صحافة البحث

[حوار].. عزيز شهير: الإسلاميون يغلّبون عقلانية المصالح وحراك الجزائر إنقلاب “مقنّع”

3٬733

- الإعلانات -

يقف في هذا الحوار، عزيز شهير عالم السياسة والباحث في العلوم السياسية، بالتحليل على مجموعة من القضايا التي يعرفها السياق المغاربي، في وقتنا الحاضر، فمن خلال قراءة ما يحدث في الجزائر والسودان من حراك احتجاجي، يقف على أطروحة بروز “ربيع عربي” جديد في المنطقة، وكيف تؤثر هذه الديناميات على الوضع في المغرب؟ كما نقف مع شهير على مجموعة من القضايا التي تعرفها الساحة السياسية المغربية، من “الردة” الحقوقية التي برزت في الآونة الأخيرة إلى مصير النظام السياسي من خلال المتغيرات السياسية التي برزت مؤخرا. 

– كيف تقرأ ما يجري في الجزائر، هل يتعلق الأمر بثورة يمكن أن تُحدث قطيعة مع الماضي، كما حصل في ثورة فاتح نوفمبر 1954، أم أن الدولة العميقة ممثلة مؤسسة الجيش يمكن أن تلتف على مطالب الشارع وتسرق من الجزائريين ثورتهم الثانية؟

أعتقد أن ما يحدث في الجزائر هو “انقلاب عسكري” مقنّع على شكل تمرد شعبي. الهدف منه هو إعادة تشغيل النظام “من الأعلى” لفتح منظومة سياسية اتسمت بالجمود لفترة طويلة.

أعتقد أن الجيش كان يبرمج لطرد بوتفليقة وأتباعه من خلال دعم تصاعد الاحتجاج على تجديد ولاية خامسة في الانتخابات الرئاسية، حيث ساهم الجنرالات أيضا في إعطاء بُعد شعبي وتلقائي للمظاهرات. الهدف النهائي هو ضمان استمرار الديكتاتورية العسكرية على رأس بلد كان بالفعل على وشك الانفجار.. حتى قبل مجيء “الربيع العربي” حيث وقتها حاول النظام شراء السلم الاجتماعي في الجزائر، مستخدمًا الريع النفطي الذي تسيطر عليه “زمرة من المحظوظين” القريبة من فرنسا.

إن مقارنة انتفاضة الشارع في الجزائر مع ثورة نوفمبر 1954 مهمة إلى حد كبير حيث أن الثورتين ما مازالتان إلى حد ما نابعتين من أزمة الهوية المعادية للاستعمار. في المِخيال الجماعي، يرجع استقرار النظام إلى حد كبير إلى الدعم غير المشروط المقدّم من فرنسا، التي لا تتردد في استخدام نفوذها في التأثير على الحياة السياسية لحماية مصالحها. كما هو الحال بشكل خاص في عام 1991 عندما فاز الإسلاميون في الانتخابات. وستكون هذه هي الحالة المنتظرة عندما يتم تهديد الاستثمارات الفرنسية من قريب أو بعيد، أو إذا كانت هناك فرص اقتصادية سانحة، حتى لو كان ذلك يستدعي تدخلات عسكرية أجنبية.

وإلا كيف يمكن تفسير التطبيع السياسي لباريس مع الجنرال السيسي، الذي أطاح بحكومة الإخوان المسلمين، أو دعم فرنسا للديكتاتور الجنرال حفتر لأسباب مُعلنة هي الحرب ضد الإرهاب، في حين أن الحقيقة هي الحفاظ على المصالح السيادية للجمهورية. سواء في حالة الجزائر، مصر أو السودان، على سبيل الحصر وعدم ذكر أمثلة أخرى من الدول العربية، فالصيغة السياسية التي يمكن تلخيصها هنا في دعم القوى العالمية للأنظمة العسكرية القائمة، في كثير من الأحيان لضمان تحييد الحركات الإسلامية.

