صحافة البحث

نشأة الصحافة بالمغرب (1): جريدة المُستعمر استمرت إلى سنة 1973 “كأن الإستقلال لا يشمل الإعلام”

- الإعلانات -

 صدرت في المغرب سبع عشرة جريدة ناطقة بالفرنسية بين 1870 و1912 تاريخ بدء الحماية. ظهرت ثلاث عشرة جريدة في طنجة وأربع في الدار البيضاء. كانت البداية من طنجة لعدة أسباب منها الموقع الجغرافي والساكنة المتنوعة للمدينة، وكونها عاصمة المغرب الدبلوماسية منذ 1780، إضافة إلى ربط المدينة بالتلغراف مع وهران منذ 1901. وقد لعبت معظم تلك الجرائد المقربة من المفوضية الفرنسية في طنجة، دورا هاما في تمهيد الأرضية للإستعمار أو ما سمي بالتوغل الهادئ في المغرب. وهذا حسب القسم الأول من كتاب La presse marocaine d’expression fronçaise des origines à 1956 للأستاذ جامع بيضا. 

ويوضح المؤلف أنه قبل وخلال القرن التاسع عشر، كان التواصل بين مكونات المجتمع المغربي يقوم على أربع قنوات:

أولا: البراح الذي يتجول رافعا صوته بالأخبار الجديدة في الأحياء والأسواق حيث تتبادل السلع والمعلومات. 

ثانيا: المسجد والزاوية والمدرسة العتيقة حيث يتجمع المصلون والمتعلمون لتلقي الأخبار ومناقشة قضاياهم.

ثالثا: الرقاص، أي ساعي البريد الذي ينقل الرسائل العامة والخاصة، وقد نظم الحسن الأول مهنة الرقاص سنة 1892 لقطع الطريق على البريد الأوروبي.

رابعا: القوافل والتجار والحلايقية الجوالون، والذين ينقلون الأخبار  بين أطراف المغرب، وحتى بين المغرب والخارج.  

وقد كانت هذه الشبكة الشفوية لتبادل المعلومات فعالة، سماها صحفي فرنسي تلغراف غير مرئي، وأضاف “لذا لم يحتج المغاربة إلى الصحافة” ص32.

رغم هذا الإعتقاد فقد دخلت الصحافة المغرب منذ عام 1860، حين أسس روائي إسباني صحيفة في تطوان وافتخر بها لأنها ستنشر أنوار غتنبرغ على أرض إفريقيا ص33. 

جريدة Tanger Gazette

بعد ذلك ظهرت أول جريدة ناطقة بالفرنسية على أرض المغرب في يوليوز عام 1870، على يد يهوديين في حماية بريطانيا وعلى صلة بالرابطة الإسرائيلية العالمية في باريس. في عددها الأول، هاجمت Tanger Gazette المخزن وفرنسا وإسبانيا. وقد غضب الوزير الفرنسي المفوض في طنجة لأن الجريدة أشارت إلى مواجهات على الحدود الجزائرية المغربية، فسارع إلى بركاش ممثل السلطان في طنجة يطلب منه منع الجريدة، وقد عجز بركاش عن المس بالمحميين البريطانيين، لكن الجريدة لم تستمر، لأن الوزير البريطاني المفوض تخلى عن محمييه بعد ذلك لأنه اعتبر أن تلك الجريدة الأسبوعية خطرة على بلد مثل المغرب ص37.

بعد ذلك ظهرت جريدة Le Réveil du Maroc وقد كانت تحصل على دعم من المفوضية الفرنسية ومن بنك فرنسي له فرع في طنجة. فور صدورها شرعت تلك الجريدة تؤدي مهمة مزدوجة، أولا تمجد فرنسا وتدعوها إلى إدخال القليل من الحضارة إلى المغرب، أي نشر اللغة والقيم الفرنسية. ثانيا تهاجم المخزن وموظفيه، تهين المشاعر الدينية للمغاربة لكي تخرج المغرب من ظلمات القرون الوسطى ص45، تحرض على المغرب لأنه لا يفهم إلا لغة القوة، وهي التي ستلقنه الدروس وتدخله إلى عالم الإصلاحات، والمقصود بها أن تفتح البلاد أبوابها طواعية للرأسمال والمقاولات الأوروبية كما حصل لتونس والجزائر.

