صحافة البحث

النموذج التنموي المغربي حبيس الهيمنة السياسيّة

- الإعلانات -

ألقى العاهل المغربيّ الملك محمّد السادس في غشت 2019 بمناسبة الذكرى 66 لثورة الملك والشعب، خطاباً أكّد فيه ضرورة بلورة نموذج تنمويّ بمثابة عقد اجتماعيّ جديد، من شأنه ضخّ دماء جديدة في مسار تنمويّ أبان عن محدوديّته باعتراف الملك نفسه في خطاب عيد العرش في 29 يوليوز 2019.

ولعلّ أهمّ ما جاء في مضمون هذين الخطابين إعلان تكوين لجنة مكلّفة باقتراح تصوّر لنموذج تنمويّ جديد يكون الهدف منه الحدّ من الفوارق الاجتماعيّة.

ويأتي الحديث عن تجديد النموذج التنمويّ في سياق سياسيّ وحقوقيّ واجتماعيّ واقتصاديّ متردٍّ. ففي المجال الحقوقيّ، شهد المغرب في عام 2019 ما بات يعرف ب”الردّة الحقوقيّة“، في حين عرفت مناطق عدّة من المغرب احتجاجات ضدّ تردّي الأوضاع الاجتماعيّة امتدّت من تظاهرات فكّ العزلة في الريف في شمال المغرب إلى مسيرات العطش في إميتر وزاكورة جنوباً، مروراً بمسيرات الكرامة في جرادة في شرق المغرب. اقتصاديّاً، تتفاقم حدّة عجز ميزانيّة الدولة وترتفع مديونيّتها، وهو ما يؤثّر سلباً على مردوديّة المرافق والخدمات العموميّة وجودتها، لا سيّما في مجالي التعليم والصحّة.

أمّا سياسيّاً، فتعرف معظم الأحزاب صراعات داخليّة تستنفذ ما تبقّى من رصيد الثقة لدى المواطنين. فما الذي تسبّب في التدهور الحاليّ للأوضاع؟

بالرجوع إلى 20 سنة إلى الوراء، وخصوصاً بعد أشهر قليلة من تولّي الملك محمّد السادس الحكم في

يوليوز 1999، قام العاهل المغربيّ بجولات جاب فيها مختلف مناطق المغرب، وظهر فيها بصورة الملك الشابّ القريب من انشغالات الفئات الهشّة، إذ لقّب آنذاك بـ”ملك الفقراء“. تمّ بعد ذلك إطلاق مشروع المبادرة الوطنيّة للتنمية البشريّة في 18 ماي 2005، وهو مشروع كان الهدف منه محاربة الفقر والهشاشة عبر دعم الطبقات الفقيرة وتشجيعها على خلق مشاريع صغرى مدرّة للدخل، وهو مشروع شابته أعطاب لخّصها المجلس الاجتماعيّ والاقتصاديّ في تقرير تمّ تقديمه في عام 2013، في ضعف مردوديّة الإنجازات وضعف الحكامة الجيدة، وكذلك اختلالات في تتبّع المشاريع ومواكبتها، وهي اختلالات ترتّب عنها ركود المغرب في المراتب المتأخّرة عربيّاً في مؤشّر التنمية البشريّة، حسب التقرير السنويّ لبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، إذ يقبع المغرب في المرتبة 123، خلف كلّ من تونس والجزائر، في عام 2018.

تزامن حكم الملك محمّد السادس مع بروز حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، والذي قاد مرحلة المصالحة بين أحزاب الكتلة المعاِرضة آنذاك من جهة والقصر من جهة ثانية في آخر فترات حكم الملك الراحل الحسن الثاني، قبل أن يتراجع الملك الجديد عن تلك المنهجيّة الديمقراطيّة، عقب الانتخابات التشريعيّة في عام 2002، بتعيينه وزيراً أوّلاً خارج التنظيمات الحزبيّة هو إدريس جطو 7 نوفمبر2002، وهو ما اعتبره بعض المتتبّعين إنهاء لمسار الانتقال الديمقراطيّ.

حاليّاً، وبعد مرور 8 سنوات على اندلاع ما سمّي بالربيع العربيّ ودخول دستور 2011 حيّز التنفيذ، لا تزال صلاحيّات القصر الملكيّ تبسط هيمنتها على الجهاز التنفيذيّ. يقول القياديّ في حزب الأصالة والمعاصرة عبد اللطيف وهبي في حوار له نُشِر على هسبريس في 14 مارس 2019 إنّ رئيس الحكومة الحاليّ تخلّى عن صلاحيّاته كرئيس للجهاز التنفيذيّ ليصبح بمثابة موظّف بسيط في الحكومة.

