صحافة البحث

حين يؤدي القمع إلى إذكاء النشاط السياسي: نموذج “حركة 20 فبراير”

- الإعلانات -

ما الذي يفسر استعداد بعض الأشخاص للاحتجاج ضد الأنظمة السلطوية؟ وكيف يؤثر القمع على رغبتهم في الانتفاض؟

إن ثورات الربيع العربي التي اندلعت في 2011 تبرز الآثار المتباينة لأسلوب القمع على نزعة الاحتجاج. إذ يبدو للوهلة الأولى أن القمع يؤتي أُكله: عندما لا تدعم الآلة القمعية (الجيش أو الشرطة) النظام الحاكم، فإنه يسقط (كما حدث في تونس ومصر)، وعندما تقف هذه الآلة إلى جانبه، فإنه يستمر (كما هو الحال في البحرين).
ومع ذلك، تُظهر حالتا سوريا والمغرب أن القمع يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. ففي سوريا، أسفر اعتقال وتعذيب التلاميذ الذين قاموا بالرسم على الجدران عن اندلاع موجة من المظاهرات في مارس من سنة 2011، قابلتها قوات الأمن بفرض إجراءات قمعية، حيث أطلقت النار على العديد من المتظاهرين العُزل وأردتهم قتلى، وهو ما ترتبت عنه حلقة من المقاومة والقمع ما فتئت تتسع وتنفلت. أما في المغرب، فإن الملك قد حظي بالإشادة نظراً لتجنبه فرض القمع بيد من حديد، كونه سارع إلى تقديم مجموعة من التنازلات – وإن كانت بسيطة – مصحوبة بحملة قمعية محدودة وانتقائية.

ومن خلال دراسة “حركة 20 فبراير”، فإن أدريا ك. لورنس، وهي باحثة في العلوم السياسية بجامعة “جونز هوبكينز”، تحاول فهم الدوافع التي تجعل بعض الأشخاص على استعداد للمخاطرة والاحتجاج رغم التهديدات القمعية التي تواجههم، بمعنى أنهم يخاطرون بأنفسهم بشكل كبير مقابل فرص نجاح ضئيلة؛ كما أنها تسعى إلى فهم الأثر الذي يخلفه القمع على النزعة الاحتجاجية.

للإجابة عن هذه الأسئلة، اختارت الباحثة استهداف المحرضين على إطلاق الحركة وأبرز الفاعلين في اندلاع المظاهرات داخل البلدان التي تحكمها الأنظمة الاستبدادية. أولئك الذين إذا تم ثنيهم عن التحرك، فإنه من غير المرجح أن تكون هناك أي مظاهرات حاشدة.

وعلى هذا الأساس، أنجزت لورنس بحثاً ميدانياً في الرباط على وجه الخصوص وذلك في الفترة الممتدة بين شتنبر 2011 ومارس 2012، حيث أجرت أزيد من 50 مقابلة مع قادة الحركة وشاركت في مناقشات على الإنترنت مع ناشطين وأشخاص لم يشاركوا في المظاهرات.

هؤلاء الأشخاص شاركوا فيما بعد في تصميم استطلاع للرأي وتوزيعه على منصة “فيسبوك” بشكل يمكن من إضفاء المزيد من الوضوح والموثوقية على هذه الدراسة: إذ إن رابطاً ينشره صديق يبدو أقل إثارة للشك من رابط يتم نشره عن طريق الإعلانات. وقد كان استطلاع الرأي متوفراً على الإنترنت طيلة الفترة الممتدة ما بين يونيو وشتنبر 2012، وهو ما ترتب عنه ملء 160 استبياناً. وقد كان الهدف من استطلاع الرأي هذا مقارنة المحرضين على إطلاق الحركة بأشخاص آخرين يشبهونهم وليس اختيار عينات عشوائية من الساكنة، شأنه في ذلك شأن المقابلات النوعية.