جريدة le Réveil du Maroc

أمام هذه الحملة، سافر بركاش عام 1884 إلى باريس ليحتج لدى الحكومة الفرنسية على ما ينشر، وقد طالبت باريس من الجريدة أن تلطف نبرها. لكن المسألة لم تنته، فقد أنشأت بريطانيا جريدة “المغرب الأقصى” لتدافع عن مصالحها وتتدخل في شؤون المغرب وتهاجم السياسة الفرنسية، وقد كانت لتلك الصحف حرية مطلقة في انتقاد موظفي المخزن وتلطيخ حكم السلطان، وقد اتصل بركاش بالوزير البريطاني المفوض، وأخبره أن المخزن يرحب بظهور الصحافة لأنها توقظ الأذهان ثم طالب بمنعها كلها لأنها تنشر الفتنة ص48.

انقسم ممثلو الدول الأوروبية بين مؤيد ومعارض للمنع، وشكل الصحافيون نقابة عام 1886 للدفاع عن مصالحهم، وقد طالبت السفارة البريطانية المخزن بسن تشريع ينظم الصحافة ص52، لكنه رفض لأن تشريع الصحافة، على ما هي عليه، سيكون اعترافا بالامر الواقع، وقد اعتبر الحسن الأول الصحافة بدعة. ص52.

 ويمكن إجمال خصائص الصحافة الطنجية في المغرب قبل الإستعمار في: 

1-  كانت بعض الجرائد تتلقى دعما ماليا وتوجيها على صعيد الخط التحريري وأخبارا من بعض القناصل الفرنسيين. 

2- وفرت الحرية المطلقة والمنافسة الإستعمارية فرصة للصحافة لتكون مرآة عاكسة للصراع حول “المسألة المغربية”

3- كانت المنابر الصحفية تدافع عن المصالح الأوروبية وتحرض الحكومات الأروبية على المخزن.

4- مست الصحافة بالسيادة المغربية. 

5- لم تأخذ صحف طنجة مشاعر وقيم المغاربة بعين الإعتبار. 

6- كانت تنتقد موظفي المخزن وتسبب إزعاجا شديدا للسلطان. 

7- تعاونت الصحافة مع البعثات العلمية والتبشيرية والطبية والتعليم لتنفيذ سياسة التوغل الهادئ.

8- عبأت الرأي العام الفرنسي لمساندة الإحتلال.

9- حثت المعمرين على الاستيطان في المغرب.

10- حاولت إقناع المغاربة بمنافع الاستعمار،  وقد أنشأت بعض المفوضيات في طنجة صحفا ناطقة بالعربية لمخاطبة المغاربة. ص60، واعتمدت فرنسا على الصحافيين الجزائريين لاختراق الأوساط التي لا تقرأ اللغة الفرنسية في المغرب.

هذه هي المرحلة الطنجية، وقد تميزت بمحاولة المخزن المناورة بين المتنافسين للمحافظة على استقلال المغرب، أما بعد اتفاق الجزيرة الخضراء سنة 1906، فقد بدأ الخناق يضيق، إذ أبعدت فرنسا منافسيها فاستفردت بالمغرب، احتلت الشاوية فامتد النشاط الصحفي إلى الدار البيضاء. وإذا كانت صحافة طنجة قد تأسست على يد اليهود فإن دورهم كان ضعيفا في صحافة البيضاء التي أسسها فرنسيون قدموا في ركاب الجيش من فرنسا أو من الجزائر، وقد كان لفرنسيي الجزائر دور مهم في الصحافة بالمغرب، وكانت لهم نظرتهم الخاصة للحماية. ص87. 

 وقد أسس الإحتلال العسكري أول جريدة بالبيضاء وهي “La Vigie Marocaine” سنة 1908.  وكتب الجنرال الذي كان يحكم الشاوية في العدد الاول مقالا بعنوان “أصدقاؤنا، أعداؤنا” حدد فيه للمعمرين طرق التعامل مع المغاربة. وقامت صحافة البيضاء بدعم عمليات الإحتلال ووصفت المقاومين بأنهم قطاع طرق. ص65.

