في جملة لها كثير من الدلالات وكأن بي ان المحارب يضع درعه الواقي لكنه لم يترك سيفه… “ختامها مسك” تعليق له كثير من الدلالات والرسائل من مبدع بين اليراع والفرشاة لمدة تصل لأربعين سنة وكأنه يعلن القطيعة مع مرحلة تعتبر في هذا السن النبوغ في النبوة…
قبلها كان قد كتب بشكل من المرارة ان هذه السنة ستكون أخر سنة يعرض فبها بالوطن…
قرأت ذلك في صمت لكنني لم أعلق لان التعليق سيكون جارحا اكثر مما كتب صديقنا الفنان الكبير سعيد حجي وهنا استحضر الرحلة الي لندن سنة 2016 والتي عرت كثيرا من أوراق التوث حينداك فنانون يشاركون في ملتقى فني عالمي بلندن يمثلون المغرب ولم يكن هناك من داعم ولا راع منهم سعيد حجي وكريم تابث وعبدالاله الشاهد الذين كان مدخولهم الشهري الوسيلة للسفر حسابا على ذواتهم وعائلاتهم .. عبد ربه لم يذهب لكوني فنان بدون رصيد بنكي.. قلت كان مدخولهم وما توفر لهم هو الوسيلة لذلك لكي يمثلون وطنا نحبه أكثر من أولئك الجالسين على الكراسي ويؤشرون على أوراق جعلو منها صكوك غفران لمن يتمتعون بولائه…
الفن مقدس وحامل رسالته هو من يعطيه تلك القدسية…
ذلك النوع ناذر وسعيد حجي منهم..
معرضه في مدينة الصويرة ابتداء من 31اكتوبر الي غاية 30 نونبر 2019 محطة تختلف عن ما سبقها حيث نلتقي مع الفنان المبدع صاحب رسالة فنية وانسانية واعماله تجمع بين الفكر وطرح التساؤلات وبين الرموز والذلالات والجسد الذي أراه محورا رئيسا في كثير من اعماله…
هنا ورقة نقدية بقلم الكاتب والناقد الجمالي الدكتور عبدالله الشيخ الذي يبحر في عوالم حجي الخفية ويقربنا من طقوسه ومن محرابه…
“الفن ليس الفن ابتهاجا شخصيا وتسلية فردية، إنه وسيلة لتحريك مشاعر أكبر عدد ممكن من البشر
عبر تقديم صورة متميزة للأفراح والأتراح المشتركة. وعليه، فإنه يجبر الفنان على ألا ينفصل عن ذاته. إنه يخضعه للحقيقة الأكثر بساطة وشمولية. ومن اختار مصيره كفنان، لأنه يشعر أنه مختلف سوف يدرك سريعا أنه لن يعزز تفرده إلا من خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين”
سعيد حاجي : إبداع ضد النسيان
بسيط في علاقاته الاجتماعية، عميق حد الحب القاسي في علاقاته الإبداعية،
سليل النضال العضوي، وخلاصة النضج الأدبي والجمالي معا، هو الفنان سعيد حاجي) بالدار البيضاء( الذي انتصر في لوحاته التشكيلية لمديح الحرية، والحياة، والقيم الإنسانية النبيلة.
في حضرة لوحاته، تجد سعيد حاجي لا يكف عن طرح علامات استفهام وتعجب كبرى حول معاني الوجود المعاصر، واندحار قيمه، ومظاهر “عبوديته الحديثة”.
اللوحة من منظوره الوجودي مسكن الكائن الذي ينسج من خلاله وعبره مدارج ألفته وغربته في الآن ذاته. إنه المسكن الرمزي الذي عرف كيف “يهندس” مشاهده الكبرى والصغرى بحس جمالي آسر (همه الأول والأخير هو الحقيقة). تراه يخوض في قضايا كبرى تهم الطابوهات القائمة، كما تراه يرعى في أجوائه التعبيرية الصارخة أحلامنا البسيطة بشكل يذكرنا، على التو، بحراس الإنسانية الذين يناضلون من أجل ترسيخ ثقافة الفرح، وبلاغة الحياة بكل معانيها وإشراقاتها.
ما يرسمه سعيد حاجي هو نسغ الأمل الساكن في دواخلنا مدافعا، بشراسة أليفة، عن كياناتنا الوجودية في تداعياتها الحقيقية والمجازية معا.
المتأمل في عوالم سعيد حجي، ينتابه إحساس غريب إزاء تلك الأشكال، والانسيابات اللونية المتدفقة التي تروض عيوننا على الجمال البصري، وعلى قيم التحدي والأمل. كما أنها تحتفل بمعاني الأرض، والكرامة، والحرية. هكذا، تقوم اللوحات على فلسفة الاحتفال بالذاكرة ضد الغياب والنسيان في آن معا. الأمر شبيه بوشم غائر في منصة المصالحة والإنصاف: وشم لا يمكن تجريده من معانيه الأصلية. تصبح اللوحة، إذن، محاولة ذاتية لإعادة كتابة التاريخ الخاص في علاقته اللزومية مع التاريخ العام. الأمر، في هذا السياق، معادل موضوعي لدور الذاكرة الشعبية في تخليد الأحداث، والوقائع، والطرائف بعيدا عن كل أشكال البتر والمحو والطمس !