وتُظهر البيانات التي تم جمعها أن النشاط السياسي ينتقل من جيل إلى آخر: فالمحرضون في “حركة 20 فبراير” ينحدرون في الغالب من أسر عانت في السابق على أيدي النظام.

كما تُبين النتائج أن القمع قد يساهم في استمرار دعم الحراك الاجتماعي، وهو ما ينطبق على القمع الذي تعرضت له “حركة 20 فبراير” والذي عزز دعم الاحتجاجات التي لحقتها بين صفوف الأشخاص الذين تربطهم علاقات اجتماعية بالمحرضين.

معاناة أُسَرية سابقة من القمع تدفع المحرضين إلى النشاط السياسي ومن ثم إلى العمل الجماعي

عند انطلاق الاحتجاجات في تونس، كان العديد من المحرضين المغاربة قد ناقشوا المشاكل الاقتصادية وممارسة السلطة من قبل النظام على إحدى صفحات “فيسبوك” التي تحمل اسم “الشباب يتناقشون مع الملك”. وقد قام هؤلاء المشاركون بالإضافة إلى العديد من المنظمات بتنظيم اعتصام للتعبير عن تضامنهم مع الشعب التونسي. وفي شريط فيديو تعبوي، يشرح مغاربة من مختلف أطياف المجتمع الدوافع وراء تحركهم في 20 فبراير. وقد حظي الفيديو بمتابعة واسعة على منصة “يوتيوب”، ما أدى إلى خروج المتظاهرين إلى الشوارع في أزيد من 50 مدينة مغربية، واستمرت المظاهرات في التوسع خلال الأشهر التالية لتبلغ ذروتها في أبريل 2011، حين بلغ عدد المدن المغربية المعنية 110.

وأمام هذه الاحتجاجات الحاشدة، تحركت الدولة على ثلاث مراحل: حيث بدأت بالتقليل من حجم التعبئة، وقامت بإدانة الجهات المنظِّمة عبر وسائل الإعلام الحكومية وبرفض الترخيص لتنظيم المظاهرات، وإن سمحت بها. إلا أنه ومع استمرار الاحتجاج، أعرب الملك في خطوة ثانية عن استعداده للاستجابة لمطالب المتظاهرين وأعلن في 9 مارس عن مشروع إصلاح دستوري. وأخيراً، ومنذ ماي 2011، تعرض المتظاهرون لقمع شديد خلال الاحتجاجات، وتمت مضايقتهم في الشهور الموالية من قبل مؤيدي النظام. واعتُقل عدد كبير من القياديين، وحُكم على بعضهم بالسجن لانتقادهم الشرطة والدولة.

وقد أجرت أدريا لورنس مقابلات مع عدد من هؤلاء المحرضين، وأظهرت أن أغلبهم ينحدرون من أسر عانت سابقاً من النظام بسبب أنشطتها السياسية، ما أثر على قرارهم بالمشاركة في النضال، وذلك قبل ظهور “الحركة”. وقد تحدث جميع المشاركين عن شعورهم بضرورة “القيام بأمر ما”، وهو ما دفعهم للالتحاق بمنظمات للدفاع عن قضايا معينة كمسألة اللغة الأمازيغية وحقوق المرأة وحقوق السجناء. كما سنحت للمنظمات التي كانت تنتقد الوضع القائم قبل أحدات تونس ومصر الفرصة للخروج في مظاهرة حاشدة. وكان معظم المحرضين ينتمون إلى منظمات ناشئة توحدت تحت راية “حركة 20 فبراير” بعد نجاح المظاهرة الأولى. فعلى سبيل المثال، شهدت مريم اعتقال والدها في بداية السبعينات، وعند وفاته قبل أربع سنوات، أكدت على أن “دورها قد حان لتستأنف النضال”. وقد انضمت فيما بعد لـ”الحركة البديلة للحريات الفردية” (مالي)، وهي مجموعة تدافع عن حقوق المرأة والمثليين قبل أن تصير عضواً مهماً داخل “حركة 20 فبراير”.