غلاف كتاب عزيز شهير “من يحكم المغرب”

لا أستطيع أن أتخيل كيف يمكن للمؤسسة العسكرية أن تلتف على تمرد، الذي ساهمت خفية في تغذيته وتسريعه، من البداية ، تحت رعاية الجنرال القايد صالح. في المستقبل القريب، ستكون استراتيجيته في نهاية المطاف هي لعب ورقة تبخيس واستنزاف الاحتجاجات لدفع، تحت ستار انتخابات مزورة، تدفع مرشح قريب من الجيش إلى الرئاسة، كما كان الحال في البداية مع بوتفليقة.
قد يُحيّد الجيش القوى الإسلامية التي تدعم الاحتجاجات في الكواليس خوفًا من إثارة انتباه منتقديها. إن تجربة الغنوشي في تونس وتجربة مرسي في مصر، على الخصوص، هنا لتذكير مؤيدي “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” بالمخاطر الجسيمة للمشاركة السياسية المؤسساتية. بدون أن يمنع ذلك، عندما يحين الوقت، بعض القوى الإسلامية من الدخول في سباق الانتخابات في الجزائر.

– كيف يمكن أن ينعكس ما يجري في الجزائر على الوضع في المغرب؟

في رأيي، تشير المعطيات إلى أن نظام محمد السادس لن يتأثر بشكل مباشر بما يحدث في الجزائر. المغرب ليس نظامًا عسكريًا، على الرغم من أهمية الميزانية المخصصة للجيش. بالإضافة إلى ذلك، تمكنت الملكية من تكميم المؤسسة العسكرية بعد انقلابي 1971 و1972 . وفرضية الانقلاب العسكري غير مرجحة في الوقت الراهن. وخلافًا للجزائر، اختار نظام الحسن الثاني التعددية السياسية بالتأكيد كواجهة، ولكن ذلك سمح له بمراقبة تطور الحركات الإسلامية على اختلاف مشاربها.

أخيرًا، وعلى عكس النظام الجزائري، ظلت الملكية منذ فترة طويلة تنفذ استراتيجية لاحتواء الحركات الإسلامية، لا سيما من خلال السجن (الجهاديون السلفيين) والردع (العدل والإحسان) والمشاركة (حزب العدالة والتنمية). والأفضل من ذلك، أن الملك محمد السادس يمكن أن يتباهى بوصول إسلامييه من حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة بعد “الربيع العربي” في 2011.

– هل تعتقد أن ما يحدث في الجزائر وفي السودان أيضا بداية موجة جديدة من “الربيع العربي”، وإلى أي حد يمكن أن يؤثر الجيل الجديد من الثورات العربية على الوضع في المغرب؟

في التاريخ، غالبًا ما تستغرق الثورات الشعبية وقتًا لتأكيد القطيعة مع النظم القديمة. أعقبت الثورة الفرنسية عام 1789 محاولات عديدة لاستعادة النظام القديم من قبل الملكيين. إن ما يحدث في الجزائر والسودان يمكن وصفه بأنه “ربيع عربي” جديد على الرغم من أنه استمرار للانتفاضات العربية في عام 2011، والتي نتج معظمها عن رجوع المؤسسة العسكرية إلى الواجهة. كما كان الحال في مصر. كما لو كنا نعيد اختراع “الاستبداد الشرقي” الذي بدأ مع الناصرية والعروبية في العالم العربي.

في البداية ، كان هذا عمل المجلس العسكري في مصر، مع حركة الضباط الأحرار، لتظهر لاحقًا هذه التجربة في كل من سوريا والعراق وأماكن أخرى.

الآن إذا استثنينا الملكيات النفطية في الخليج والملكية الهاشمية، جارة إسرائيل التي تشرف على إدارة مدينة القدس، فإن الدولة الوحيدة التي لا تزال مهددة من قبل الانتفاضة الشعبية هي المغرب. ولتجنب مثل هذا التحول، لا يتوقف مستشارو الملك مطلقًا عن اقتراح فكرة “الاستثناء المغربي”، التي تطرح التجذر التاريخي للمملكة والُبعد الديني للملك، الذي يقدم نفسه كـ”أمير المؤمنين”. ومع ذلك ، بعد اعتماد المراجعة الدستورية لعام 2011 وإضعاف حركة 20 فبراير، أصبح موقف النظام محرجا ومُلتبسا بسبب: تغيير المسار الذي يديره الملك نحو نمط من الحكم السلطوي الذي ينسف الإصلاحات المتقطعة لإرساء الديمقراطية.