في مجال حقوق الإنسان والحرّيّات، أعطى الملك محمّد السادس في بداية حكمه مؤشّرات توحي برغبة في إحداث قطيعة مع الأساليب المتّبعة من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، كانت أولى تلك الإشارات إقالة وزير الداخليّة الأسبق إدريس البصري من مهامه في 9 نوفمبر 1999، وهو الذي كان يتّهم من قبل المنظّمات السياسيّة والحقوقيّة بتورّطه في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لا سيّما ضدّ المعارضين السياسيّين، تلتها في 7 يناير 2004 تأسيس تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة لكشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان في عهد الملك الحسن الثاني وجبر ضرر الضحايا. على الرغم من أنّ التجربة كانت سابقة في المنطقة، غير أنّها لم تصل إلى مستوى تطلّعات الحقوقيّين، إذ إنّ شهادات الضحايا الموثّقة على إثر جلسات الاستماع تضمّنت سرداً للوقائع، من دون ذكر أسماء “الجلّادين” المتورّطين في هذه الانتهاكات، ممّا يحول دون متابعتهم قضائيّاً.

في هذا الصدد، أشار بعض الحقوقيّين إلى أنّ عدم متابعة المسؤولين انتهاكات حقوق الإنسان يساهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب.

أمّا في مجال حرّيّة التعبير، فقد شهدت أواخر عام 2000 متابعات قضائيّة وإغلاق عدد من المنابر الإعلاميّة كالمجلّة الساخرة “دومان”، “نيشان” أو “لوجورنال”، لتزداد المتابعات والاعتقالات حدّة بعد موجة الربيع العربيّ باحتجاز ومتابعة الصحافيّ علي أنوزلا في عام 2013، واعتقال كلّ من مدير نشر جريدة أخبار اليوم توفيق بوعشرين في 23 فبراير 2018 ومدير نشر موقع بديل حميد المهداوي في 20 يوليوز 2017.

في ظلّ هذه التراجعات، و في أفق الدخول التشريعيّ الجديد، ابتداء من شهر سبتمبر المقبل، سيتمّ الإعلان عن أسماء أعضاء اللجنة المكلّفة صياغة النموذج التنمويّ الجديد دون أن يتم الإشارة إلى الجهة التي سيخوَّل لها مهام تعيين الأعضاء، في غياب تقييم شامل ودقيق لحصيلة 20 سنة من حكم الملك محمّد السادس، وبتوجيه ملكيّ يعطي الأولويّة للتكوين المهنيّ على حساب التكوين الأكاديميّ أو الجامعيّ، إذ قال الملك في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب: “الحصول على الباكالوريا وولوج الجامعة ليسا امتيازاً، ولا يشكّلان سوى مرحلة في التعليم. وإنّما الأهمّ هو الحصول على تكوين يفتح آفاق الاندماج المهنيّ، والاستقرار الاجتماعيّ”. هذا الاستنتاج يتنافى مع الأرقام التي قدّمتها المندوبيّة السامية للتخطيط في 2 ماي 2018، والتي تظهر أنّ معدّل البطالة بلغ سنة 2017 26% لدى حاملي شهادات التكوين المهنيّ.

ويبقى العائق الأساسيّ أمام بلورة سياسة إقلاع ناجعة هو غياب آليّات تضمن توازن القوى في تدبير الشأن السياسيّ، كما أشار إلى ذلك الباحث في علوم الاقتصاد في جامعة محمد الخامس بالرباط الراحل إدريس بنعلي في فبراير 2011 : “لتحقيق التوزيع العادل للثروات، نحتاج قوّة ضغط في المجتمع، لذلك فإنّ الديمقراطيّة التي تبنى على السلطة والسلطة المضادّة أساسيّة، ولسنا في حاجة إلى تكوين لجان استشاريّة”. وهو ما أكّده الخبير الاقتصاديّ والأستاذ الجامعي في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة في الرباط نجيب أقصبي خلال ندوة احتضنتها مؤسّسة عبد الرحيم بوعبيد في عام 2018، حيث قال: “النظام السياسيّ الحاليّ يتّخذ قرارات من دون الأخذ في الاعتبار حاجات المجتمع، ومن دون ربط مسؤوليّاته بالمحاسبة”.