إن الانضمام لهذه المنظمات قد أنشأ رابطاً مع ناشطين آخرين وقاعدة تنظيمية تم من خلالها التخطيط لمظاهرات حاشدة وإطلاقها عندما أتاحت الثورة التونسية فرصة القيام بذلك. حيث انتقل هؤلاء الناشطون من عمل جماعي أقل مخاطرة إلى عمل أكثر مخاطرة، وهو ما قد يكون أسهل من الانتقال من الجمود إلى النشاط.

وقد كشفت مقارنة المقابلات التي أجريت مع القياديين، من جهة، ومع المشاركين غير المنتظمين ومع غير المشاركين، من جهة أخرى، أن الفئة الأولى لم تكن أكثر تأييداً للتغيير من الفئة الثانية، وإنما كانت أكثر انخراطاً في التعبئة بسبب التجارب السياسية السابقة التي عاشها أفرادها من خلال عائلاتهم. كما يبدو أن المشاركين غير المنتظمين وغير المشاركين يتفقون مع أهداف الحركة، كما هو الشأن بالنسبة للقياديين، لكن دون أن يكون لديهم أي معتقل سياسي في عائلاتهم ودون أن ينتموا لأي منظمة سياسية. فعلى سبيل المثال، شارك كمال البالغ من العمر 24 سنة في بعض المظاهرات مع أصدقائه سنة 2011، غير أنه لا ينتمي لأي منظمة، فهو يدافع عن الانتقال الديمقراطي ويفترض أن الاحتجاج وسيلة فعالة، بيد أنه يقول: “أخرجُ [في المظاهرات] حين يمكنني ذلك، فلدي أمور أخرى يتعين عليّ القيام بها”.

وتؤكد بيانات استطلاعات الرأي التي تم تجميعها على موقع “فيسبوك” هاتين الفكرتين. فقد كان لمحرضي “حركة 20 فبراير” تجربة مسبقة في العمل الجماعي، إذ إن 83% من الذين حققوا أعلى نسبة مشاركة (أكثر من 5 مظاهرات في سنة 2011) قد شاركوا من قبل في مظاهرات أخرى، وكانوا عادة ما ينتمون إلى منظمات كـ”حركة 20 فبراير” أو نقابات أو غيرها من المنظمات غير الحكومية، كما كان مرجحاً أيضاً أن يكون أحد أفراد أسرهم ضحية للقمع: إذ أجاب 45 من أصل 155 مستجوباً (29%) بالإيجاب (وهي نسبة مرتفعة مقارنة بمجموع السكان)، في حين أن 40% من المشاركين في أكثر من خمس مظاهرات قد أكدوا أن أحد أفراد أسرهم قد تعرض للقمع، مقارنة مع 14% من أولئك الذين لم يشاركوا.

هذا وتبين الدراسة الاستقصائية الكمية كذلك مفارقة بالغة الأهمية، وهي أن تجارب القمع هي التي تهم داخل الأسرة، وليست تجارب النشاط بشكل عام. فأولئك الذين كان آباؤهم ناشطين لم يكونوا أكثر استعداداً للمشاركة ممن لم يكن آباؤهم من الناشطين. فقط أولئك الذين عانى آباؤهم بسبب أنشطتهم السياسية هم من تفوق نسبة تمثليهم باقي المحتجين.

القمع يذكي جذوة الحركة

يمكن للقمع أن يكون عاملاً في الحد من التعبئة. فبعض المستجوبين غير المشاركين أشاروا إلى أن الخوف من القمع يمثل السبب الرئيسي وراء عدم انخراطهم في أنشطة الحركة. لكن لورنس توضح أنه قد يكون للقمع نتائج عكسية على النظام بحيث يشجع على الاحتجاج.

ولاختبار آثار القمع على التعبئة، قامت الباحثة بتقسيم المشاركين في استطلاع الرأي إلى ثلاث مجموعات معالجة ومجموعة مرجعية. وقد حصلت كل واحدة من مجموعات المعالجة على واحدة من المعلومات الثلاث التالية: لجوء النظام إلى استخدام العنف، وتساهله تجاه المظاهرات، وتنازلاته. وفي المقابل، لم تحصل المجموعة المرجعية على أي معلومة. وبعد الحصول على المعلومات، أصبح المشاركون في الاستطلاع مطالبين باتخاذ قرار بخصوص دعمهم للاحتجاجات المستقبلية من عدمه. 