– الأحداث في الجزائر، وقبلها الحراك الشعبي في المغرب، خاصة في منطقة الريف وجرادة، وضعا مقولة “الاستثناء المغربي” و”الاستثناء المغاربي” بصفة عامة موضع تساؤلات عميقة، كيف ترد اليوم على أصحاب تلك المقولة التي تم الترويج لها أول الأمر من طرف دوائر فرنسية أو مقربين منها خدمة لمصلحتهم أولا وليس لمصلحة شعوب المنطقة؟

أعتقد أنه سيكون من الضروري تحديد معنى كلمة “استثناء مغربي” المُستخدمة عشوائياً لتبرير ثبات النظام وعدم القيام بتغيير سياسي حقيقي. في تقاليد الفقه الإسلامي، على سبيل المثال، العلماء لا يتجاوبون مع جميع الأحكام التي تبتعد عن القاعدة (الشريعة) وتندرج في إطار الاستثناء. ومن هنا القاعدة: (الاستثناء لا حكم له ) الاستثناء ليس أساس للحكم . في الفلسفة السياسية، يتضمن مفهوم الاستثناء أحيانًا سياسات استثناء تُدرج عمدا في القانون بهدف السيطرة مثل قرار الحسن الثاني الذي فرض حالة الاستثناء بين 1965-1972. الوضع لم يتغير كثيرا مع الدستور الجديد لعام 2011، الذي يسمح في المادة 59 بإعلان حالة الاستثناء مع بعض القيود.

بشكل عام، يشير مفهوم “الاستثناء المغربي” إلى فكرة “الخصوصية التاريخية والثقافية للمملكة”. إن الاستثناء المغربي، الذي يستخدم حسب الرغبة في الدعاية الرسمية، يشير أحيانًا إلى التاريخ الثقافي والهوياتي للمغرب وأحيانًا إلى”السلطة الإلهية” للملك المتواجدة عبر قرون والمتوارثة عبر أجيال. ربما يكون هذا اختراعًا يحاول نشر فكرة أن هذه الخصوصية المغربية ستجعل المملكة بمنأى عن الثورات الشعبية التي قد تؤدي إلى حالات فوضوية كما هو الحال في سوريا واليمن. في محاولة للدفاع عن مصالحهم، في عام 2011، هرعت الدوائر السياسية والأكاديمية الفرنسية، على وجه الخصوص، للدفاع عن فكرة “الاستثناء المغربي”. هم الذين حرّكوا الأرض والسماء ليفرض في اتفاقيات “الكات (GATT) ما تسميه باريس “الاستثناء الثقافي”. وكالعادة ، تم تبني هذا الموقف بسرعة من قبل بعض السياسيين والمثقفين ، المُقربين من النظام، الذين لا يترددون في استدعاء “الاستثناء المغربي” لتبرير عدم ثبات النظام في تسريع الديمقراطية.

أطروحة “الاستثناء المغربي” ، التي تدافع عنها أصوات مطبّلة للنظام، بما في ذلك بعض مكاتب الاستشارات الغربية، لم تعد تقاوم تحليل الواقع الاجتماعي الساحق. حتى في قلب الطبقة السياسية في مجملها، تزداد الأصوات المنتقدة أكثر فأكثر للتنديد بانزلاقات النظام، حتى لو لم يجرؤوا كلهم باستثناء أحزاب اليسار مثل “الاشتراكي الموحد” على استحضار صراحة مسؤولية الملكية. هذا هو الحال بشكل خاص مع زعيم حزب “التقدم والاشتراكية”، نبيل بن عبد الله، الشيوعي السابق، الذي طرده الملك من منصبه الوزاري والذي لم يتردد في إثارة فكرة المستقبل الغامض والمجهول للمملكة.

– إلى حد ما، يبدو أن الجواب الوحيد الجاهز لدى السلطة في المغرب كلما تمت زعزعة مقولة “الاستثناء المغربي” هي المقاربة الأمنية، فإلى أي حد يمكن لهذه المقاربة أن تحافظ على هذا الاستثناء أو تقويه أو تضعفه أو تسرع في إسقاطه؟

المقاربة الأمنية تخدم حركات الاحتجاج وتزيد من إضعاف سلطة الدولة . إن عنف الشرطة والمحاكمات ضد نشطاء الريف سوف يسهم في إضعاف الشرعية السياسية للنظام. يعلم الجميع أن استخدام العنف يولد العنف. بات الناشطون في ريف، الذين اتهموا “بالانفصاليين” من جانب الحكومة، والذين نددوا سلمياً بتهميش منطقتهم، السقوط عرضة الآن لمخاطر السقوط في التطرف والعنف. من زاوية أخرى يمكن اعتبارنشطاء “الحراك” الذين يُطلق عليهم زوراً “المنشقين”، وخصوصًا من قبل بعض المفكرين المتحمسين، نواة لقيادة هوياتية جديدة. في المستقبل، يمكن أن تشكل أساسًا لحركة جهوية هوياتية ريفية تستند الانتماء للمُجتمع المحلي والطائفي، وهو ما يتعارض مع ما يسمى”الهوية الوطنية”.

