صحافة البحث

كبور والحبيب.. حوار أوتوماتيكي يكشف اللاوعي الجمعي

- الإعلانات -

يتردد مصطلح “العالم القروي” و”المرأة القــــــروية” في خطاب السياسيين المغاربة، وذلك في إطار تنازع الأحزاب المغربية على فهم وتمثيل والنطق باسم سكان البادية في زمن الفرار من الأرض. هناك تحول ديموغرافي كبير في المغرب. صار ثلثا سكانه يسكنون المدن لذا لا يمكن تجاهل آنية تعارض المدينة والبادية في المجال الاجتماعي والسياسي والفني.

أسباب نزول هذا الكلام هو كون فيديو الحلقات الأولى من كوميديا “كبور والحبيب” – التي تتناول الهجرة من البادية للمدينة وكتبها الفنانان حسن الفد وهيثم مفتاح – قد تجاوزت ملايين المشاهدات على يوتوب في ظرف أسبوع. تكشف المشاهدة المكثفة حيوية موضوع لا يتقادم وهذا يستحق الرصد. فهو يؤكد استمرار وصفة ترييف الشاشة الصغيرة في المغرب. ويكشف أن الهجرة الداخلية لا تقل قسوة عن الهجرة الخارجية.

حسن الفذ

فعندما يصل البدوي إلى الدار البيضاء أول مرة يستقبل بشتائم وبإهانات منها أنه بليد لا ينطق الأسماء بشكل جيد، يوصف بلغة فلاحية عدوانية تشبهه بالحيوانات وتستعير منها صفاتها. يوصف بأنه جائع بدليل أن وجهه أزرق وأن رائحته فيها رائحة الحظيرة… يتعشى في الجنازات حتى لو لم يعرف من مات وينتقد الأعراس التي يتأخر فيها الأكل… تعكس قسوة الكلمات علاقة المغاربة الجوع.

يسكن في السطح وهو سعيد لأنه سيكون أول من سيهطل عليه المطر. تساعده السخرة على التعايش مع وضعه. عادة يسكن المهاجر الجديد في قفص أو في حفرة، للإشارة فثلاثة عشر في المائة من سكان المدن يقطنون سكنا غير لائق. يسكن في حي هامشي فيه كثافة نسوية عالية لأن الكثير من الرجال في السجون. يحاول فهم المنظومة القيمية الجديدة من خلال سرد خبر زواج وعرس مستعجل في فصل الشتاء لأن الدجاج رخيص. العريس بلجيكي مغربي مسلم يحب العروس ولم يرها سابقا كما يتفاخر شقيقها. يفتخر الأخ بزواج أخته الصغيرة من بلجيكي يحبها بينما تخرب الأسئلة سرديته التفاخرية لأن الحب يقتضي المعاشرة. عريس بلجيكي؟ هل الزواج أبيض؟ لا.

يستنتج البدوي برد فعل فوري فاضح: إذن الزواج أسود أي سيكون فيه أولاد.

هكذا يكشف الحوار المستوى الذهني للمتحاورين وانشغالاتهم. حوار أوتوماتيكي عفوي تلقائي مبني على كشف اللاوعي الجمعي. حوار يشبه المونولوج لان الطرف الأخر يكمل الفكرة.
هذه حوارات صادمة تكشف المسكوت عنه في العلاقات السائدة في المجتمع. تكشف ليس من خلال ما يقال بل من خلال ما يتم التغاضي عنه. وهذا الحوار الذي ظاهره الغباء يصعق المشاهدين الذين يتماهون معه بسهولة لأنهم يمارسونه.

نرى البدوي الذي لم يتعلم كيف يكسب رزقه بالحيلة يتغذى ويتعشى بالبيض والقطاني ويزعم ان السبب هو أن انشغاله هو الذي يمنعه من طبخ اللحم والخضر… من فرط الجوع يلحس الصحن ويكذب ليأكل ويتحمل بؤسه بالذرائع… يعيش تكيفا عسيرا. يتحمل ويتعلم حماية مصلحته الفردية بأظفاره لكي يبقى حيا فيوصف بأنه بطن جاعت وشبعت فجأة…

تمر الأيام وتتحسن وضعية المهاجر الجديد، والغريب أنه يتناسى أصله بسرعة ويتقمص دور جلاده. ينسب التفوق لنفسه ويكرر نفس الخطاب تجاه المهاجرين الجدد لعرقلة اندماجهم. يستخدم شتائم يبدو أنه أول من تنطبق عليه… يعاني من التضليل الذاتي ويتعايش معه برضى.يتم تعويض البؤس بتقمص دور المديني، يتقمص الخطاب التحقيري تجاه أشباهه بعنف وشراسة وحقد مرير لا يكشف عن تَغيّره بل عن حجم احتقاره لأصله. بل وقد يدعي النبالة باسمه المركب “كبور بناني سميرس” وهذا يشير لعائلات فاسية عريقة. بذلك قطع حبل السرة بأصله الكريه.

هكذا تكشف الكوميديا أمراض الانتقال نحو التمدن ومنها التفاخر.

