخ، ومحل السياسي المعارض والأحزاب..إلخ.
وأمام هذا الثالوث: انهيار الجامعة، الاحتواء السياسي، التباس الأدوار، يتقدم المثقفون، باختلاف وتفاوت مجالهم وعطائهم، وكأنهم فقدوا البوصلة؛ إذ نجد منهم من التجأ إلى الصمت، إما احتجاجا على التلوث السائد أو الالتباس المستشري، أو توخيا للسلامة بالانكماش على الذات والانغماس في غربة مريحة، وإما الادعاء بأن التفكير لم يعد مجديا لأن الجمهور المفترض أن يتلقاه لا يرقى إلى مستوى إدراكه ومواكبته.
- في الخروج من الاحتباس السياسي
أما من الوجهة السياسية، فيبدو أن نمط وقاموس التخاطب الذي اختار السياسيون سلوكه لترتيب الاتفاقات كما الاختلافات وتدبير الاستحقاقات، يبين إلى أي حد يعلي الزعماء من شأن “البلاغات” على حساب ضرورات العمل والإنجاز، ويختارون “روايات” إما باسم الماضي، أو الدين، أو الأخلاق – الكلْمة بالمعنى المتداول، والرُّجلة..- أو باسم “النضال” –الذي بدأ يتراجع من القواميس- لتبرير المواقف وردود الأفعال. ويظهر من خلال هذا المشهد المغربي أن الزعماء يعانون من خصاص ظاهر في القيم الديمقراطية، ومن إهمال للاعتبارات التربوية والتثقيفية للمناقشة الديمقراطية، سيما وأن نسبة التأطير التنظيمي الحزبي في المغرب لا يتجاوز 1 بالمئة، وأن حجم المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية ضئيل، وعدد الأصوات المحصل عليها من طرف الأحزاب الأولى، وغيرها ضعيف قياسا إلى عدد سكان المغرب. وهو ما يطرح على كل المهتمين بالممارسة السياسية سؤال التمثيلية، وإدخال ما يلزم من النسبية على مفهوم “المشروعية” الانتخابية، والالتزام بدرجة ما من التواضع في التدافع السياسي. ومن البديهي أن استحضار هذه المعطيات لا يعني البتة الطعن في العملية الكلية التي بوّأت هذا الحزب أو ذاك المكانة الانتخابية التي حصل عليها.
ومعلوم أنه بين الشروط التأسيسية للعمل السياسي في الديمقراطية هي كون المرء لكي يكون ديمقراطيًا يتعين عليه أن “يتكلم بطريقة ديمقراطية”، سيما وأن هذا الشرط الثقافي والتواصلي ليس معطى طبيعيًا، وإنما هو نتاج تكوين وبيداغوجيا وجهد وتراكم للفعل الديمقراطي. قد يلاحظ هذا العجز، أحيانا، حتى في البلدان العريقة في الديمقراطية فما بالك بالنسبة إلى مجتمع ماتزال ممارساته السياسية والمدنية مرتهنة لتقاليد مُستبطنة من التبعية والوصاية والرسائل الضمنية والدعاية.
من هنا تبرز المسؤولية الكبيرة الملقاة على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين كافة، وضرورة تشبعهم بالقيم المؤسسية للديمقراطية، بما فيها ما يدخل ضمن مجال النزاع، وأحرى في لحظات الحوار، وقدرة الفاعلين على تحويل اتجاه النزاع داخل المؤسسات، وتدبيره بالطرق التوافقية، والإقناعية المناسبة، والبرهنة على الارتقاء بمستوى المناقشة العمومية إلى مستوى خلق نماذج بناءة يحتذى بها، حقّا، تغري الشباب والمتشككين وتدخلهم في معترك العمل السياسي.