إن استياء السكان تجاه الظلم (الأمني والقضائي) يؤجج أيضًا دينامية حركات الاحتجاج. باختيار قمع الحركات الاجتماعية، يبدو أن الملك قد وضع حداً للأسطورة التي حاول هو نفسه خلقها: “الاستثناء المغربي”. يمكننا أن نحكم على هذا الموقف من خلال الدعم الشعبي الذي يتمتع به “حراك الريف”، سواء في المغرب أو الخارج. إن العنف الجسدي والرمزي ضد قادة الحركات الاحتجاجية قد يُفضي بالفعل إلى ظهور قيادة احتجاج على مستوى وطني. سيتذكر المغاربة هذا المشهد لفترة طويلة حين تم نقل الزفزافي وبعض نشطاء الريف من الحسيمة إلى الدار البيضاء، على متن طائرة هليكوبتر، مكبلين اليدين ومُغطين الرؤوس. مع حرص السلطات على تصوير المشهد وبثه على شبكة الإنترنت لإثناء المتظاهرين عن الرغبة في مواصلة التعبئة. بعد ذلك بفترة وجيزة ، رأى الجميع فضيحة تصوير الزفزافي وهو عاري وعلى جسمه آثار التعذيب من خلال شريط فيديو بثته غالبا جهة معلومة. ورغم التنديد بهذه الممارسات الهمجية فإن القضية مرت في صمت مع إفلات المشتبه بهم من العقاب.

الأكيد هو أن المقاربة الأمنية أصبحت تسود في جميع القطاعات تقريبًا، على عكس الممارسات الديمقراطية، ومؤخرا اتخذ النظام خطوة جديدة حيث أصبحت وزارة الداخلية الآن هي التي تقود الحوار الاجتماعي!

في رأيي، المقاربة الأمنية ستزيد من سرعة تآكل أطروحة “الاستثناء المغربي”، ولن يكون الأمر بعيدًا عن سيناريو الانهيار الاجتماعي بسبب عدة عوامل، بما في ذلك الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الزاحفة، التي تفاقمت بسبب عرقلة الحوار الاجتماعي، وإضعاف الإسلاميين الملكيين في حزب “العدالة والتنمية”، الذين يرأسون الحكومة منذ عام 2011، وتشويه سمعة القضاء بعد صدور أحكام تعسفية ضد نشطاء حراك الريف، وكذلك تراجع حرية التعبير والعمل الجمعوي، وأخيراً تشنج جهاز الأمن الذي يواجه المظاهرات السلمية باستخدام العنف.

بدأ مجموعة من الملاحظين السياسيين والحقوقيين يتحدثون عن “ردة” في مجال حقوق الإنسان في المغرب، من خلال متابعة الصحفيين وجمعيات المجتمع المدني وأيضا الأحكام الثقيلة ضد نشطاء “حراك الريف” كيف تقرؤون هذه الردة على مستوى التدبير السياسي؟

يُنظر إلى اللا عدالة التي يتعرض لها المغاربة على وجه الخصوص، نشطاء حقوق الإنسان والصحفيين، على أنها خطوة إلى الوراء في مجال الديمقراطية. إن المحاكمات الملفقة والأحكام المتسرعة ضد نشطاء الحراك، والتي وصلت أحيانا إلى 20 عامًا سجنا، تشهد بلا شك على فشل قوات الأمن في محاولة وقف حركات الاحتجاج بالعنف. سيطرة المقاربة الأمنية تتضح من خلال ترقية أو الإشادة بمن كانوا يدافعون عنها خاصة الوالي محمد اليعقوبي الذي تمت ترقيته إلى والي منطقة الرباط، وجهاز الأمن الذي تمت الإشادة بدوره في أحداث الريف في خطاب ملكي رسمي، فيما قٌرأت إحالة الجنرال حسني بن سليمان على التقاعد بأنها رد على التحفظ الذي قيل إنه أبداه على اللجوء إلى الاستخدام المفرط للعنف ضد نشطاء “حراك الريف”.