وبينما كانت المجموعات الثلاث قد عبرت عن دعمها لاستمرارية الاحتجاجات بنسبة أعلى من المجموعة المرجعية، فإن النتائج تبقى ذات دلالة إحصائية فقط على مستوى المجموعة الخاصة بـ”القمع”. وهناك معطيات إضافية تسمح بإيجاد تفسير للأسباب وراء هذه النتيجة. هذا وقد طُلب من المجموعات الأربع الإجابة عن السؤال حول وضع الديمقراطية في المغرب، فلم يشر أغلب أعضاء المجموعة المرجعية إلى أي تغيير في هذا النطاق، شأنهم في ذلك شأن 40% من أولئك الذين تم إطلاعهم على تساهل النظام مع الاحتجاجات. ومن جهتهم، صرح 61% من المشاركين في المجموعة الخاصة بالتنازلات أن وضعية الديمقراطية تحسنت، في حين أن أعضاء المجموعة الخاصة بالقمع كانوا أكثر من اعتبر أن وضع الديمقراطية قد تدهور.

وبالتالي، يمثل القمع دافعاً للتعبئة، إذ حتى وإن لم يدفع بغير المشاركين إلى النزول إلى الشارع، يمكنه أن يعزز من رغبتهم في أن يصبحوا أكثر نشاطاً على الصعيد السياسي، وهو ما يفتح المجال أمام المشاركة في احتجاجات مستقبلية. هذا ويدرك قياديو الحركات الاجتماعية أنه بإمكان القمع أن يجلب الدعم والتعاطف لقضيتهم، وهو ما يجعلهم لا يترددون في الحديث حول العنف الذي يمارسه النظام.

خاتمة

إن لهذه النتائج تداعيات هامة على فهم العمل الجماعي ونشاط القياديين، فهي تساعد على الربط بين فترات الاحتجاجات الماضية والحاضرة والمستقبلية، وتشير إلى أن القمع يمكن أن تكون له عواقب غير متوقعة على المديين القريب والبعيد. وبالتالي فإن العقود التي شهدت انتهاكات حقوق الإنسان من شأنها أن تحفز الأجيال القادمة على مواجهة النظام، حتى وإن لم ترغب الأغلبية في ذلك، كما هو الشأن بالنسبة لقياديي “حركة 20 فبراير” الذين كان عدد كبير من أقاربهم المباشرين معتقلين سياسيين. وقد شجعتهم هذه التجربة على الانخراط في السياسة حتى قبل الربيع العربي، وعند مجيئه كانوا على استعداد لقيادته. هذا ولا تقتصر الأمثلة على المغرب، فقد كان نشطاء الربيع العربي البارزون في دول أخرى ينحدرون بدورهم من أسر سبق أن تعرض أفرادها للاعتقال بسبب نشاطهم السياسي، على غرار علاء عبد الفتاح في مصر، ولينا بن مهني في تونس، وزينب الخواجة في البحرين.

ومن جهة أخرى فإن للقمع أثر على الفئة الثانية، أولئك المقربون من المحرضين، والذين يزيدون من دعمهم للأنشطة الاحتجاجية عند معرفتهم بالقمع البوليسي، وهو درس بالغ الأهمية بحكم الدور الذي لعبته (وما تزال) وسائل التواصل الاجتماعي في المظاهرات الحاشدة منذ بدء الربيع العربي. كل هذه النتائج تطرح أسئلة حول أثر القمع الذي طال حراك الريف على المدى البعيد.

لمعرفة المزيد:

British Journal of Political Science, 2016. 
DOI: 10.1017/S0007123415000733

تنشر هذه الداراسة باتفاق مع جمعية طفرا