لا تبدو عملية التحرر من ثقل هذا الواقع عملية سهلة، لكن أهم الرهانات المطروحة على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين كافّة يتمثل في خلق المسافة إزاء هذا التاريخ الاستلابي الماحق لكل نزوع نحو الحرية والجهر بالاعتراض، والانخراط في عملية جماعية واسعة لبناء إطار مشترك قمين بإطلاق تفكير عام حول الآليات المناسبة لاحترام القانون، والمساهمة في ترجمة “الاختيار الديمقراطي”، الذي أصبح مبدأ دستوريا، إلى مؤسسات وعلاقات وعيش كريم؛ علما بأنه لا يمكن انتظار إقامة أسس ديمقراطية مُوطّدة في ظرف زمني وجيز من دون فاعلين ديمقراطيين، وبأن ذلك يتطلّب توفير شروط سلسة وسلمية وتدريجية لاستعادة الثقة بين مختلف الفئات والجماعات والتيارات المستعدة للمشاركة في المؤسسات.
ولذلك، فالحديث عن أي “نموذج تنموي” يتطلب توطين ثقافة ديمقراطية، وإقرار مبادئ حقوق الإنسان، والقطع مع سياسات الإذلال، واتباع توزيع عادل للثروات على تواضعها، والحد من سياسات الهدر والتبذير. يتساوق هذا الشرط التأسيسي مع ضرورة وضع أطر مناسبة لتدبير النقاش السياسي والثقافي حول قواعد العيش المشترك، وقيم المجتمع الديمقراطي، يساهم فيه كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والثقافيين لإعادة بناء مجال سياسي قادر على إنتاج التوافق الضروري لتوطيد الاختيار الديمقراطي ووضع مقومات “نموذج تنموي” فعلي.
وفي نظري بقدر ما يتطلب الأمر الانطلاق من مراعاة مبادئ الليبرالية الدستورانية كان يتعين، بالموازاة، إدخال والتزام قيم حقوق الإنسان كافة. وهو ما نصّ عليه دستور2011 الذي عبّر عن روحية توافقية، وأكد على الطابع الدستوري للاختيار الديمقراطي، بما يفيد الاعتراف بتعددية تيارات الفكر والرأي، على أن تكون تعددية سياسية فعلية وليست عددية فقط؛ وإقامة مؤسسات تمثيلية تحرص على الخدمة العمومية والصالح العام، تتمخض عن انتخابات حرة ونزيهة؛ وتأمين شروط تداول فعلي على السلطة في كل مستويات القرار، المحلي، الجهوي، الوطني، وعلى صعيد تداول النخب.
- في بعض شروط النهضة بالفعل
بالإضافة إلى هذه المقومات “البنائية” المشار إليها، يبدو أن المغرب، في هذه الفترة من تطوره التاريخي والسياسي، في حاجة إلى إطلاق “تعاقد اجتماعي جديد ومتجدّد” يتمثّل في:
أولا: توفير أطر لتأمين التعايش الديمقراطي وحرية الرأي ووضع قواعد لأخلاقيات المناقشة والمنافسة والتبادل؛
ثانيا: تشجيع المشاركة السياسية وتوفير شروط تجذير الاختيار الديمقراطي، وليس الاقتصار فيه على المستوى المعياري، وخلق دينامية تنموية اقتصادية أساسها المبادرة والإنتاج والعمل، وتشجيع المقاولات المواطنة، والتوزيع العادل للخيرات؛
ثالثا؛ الفصل الفعلي ما بين المال والسياسة بما يضمن الحد من تنازع المصالح المضرة بمناخ الاستثمار والمنافسة الشريفة، ويضر بأي مسعى لإرساء قواعد “نموذج تنموي”؛
رابعا: تقوية القضاء وتطوير أدائه وحماية استقلاله، وإقامة عدالة ترفع مختلف أشكال المظالم التي يعاني منها المواطن، ويفضح الفساد والمفسدين، ويحترم حقوق الإنسان؛
خامسا: تعزيز أدوار هيآت الضبط وتحويلها إلى فاعل حقيقي في الديمقراطية، من قبيل الهيآت الإدارية المستقلة، التي أطلقها المغرب في أواسط الألفية لكي تلعب، بالفعل، أدوار الضبط وضمان الإنصاف، بل وتتحول، عند الضرورة، إلى سلط مضادة تراقب الإنتاج التشريعي (كما هو حال المحكمة الدستورية)، أو تراقب صرف المال العام (كما هو شأن مجالس الحسابات)، أو تضبط المالية العامة، أو الاتصال السمعي البصري، وغيرها. لأن هذه المؤسسات المستقلة – وعليها أن تكون مستقلة وأن لا تفرغ من مضامينها وأدوارها كما هو حال العديد من المؤسسات التي أنشئت- تعتمد على مرتكزات قانونية تساعدها على ضبط ما من شأنه إنتاج اختلالات تضر بالتوازنات الخاصة بحقل من الحقول الأساسية للدولة والمجتمع، مسنودة في ذلك بقضاء نزيه ومستقل.