ويمكننا تقديم المزيد من الأمثلة التي تشهد على انزلاق الجهاز الأمني والقضائي. هناك حالة الصحافي توفيق بوعشرين الذي حُكم عليه بالسجن لمدة 12 عامًا لعدة تهم خطيرة. وكذا حال الصحفي حميد المهداوي الذي يقضي عقوبة بالسجن لمدة ثلاثة سنوات بسبب دعمه لحراك الريف. يضاف إلى هذا، القرار الخطير الصادر عن العدالة ، مؤخرًا ، بتأكيد حل جمعية جذور عند الاستئناف “لاستضافتها برنامجًا نقديا ناقش سير” محاكمة الريف “.

هذه الممارسات تعيدنا إلى العهد البائد حيث تعرض العديد من الصحفيين للاضطهاد على أيدي النظام، مثل الصحفي علي لمرابط، الذي تم منعه من الكتابة عام 2005 لمدة 10 سنوات. كما يتعرض نشطاء حقوق الإنسان للتهديد ويمنعون من القيام بأنشطتهم. هذا هو حال بعض نشطاء حقوق الإنسان، مثل خديجة الرياضي، عضوة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، التي تعرضت للاهانة والتهديد من قبل بعض الأشخاص الذين قدموا أنفسهم بأنهم يدافعون عن النظام، بينما كانت تشارك في مؤتمر دولي حول حقوق الإنسان، عُقد في فرنسا قبل بضعة أشهر. وهذا أيضا هو حال المؤرخ المعطي منجب، الذي تم تهديده بتعليق عمله في الجامعة لمشاركته في نشاط علمي في فرنسا.

أخيرًا، لا يمكننا تجاهل المعاملة السياسية والأمنية الكارثية التي عومل بها “الأستاذة المتعاقدين” الذين يطالبون بترسيمهم في الوظيفة العمومية، وبسبب تصميمهم المنظم والسلمي في الشارع، حيث أجبروا رغم الصعوبات، الحكومة على التخلي عن بعض الإجراءات التأديبية الإدارية ضد بعض زملائهم. وبذلك يستمر كفاحهم ضد السياسيين الذين يبشرون بخصخصة قطاع التربية والتعليم العمومي في عصر الرأسمالية المالية المخزنية الجديدة.

للتذكير فقد أدى القمع العنيف للأساتذة السلميين إلى تضامن وطني ودولي كبير. يتذكر سكان العاصمة أيضًا المشهد الذي لا يُنسى الذي حدث في أبريل الماضي في الرباط، حيث تمت مواجهة الأساتذة بخراطيم المياه التي تصدوا لها بصدورهم العارية متحدين قوة الأمن. وهو حدث يزيد انعدام الثقة اتجاه السلطات. كل هذا يجعل العلاقة هشة بين والمحكومين والحكام.

– هل يعتبر ذلك نوع من رد الفعل من قبل “نظام سياسي” بدأ يشعر بتراجع الثقة في مؤسساته، بالإضافة إلى ضعف الوساطة التي كان يمكن أن تقوم بها الأحزاب السياسية؟

على مشارف “ربيع عربي” جديد، يمر المغرب بأزمة سياسية كبيرة تنعكس في الاستياء الاجتماعي وأزمة الثقة في المؤسسات السياسية. سواء في صفوف الأوساط الشعبية أو الغنية، كل شخص يشعر بالإحباط ويعيد جزء كبير منه إلى أزمة الحكم. يمكن أن ندعم هذا الاستنتاج بعنصرين اثنين وهما: الاحتجاجات 2.0 واستياء الشباب.

من ناحية، يجب أن نتوقف عند حدث كان نادرا للغاية في الماضي: فقد أصبح الملك معرضا، في السنوات الأخيرة، لموجة من الانتقادات الحادة، ولا سيما من جانب متصفحي الإنترنت على الشبكات الاجتماعية. دون أن نعد عدد “اليوتوبيين” المناهضين للنظام الذين يتبعهم مئات الآلاف ، بغض النظر عن وجاهة ودقة خطابهم من عدمه.

من ناحية أخرى، من الواضح أن الشباب على وجه الخصوص يظهرون استياء سياسيًا غير مسبوق اتجاه الحكم من خلال العديد من الأبحاث الجادة، بما في ذلك التي اهتمت بمقاطعة الانتخابات. وفي الوقت نفسه، وبينما تظهر الأرقام المتعلقة بالهجرة غير الشرعية (الحريك) بين الشباب المغاربة ارتفاعا غير مسبوق، أعلن تقرير سريالي منجز من قبل المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، يرجع تاريخه إلى سنة 2018، أنه بعد إجراء مسح وطني، يبدو أن “الشباب الذين تمت مقابلتهم يقولون إن لديهم ثقة قوية بمؤسسات البلد”! القيام بهذا النوع من المغالطات “العلمية”، يعتقد هذا المركز الملكي للأبحاث أنه يخدم النظام، في حين أنه في الحقيقة يستهزأ بالصورة المقلقة للوضع الاجتماعي الذي لا يمكن الدفاع عنها بل التنديد بها.