لقد أصر سعيد حجي على معالجة قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية في ضوء مقاربة تشكيلية تتسم بالتكثيف اللوني، والتشذير الشكلي، والترميز التعبيري خارج كل تقريرية تسجيلية، وتناظرات أيقونية.
إلى جانب روايته “الفينق”، و ” ارواح بوبزكارن ” وديوانه الشعري “كاميكاز”، يكتب سعيد حاجي تجربة متميزة على مستوى البناء البصري، واللغة الإيحائية. فرهانه الأول والأخير هو تقديم عتبات موازية عبر تقنيات تشكيلية مختلفة تزاوج بين التشخيص التعبيري والتجريد الرمزي.
في إطار هذا الرهان الجمالي، يحافظ الفنان على زخم المتن الوجودي، وهامش الشكل الفني، ممارسا لعبة الواقع والمرايا المتعددة، ومخلصا لمنطقية المعنى وعبثيته في الآن ذاته.
لا يرسم سعيد حاجي “الغيطو” الضيق للكائنات والأشياء. إنه يحرص على التعبير عن المرئي واللامرئي، وكأنه يداعب لغة جديدة بأشكال سلسة ومركبة، وبقدرات بنائية موحية. تواتر الإيحاءات، وتوالي الأجواء التي ترحل بنا من عالم الواقع إلى عالم الفانتازيا، أشكال شديدة الحساسية وعنيفة التخييل : كلها عناصر محكمة، ودالة، وضرورية للولوج إلى عالمه القصصي، أقصد عالمه التشكيلي. لا غرابة أن نخوض في هذا المعراج البصري رحلة روحية للسمو والارتقاء وكأننا نمارس رقصة الزمن (أتذكر كتاب “إنشاء الدوائر” لمحيي الدين بن عربي). هذا هو المسار الحتمي لتجربة سعيد حجي، فهو بمثابة سيرة ذاتية من جهة الواقع والمتخيل معا صاغها الفنان في شكل مذكرات باللون والشكل : مذكرات بصرية تبدو شبيهة بالأحلام المفقودة علها تحقق ميثاق المصالحة مع الذات بكل جراحاتها التاريخية.
تراه يتحول، مجازيا، بين اللوحات باحثا عن لحظات بوح “أكثر واقعية” تشي بعبثية ساخرة وكأنها مرآة مغايرة تعكس حقائقنا المرة حد الغثيان. إنها عبارة عن كتابة سردية مغرمة بالبوح والتذكر. كتابة بلا ادعاء أو غرور مرضيين، حيث الالتزام هو المدرسة الأخلاقية والوجودية معا التي تربى في أحضانها إنسانا وفنانا، ونسج فيها لوحات نحياها، وعايش عبرها حياة كتبها. هكذا، يمارس سعيد حجي حياة مزدوجة : حياة في الوجود، وحياة في الإبداع بتفاصيله اللغوية وغير اللغوية، وبأصواته المتعددة وأجوائه المشهدية التي تمثل شاهدا بصريا على عمق رؤية الفنان العضوي لوعي الإنسان الحديث ومصيره.
ما يقدمه إذن، سعيد حاجي هو منجزه الحياتي المفعم بآماله العريضة التي ظلت تلازم مشروعه الجمالي قيد الإنشاء على عتبات عزلة الممارسة التشكيلية، وخلوات الصداقات التاريخية العميقة بالحب والامتنان.
إن الرسم بالنسبة للفنان سعيد حاجي كالفن تماما بالنسبة لصاحب رواية “الغريب” ألبير كامو الذي صرح بمناسبة استلامه جائزة نوبل عام 1957 : “ليس الفن ابتهاجا شخصيا وتسلية فردية، إنه وسيلة لتحريك مشاعر أكبر عدد ممكن من البشر عبر تقديم صورة متميزة للأفراح والأتراح المشتركة. وعليه، فإنه يجبر الفنان على ألا ينفصل عن ذاته. إنه يخضعه للحقيقة الأكثر بساطة وشمولية. ومن اختار مصيره كفنان، لأنه يشعر أنه مختلف سوف يدرك سريعا أنه لن يعزز تفرده إلا من خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين” (ترجمة : عاصم عبد ربه).
انتصر، إذن، سعيد حاجي لهذه المسافة القائمة بين الجمال الفني والفاعل الجماعي، متأثرا بكل الذين يساهمون في صناعة التاريخ، وهندسة ثقافاته الإنسانية. لقد تعلم منهم كيف ينصت للصمت ولله..