سادسا؛ توسيع دائرة الحريات الفردية والجماعية، ودعم هيآت المجتمع المدني، وتقوية أدوار المرأة في مواقع المسؤولية، وتحفيز وسائل الإعلام المكتوبة، السمعية البصرية والإلكترونية حتى يتسنى لها القيام بأدوارها كسلطة مضادة ذات قوة اقتراحية، ومحاربة المواقع الإلكترونية المنتجة للمعلومات المضللة والمشوشة على الرأي العام، وفض النزاعات بالطرق الديمقراطية السلمية، ومعالجة بؤر التوتر بوضوح وتعقل بما يعزز العيش المشترك والسلم المدني، واحترام القانون؛
سابعا؛ تطوير المعرفة وتعزيز وظائف التعليم والبحث الجامعي. وفي ضوء العوائق العديدة التي تواجهها كل المحاولات الإصلاحية لمنظومة التربية والتكوين، واعتبارا للتقارير الوطنية والدولية، والمعاينات الواقعية التي تكشف عن مظاهر الضعف والخلل التي تعرفها، فإن المنظومة تبدو، اليوم، عاجزة على تكوين رأسمال بشري يملك ما يلزم من الكفاءة لمواكبة المجهودات التنموية الوطنية، وتقوية الخبرات المغربية لتنشيط العلاقات الاقتصادية والعلمية بين المغرب وغيره من البلدان، وحتى وإن حصل تكوين هذه الأطر فإن غياب بيئة حاضنة لخدماتهم وجاذبية بلدان أخرى تجعلهم يهاجرون المغرب بأفواج يزداد عددهم سنة بعد أخرى.
وأعتبر أن الرؤية الاستراتيجية التي أنتجها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي تتضمن شروط إصلاح مناسبة بحكم كونها نتاج عمل تشاركي ساهم فيه كل الفاعلين والمعنيين بالمنظومة التربوية. لكن طرق تنفيذها تبدو متعثرة بسبب مقاومات عدة واختلاف التصورات والمواقف من الإصلاح. حتى ولو تمت صياغة بعض مبادئ هذه الرؤية في شكل “قانون إطار” فإن مستقبل المغرب، في هذا الموضوع، يتطلّب “تعاقدا وطنيا كبيرا” حول التعليم تشرف عليه مباشرة أعلى سلطة في البلاد، يبعده عن الاعتبارات الحزبية العابرة، وتجنّب تعريض هذا القطاع الحيوي لقرارات مزاجية تضرّ بكل مجهودات “الإصلاح”، ويشغل كفاءات مؤمنة حقّا بمهمة التربية والتكوين، سواء على مستوى التدريس أو الإدارة التربوية، مع تغيير البرامج والمناهج، وإطلاق عمليات منظمة للتكوين واستكمال التكوين، وخلق سِلم مستدام داخل المنظومة من خلال تأطير وظيفي وقانوني محفز للعاملين في القطاع؛
ثامنا: الإعلاء من شأن الثقافة العصرية من خلال إطلاق مشروع وطني شامل، عملت العديد من المؤسسات الوطنية (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي)، واتحادات وجمعيات وطنية على اقتراح منطلقات هذا المشروع الثقافي ووسائله؛
تاسعا: تطوير مجهوداتإصلاح الشأن الديني بما يكرس قيم الاعتراف والحوار والتسامح والعمل والتضامن، وتحييد الاستغلال السياسوي للرأسمال الروحي للمجتمع، من أية جهة كانت؛
عاشرا: توسيع دوائر إدماج المرأة والشباب من أجل المساهمة الجماعية في مجهودات تقوية الاختيار الديمقراطي، في إطار من حفظ الكرامة والاعتراف بالكفاءات؛
حادي عشر: العناية المواطِنة بشؤون المدينة بحكم كونها تشكل المجال الرئيسي للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والوعي بأنه لا مجال لإنجاح أي إصلاح من دون إصلاح أحوال وشروط تنظيم حياة المواطنين في الفضاء المديني، بما يفترض ذلك من مراعاة كرامة الإنسان في النقل والسكن والتطبيب والترفيه، وأنسنة أحواض عيش المواطنين، في المدينة وفي البادية.