– لم يبق على الانتخابات البرلمانية سوى سنتين في ظل تراجع الحزب الإسلامي على مستوى تدبير الزمن الحكومي، كيف يمكن قراءة المرحلة المقبلة ما قبل وما بعد انتخابات 2021؟

بداية، سيكون من الضروري التذكير بفكرة مراجعة المادة 47 التي بموجبها يختار رئيس الدولة رئيس الحكومة من بين تحالف أو ائتلاف حزبي يسيطران معاً على أكثر من نصف المقاعد ويتحدون حول برنامج حكومي. أعتقد أن هذا النقاش الانتخابي لا أساس له ولا معنى له لثلاثة أسباب رئيسية: من ناحية، الملك ليس لديه مصلحة في مراجعة المادة 47 من الدستور. الخطر هو أن النظام يمكن أن يتعرض لنقد المغاربة الذين قد يتهمون الملكية بعدم المصداقية بسبب الافتقار إلى اتساق وصرامة الإصلاحات. ومن ناحية أخرى، فإن الرغبة في مراجعة المادة 47 تنبثق من بعض الزعماء السياسيين الذين يحتاجون إلى الشرعية، مثل إدريس لشكر الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والذين يتجاهلون المشكلة المركزية المرتبطة بنظام التصويت النسبي. مما يمنع ظهور حزب أغلبي. السبب الثالث يأتي من قراءة تقنية لبيان القصر الملكي الذي أنهى مهام رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران. وهكذا يبدو أن المؤسسة الملكية ليست لديها خطط لإعادة النظر في المادة 47 إلى الحد الذي يعتبر فيه بيان قرر إزاحة بنكيران، خيارًا فقط من بين خيارات أخرى متاحة لرئيس الدولة.

بالفعل، فقد بدأت تتصاعد بعض الأصوات السياسية مطالبة بإعادة النظر في الفصل 47 من الدستور، الذي يحدد تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي يتصدر نتائج الانتخابات، وذلك من أجل فتح المجال لتعيين رئيسا للحكومة من الحزب الثاني أو الثالث أو ربما الشخصية التي يختارها الملك، ما هي خلفيات هذه المطالب في رأيك؟

قال عالم السياسة جان لوكا ذات مرة إن الإسلاميين هم أفضل حلفاء النظام الملكي. أود أن أضيف هنا أن النظام الملكي ليس لديه مصلحة في دمج الحركات الإسلامية، بل في التعامل معها وفقًا للمصالح والطوارئ السياسية. في المغرب ، ما يسمى بـ “الإسلاميين” هم في النهاية سياسيون متعطشون للسلطة على استعداد للتفاوض، بدرجات متفاوتة، على صيغة سياسية غالباً ما تهيمن عليها “عقلانية المصالح” على حساب “عقلانية القيم”. وكمثال على ذلك، الالتزام الخفي من قبل حزب العدالة والتنمية على طريق العلمنة (sécularisation) من حيث التمييز (وليس الفصل) بين السياسة والدين. بمعنى آخر، يمتلك الحزب ذي التوجه الإسلامي القدرة على التكيف بحيث يكون مستعدًا لتقديم تنازلات حول القيم الأخلاقية والدينية (الحجاب، الاختلاط، استهلاك الخمور…). وعلى نفس المنوال ، في عام 2011، قام حزب العدالة والتنمية بعزل نفسه عن حركة 20 فبراير وأعلن دعمه للمراجعة الدستورية التي بدأها الملك. علاوة على ذلك، خلال الولايتين الحكومِيتين، انخرط حزب العدالة والتنمية في إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية لا تحظى بشعبية، مما كلف الحزب بالتأكيد بعض شعبيته من حيث الأصوات الانتخابية. أذكر كمثال هنا، إصلاحات صندوق المقاصة، وصندوق التقاعد، ونظام الوظيفة العمومية (التعاقد) ، والمديونية المفرطة، وقمع حركات الاحتجاج والحريات العامة …

من حيث بنية الفرص (structure d’opportunité)، في رأيي هناك هيمنة لعبة الـ”مجموع الإيجابي”(somme positive) حيث الطرفان، الملكية والبيجيدي، فائزان: استفاد حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى تسيير الشؤون العامة حيث تمكن من تقوية تجربته في مجال الديمقراطية (apprentissage démocratique) وتشكيل شبكاته السياسية (political networking). وقد تم ذلك كجزء من التطبيع السياسي مع السلطة، التي رفضت الدعوة إلى حل حزب العدالة والتنمية بعد تفجيرات 16 مايو عام 2003.