في هذه الكوميديا انتقل كبور والحبيب من البادية إلى المدينة. انتقلا من سلطة رجال الدرك الأشداء إلى سلطة رجال الشرطة الطيبين. انتقلا من الكتلة الناخبة البدوية إلى الكتلة الناخبة المدينية. لقد ترك بطلا السلسلة الكوميدية البادية وهما فقراء ولا يملكان إلا ما يلبسانه وتنبعث منهما رائحة البقر. من سلوك كبور والحبيب، لا يبدو أنهما ينتظران شيئا من أي برلماني. يدبران أمورهما بمفردهما. فمن سيزعم تمثيلهما في البرلمان؟ هل الحزب الإسلامي أم الحزب الحداثي؟

جرت الانتخابات في أكتوبر 2016 وقانونيا لا يحق لهما التصويت في المدينة لأن وزارة الداخلية تشترط ستة أشهر إقامة في مكان معين للحصول على البطاقة الشخصية والانتخابية. لا داعي للعجلة عليهما انتظار انتخابات 2021.

مشهد من سلسلة كبور والحبيب الساخرة

وزارة الداخلية لا تحب العجلة، وآخر مثال سياسي قدمته حين أجابت عن سؤال: ما هي الأرقام التفصيلية لنتائج انتخابات 4-9-2015؟ جاء الجواب والشفافية يوم 16-06-2016 ولم يذكر عدد الأصوات التي حصل عليها كل حزب. ولم يذكر نسبة الأصوات الملغاة. ولم يذكر عدد الذين لم يصوتوا.

أجوبة وزير الداخلية تشبه أجوبة لحبيب وكبور بطلا الكوميديا. لا يمكن اعتبار السياسيين قدوة للشباب في الوضوح. لا تتعامل وزارة الداخلية مع وعي المغاربة بل مع لا وعيهم. يعرف مهندسو الداخلية أن العقلاني نادر وغير مؤثر لأن اللاوعي الجمعي هو الحاكم المطلق. لهذا ظل التلفزيون المغربي مرتبطا بوزارة الداخلية لمدة طويلة. وحتى موظفيه المؤثرين حاليا لهم خلفية بوليسية لذلك يقدمون للشعب ما يضحكه “ههههه” (تهتم وزارة الداخلية والتلفزة بمن يسميهم إريك هابسباوم الفقراء الجاهلين الذين يعتمد عليهم الاستقرار الاجتماعي. كتاب عصر الثورات ص 437).

لذلك قرر السوسيولوجي البصاص التخلص من أوهام المثقف ليستهلك ما يستهلكه الشعب دون تقديم الدروس للغير. من هذا المنطلق لنر ما عندنا: في المقهى يشاهد الشبان الفيديو على هواتفهم ويضحكون ويعيدون المشاهدة. ما الذي يبحثون عنه؟

تسلية تنبع من واقعهم الذي يقول أن ساكنة البيضاء زادت بنسبة عشرين في المائة منذ 2004 وأن الكثافة السكانية تبلغ 40 ألف نسمة للكيلومتر المربع في الكثير من الأحياء. وهذا يفرض تجاوز موقف إدانة كوميديا رمضان البدوية لتحليل الظاهرة.

بعد أن يشاهد المغاربة الكوميديا الرمضانية يشتمونها بأنها “حامضة”. للإشارة فإنه من فوائد تناول الحامض تقوية جدار المعدة ووقف الإسهال وتسهيل التنفس ومنع تساقط الشعر لأن في الحامض أكسيجين كيماوي.
عاد حسن الفد ببرنامجين كوميديين، الأول يظهر فيه بدويا والثاني يظهر فيه شخصا عصريا. الفرق واضح: وصلت كوميديا البدوي وترييف المدينة ملايين المشاهدات بينما لم تبلغ تصل كوميديا الموظف المديني الذي يغسل أسنانه بالفرشاة حتى عشرها. الأرقام تتكلم. إن كوميديا حسن الفذ مؤثرة وكاشفة لذلك تجد لها صدى عميقا في الوجدان المغربي. ولزيادة التأثير استعان حسن الفد بمخرج شاب – أحمد أكساس – وضع لمسته على التصوير بحيث يساعد الإخراج وأداء الممثلين وحركات الكاميرا في تعميق الدلالات.

هذه كوميديا تستثير الغرائز الكامنة والمواقف المسبقة للمغاربة ولا تخترعها. يكشف كبور (حسن الفد) الذاكرة المكبوتة المغربية. عادة تكشف هذه الذاكرة بالتنويم المغناطيسي. لكن الكوميديا تكشفها لدى الجموع التي تضحك بعمق هستيري “ههههه” وهي ترى وعيها المكبوت مجسدا عاريا. يرى كبور يقول إنه يتبع الدرك وليس الشرطة وكأن الانتقال المكاني بلا اثر.

تساعد الكوميديا المتفرج على الاسترجاع بسهولة ودون ألم. استرجاع التاريخ الشخصي الذي تم تناسيه. والضحك الهستيري ضد كبور ليس مجانيا. إن له صلة قوية بكره الماضي الشخصي للمتفرج الذي ترك البلد وجاء للمدينة ولم ينس أبدا نظرات الاحتقار التي تكبدها قبل أن يتمدن مظهره. حين سيتمدن لبه لن تحطم كوميديا “كبور والحبيب” الأرقام القياسية.