- خلاصة
من المؤكد أن الوعي، كما التحرر من الخطابات والسلوكات السياسوية الضيقة شرط من شروط وضع “نموذج تنموي” حقيقي وإرساء أسس ديمقراطية مُوطّدة. كما لا يكفي الحصول على المواقع الانتخابية الأولى، أو الاتفاق على المرجعية “الدستورانية”(دستور، انتخابات، تداول)، لضمان توطين وتجذير الاختيار الديمقراطي لأنه يتطلب وعي وممارسة فاعلين سياسيين واجتماعيين يمتلكون ما يلزم من الاقتدار والصبر وبُعد النظر والالتزام بخدمة المصلحة العامة والبلاد، وجعل الديمقراطية اختيارًا جماعياً وإطارًا مشتركاً لكل القوى السياسية والفئات الاجتماعية، والتيارات الفكرية القابلة لتقاسم وتعميق قيم المجتمع الديمقراطي.
ولأن للديمقراطية كلفة لا بد من دفعها، فإن رافعات هذا العقد الاجتماعي يستدعي الانخراط في مجهود جماعي توافقي لبناء مجال سياسي عصري، أمَّا التحايل على هذه التطلعات الجماعية الكبيرة أو الالتفاف على أهدافها فإنه سيفضي إلى فرض صيغ جديدة لاستبداد مُقنع أو مكشوف كيفما كان عنوانه، معتمداً في ذلك على تربة اجتماعية وسياسية وثقافية ما تزال راسخة في الأذهان والمسلكيات، بل وسمحت لها الأحداث الجارية بإمكانية بسطها وعرضها في المجال العام.
ولهذه الغاية يبدو لي أن المغرب في حاجة إلى “رجّة”، بل وإلى صدمة وعي فعلية بضرورة إطلاق نهضة شاملة تلتقي حولها كل الإرادات التي تؤمن، فعلا لا ادعاءا، بضرورة تأهيل المغرب وإطلاق حركية جماعية تؤسس لقواعد تنموية بانية حقّا. فالسياق الحالي يفرض فتح المجال للمبادرة الإبداعية ذات التوجه الجماعي، لأنه في هذا التوجه وبه تتفتح الملكات. وذلك بإقصاء الخوف من الحرية وتفجير طاقات الخيال، ومحاربة الشعوذة والفكر السحري، والدخول في كل مغامرة تنزع الإنسان من سلبيته، وتحرره من ثقل مظاهر التواكل والمداهنة والرشوة والغش التي تجثم على الإرادات. ولن يتأتى ذلك دون إطلاق دينامية عامة تساهم في بناء مجال عمومي يتخذ من الإنسان، كوجود وهوية متنوعة، منطلقه وهدفه لتجاوز واقع الإذلال والظلم الذي تشعر به فئات واسعة من المجتمع.