من جانبه، تجنب النظام الملكي مخاطر الانتفاضات الشعبية وتمكن من ضمان استدامة النظام. مسألة دمج الحركات الإسلامية ليست قضية سياسية وأكاديمية كبرى. في رأيي، التحدي الأهم أمام الحكومة هو تجنب الانهيار ووضع “صيغة سياسية” صحيحة وكافية لتلبية مصالح الفاعلين . الهدف هنا هو أن تكون القيادة الإسلامية leadership islamiste قادرة على بناء تحالفات توافقية بأقل الخسائر والتنازلات الممكنة تماشيا مع قواعد اللعبة التي فرضتها الملكية.

الواضح أن المُستهدف من هذا النقاش هو حزب “العدالة والتنمية”، فهل يعني ذلك فشل السلطة في احتواء هذا الحزب في الميدان، وبالتالي بدأت من الآن في التفكير للتعامل مع كل السيناريوهات المقبلة فيما لو تصدر الانتخابات التشريعية المقبلة؟

كما ذكرت سابقا، انخرط حزب العدالة والتنمية في عملية تطبيع سياسي منذ تسعينيات القرن الماضي. خلال دخوله اللعبة السياسية المؤسساتية، الحزب وصل إلى مرحلة هامة من خلال تولي رئاسة الحكومة في عام 2011. وكل هذا بتكلفة تبدأ من الاستنزاف السياسي، والتعرض للنقد الإعلامي والتعامل مع القيود وحدود المناورة المفروضة على إدارة الشؤون العامة من طرف الملكية، مثل البلوكاج السياسي المطبوخ أو طرد زعيم البيجيدي الكاريزماتي عبد الإله بنكيران، وحاليا محاكمة حامي الدين بعد تبرئته في قضية قتل أيت الجيد.

بالنظر إلى هذا، يمكننا أن نعتبر أن حزب العدالة والتنمية يواجه بالفعل صعوبة في أداء دوره على رأس الحكومة وأنه يفقد مصداقيته. لا يمكن إنكار ذلك. علينا أن ندرك أن حزب العدالة والتنمية عاد من بعيد وهو الآن في طور تعلم أساليب الإدارة العامة. وهذا سيمكنه بالتأكيد من ضمان “صناعة نخب” وأيضا بناء شبكات وطنية ودولية للنفوذ. قبل الانتخابات المقبلة، تعرض حزب العدالة والتنمية لضربة على مستوى الثقة وانعكاساتها على اتجاهات تصويت الناخبين خاصة، بعد القرارات غير الشعبية التي اتخذها الحزب، لا سيما في المجال الاجتماعي. ومع ذلك، قد يرى بعض المؤيدين للبيجيدي هذا كدليل على التفاني أو حتى القوة أو الشعبية. ومع ذلك، بالنظر إلى تدهور الطبقة السياسية ، باستثناء الأحزاب “اليسارية” المعارضة التي تحاول جاهدة تشكيل تكتل سياسي الآن، يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية يمكن أن يأمل في إعادة انتخابه على رأس الحكومة مجددا.

مع ظهور “الربيع العربي” الجديد ، أعتقد أن النظام سيكون له مصلحة أيضًا في رؤية حزب العدالة والتنمية يفوز في الانتخابات المقبلة ، وهو ما يضر بمنافسي حزب “المصباح” الذين يناورون من أجل الوصول إلى الحكومة بكل الأشكال خاصة أخنوش (حزب التجمع الوطني للأحرار).