صورة من إعلان أول جريدة بيضاوية La Vigie Marocaine

المغاربة والصحافة    

 بعد فشل المغرب في منع صدور الصحف في طنجة، لأن مصدريها أجانب أو محميين لا تطالهم القوانين المغربية، غير المخزن خطته وتبنى سياسة الإحتواء بدل المواجهة، ومن الإجراءات التي قام بها:

1- بدأ المخزن يستقطب بعض الصحفيين للدفاع عن مصالحه وتعظيم السلطان وفضح الضغوط الإستعمارية والرد على الصحف المعادية وتقارير الجمعيات الأوربية، ومنها جمعية Howard التي أصدرت تقريرا في 1893 حول وضعية السجون المغربية، وقد ردت الصحيفة الموالية للمخزن بأن ذلك التقرير فيه مبالغات وأن الجمعية أداة في يد الحكومة البريطانية. ص54. وقد نجحت سياسية الإستقطاب بفضل تعدد الصحف في طنجة في نهاية القرن التاسع عشر.   

2- أنشأ الحسن الأول مكتب الصحافة الذي يقدم للمخزن ملخصات للمقالات التي تمس المغرب والصادرة سواء في طنجة أو في الخارج.

3- ترسل بعض المفوضيات مقالات تخدم مصالحا للمخزن.

4- كلف المخزن بعض الأشخاص وأحيانا بعض الصحافيين ليمدوه بمقالات تتناوله.

5- لجأ المخزن إلى صحافة طنجة لتمرير بلاغات تدافع عن مصالحه. 

6- فكر المخزن في إصدار جريدة تدافع عن مصالحه، إلا أن بعض العلماء المحيطين بالسلطان عرقلوا المشروع وصدرت مقالة ساخرة بعنوان “الضرب بالزراويط على رأس من يقرأ الكَوازيط” (أي الجرائد بـ Les gazettes). 

7- تدخل المخزن لدى بعض المفوضيات في طنجة للجم بعض الصحف التي تنشر مقالات تشوش على “إخلاص المغاربة لسلطانهم”، وكان رد المفوضيات أن حرية الصحافة تمنع متابعة الصحافيين.

8- نشر السلطان مولاي حفيظ رسالة في جريدة  Le Matin الصادرة في باريس 17-03-1908 يحتج على تدخل الجنرال الذي يحكم الشاوية في صراع مولاي عبد الحفيظ ومولاي عبد العزيز على السلطة. ص83

9- نقل السلطان مقر صدورجريدة الفجر من طنجة إلى فاس، لكنها توقفت بعد عددين.

10- كانت النخبة غير المخزنية مهتمة بالصحافة، من ذلك شغف أتباع الزاوية الكتانية بالصحافة، وقد لعبوا دورا مهما في خلع مولاي عبد العزيز وتنصيب مولا حفيظ. وقد شبه شيخ الزاوية الكتانية تأثير الصحافة بالطاعون ص84.  

 هكذا بدأت الصحافة الناطقة بالفرنسية بالمغرب إلى حدود 1912، وقد كان المغرب موضوعا لها وليس طرفا فيها، صحافة أنشأها اجانب بلغة أجنبية في سياق تاريخي تميز بصعود الإستعمار، كانت صحف رهينة بيد القوى الإستعمارية، وكلما تزايدت المنافسة بين هذه القوى إلا وتزايدت الصحف التي تتدخل في شؤون المغرب، وقد لعبت تلك الصحف دورا خطيرا في تاريخ المغرب رغم عائق اللغة، وأثرت على نشأة الصحافة الوطنية لاحقا، ولا أدل على ذلك من كون أول جريدة صدرت في الدار البيضاء عام 1908 قد استمر صدورها إلى 1973 ص67 كأن الإستقلال لا يشمل الإعلام. 

 بعد 1912 توافد المعمرون ورؤوس الأموال على المغرب، مما وفر موارد بشرية وبنية تحتية ساعدت في نمو الصحافة، لكن المغاربة منعوا من الدخول في هذه الصيرورة بسبب ظروف الصراع وبدعوى عدم كفاءتهم لاستخدام السلطة الرابعة.