بغض النظر عن مطالب من يسعون إلى إعطاء الملك صلاحيات أكبر في تعيين رئيس الحكومة، ألا يعتبر ذلك تراجعا عن واحد من المكتسبات الديمقراطية الصغيرة التي حملها دستور 2011، وتمهيدا لعودة السلطوية في أبشع صورها مجسدة في ملكية تنفيذية بصلاحيات دستورية واسعة؟

النظام المغربي نظام سياسي هجين، تتخلله في الوقت نفسه، جينيالوجيا الاستبداد ومحاولات متفرقة ومحتشمة لإرساء الديمقراطية. بعد عام 2011، عادت الملكية إلى تبني نوع من ردود الفعل السلطوية القديمة. في هذا التوجه الإيديولوجي الجديد، كانت مدعومة من قبل طبقة سياسية في الغالب منحازة إلى قضية النظام، صحفيين ومثقفين تحت الأوامر، يتمتعون بمزايا ومكافآت المخزن، وفي المقابل، لا يترددون في تطهير الملك من كل المسؤولية السياسية وأيضا تبرير الانجرافات السلطوية للنظام. دون الخوض في النقاش المعروف إلى حد ما حول أنواع إصلاح النظام الملكي (البرلماني أو التنفيذي أو الدستوري) ، أعتقد أن التحدي الآن هو التركيز على مسار النظام الذي يتجه إلى ما يمكن أن نسميه “الانفجار الاجتماعي”(implosion sociale). . كما يمكنني أن أقول إن النظام مزقته أزمة كبيرة قد تؤدي إلى انتفاضات شعبية لا يمكن التنبؤ بها.

يمكن أن تسمح لنا ثلاثة عوامل على الأقل بتأكيد هذه الملاحظة، وهي: أولاً، ” الاستقالة النسبية للنخب الوسيطة”، التي يمثلها المسؤولون المحليون، المنتخبون والزعماء النقابيون والفاعلون المُجتمعيون، ثم توترات النزاعات حول الهوية وخاصة الأسئلة المتعلقة باللغة والثقافة الأمازيغية، وأخيراً، الاستخدام السياسي للقضاء والاستخدام المكثف للقمع من طرف أجهزة الأمن، لا سيما عندما يُنتج عنه تأثير غير مرغوب فيه، مثل تضخيم الحدث إعلاميا وتصميم المتظاهرين على المواصلة.

في الوقت الحالي، يمكن القول أن هذه الآليات الثلاث التي تولد انتفاضات شعبية تعمل بدرجات متفاوتة وتعتمد على الاحتمالات الطارئة للمظاهرات (la contingence) . ويكفي أن يتوفر عنصر الشرارة، مثل وفاة ناشط تعرض للضرب أو قام بإضراب عن الطعام، لاندلاع انتفاضة شعبية في أي وقت.

في حالة التمرد الشعبي، يمكن للملكية بالطبع أن تعتمد على “نخب السلطة” التي تم استدعاؤها للإنقاذ في عام 2011 للمشاركة في اللجنة الاستشارية المسؤولة عن مراجعة الدستور. كخادمين مخلصين (serviteurs fidèles) ، وفي حالة حدوث أزمة كبيرة، ينبغي على هؤلاء أن يُعبّؤوا مرة أخرى كل قدرتهم حتى يتمكن النظام من المحافظة على سيطرته على الطبقة السياسية والمحتجين.

المشكلة التي ستنشأ في ما بعد هي أنه في حالة فشل هذه “النخبة الوسيطة”، أو ربما بعد انسحابها لسبب أو آخر، في الوصول إلى مخرج من الأزمة (crisis exit)، قد تصبح آنذاك الملكية في مواجهة مباشرة مع المتظاهرين. لأنه في تشكيل مبني على القطيعة (configuration de rupture)، سيتم إضعاف النظام الملكي، الذي كان متفوّقا في فن التوافقات، وسيؤدي هذا فجأة إلى اختيار لعبة “مجموع صِفر” (somme nulle)، يعني ما يربحه واحد يخسره الآخر، وهذا يعني إصرار الملكية على القيام بحد أدنى من التنازلات، لكي لا أقول رفض القيام بأي تنازل(déféction). ولهذا السبب، سيجد الملك وأتباعه صعوبة في التخلي عن فكرة النجاح المؤكد (infilliabilité) وحصانة الملكية (invulnérabilité). وهنا بالضبط توجد المُخاطرة الكامنة في مركزة كل السلط في يد الملك، الذي ستوجه له أصابع المسؤولية السياسية. أليس هو الفاعل الرئيسي في الحياة السياسية الذي يهيمن على المجال الديني والجهاز العسكري وحتى عالم الأعمال. الوقت سوف يخبرنا بالتأكيد.

حوار نشر لأول مرة على موقع لكم2، نعيد ننشره على موقع mupresse لتعميم الفائدة.