نزل الجيش الإنجليزي على سواحل النورماندي فتصدى له الفرسان الفرنسيون وهم بكامل عظمتهم وأناقتهم الحربية، لكن أبيد أكثرهم على يد الرماة الإنجليز وهم فلاحون بسطاء تلقوا تدريباً جيداً على الرماية. كانت تلك خاتمة عصر الفروسية عام 1346م في أوروبا أثناء حرب المائة عام.. وكانت تلك الحرب مؤثرة دينيا وفكريا وأدبيا . بعدها تقوت الدولة القومية فماتت الفروسية لأن منطق الفروسية مضاد لمنطق الدولة.
بعد قرنين ونصف من نهاية عصر الفروسية خرج فارس مغوار ليمارس ما فات أوانه. وهذه هي المفارقة الأهم في رواية “الدون كيخوته”، مفارقة زمنية.
المفارقة الثانية هي تحوّل هائل في القيم. لقد انتهى عهد السيف لذلك سيدين دون كيخوته استخدام البارود لأنه مكن الجبناء من القضاء على الشجعان، لقد بدّل المسدس مفهوم الشجاعة وزاد من المسافة الفاصلة بين الجندي وعدوه… في هذا السياق الذي هيمن عليه الجبناء سيخرج دون كيخوته ليمارس البطولة بعمى مطلق ويقدم رواية تساعد قارئها على تصفية حسابه مع أوهامه الذاتية. رواية تسخر مما قبلها وتؤسس لما بعدها. ينطبق عليها قول شليغل “كل نظرية للرواية يجب ان تكون هي نفسها رواية”. حين قرأت في مكان ما قول عباس كيارستامي أن كل فيلم يضم نظريته، انفتح الأفق للكشف عن مدى الاتفاق بين النص وقوانينه المضمرة فيه.
قوانين زيادة الكفاءة السردية
ينطبق هذا على رواية دون كيخوته التي تحلل نوعها وقوانينها بنفسها. ويهدف فحص هذه القوانين هنا إلى زيادة الكفاءة السردية في السينما بقراءة الرواية، مدهش هو الدرس الروائي الذي يمكن أن يقدمه سيرفانتيس للسيناريست من خلال دون كيخوته. فكيف يمكن للراوية أن تساعد كاتب السيناريو؟
هذه محاولة إجابة:
إن دون كيخوته هو فارس وقانون سرد. دون كيخوت يعرف نفسه، وفي الوقت نفسه يعرف النوع الأدبي الذي ينتمي إليه النص. إن قوانين الفروسية صلبة، لذلك يعلن دون كيخوته أن قوانين الفروسية ضيقة لا تسمح باستبدال حمار بحمار، حتى قوانين الرواية ضيقة ولها قوانين صلبة.
في روايته لا يحكي سيرفانتيس فقط بل يُنظّر للحكي. فكيف يتصور الروائي عمله؟ ماذا عليه فعله لجذب القراء؟
يقدم سيرفانتيس وصفة لكتابة الرواية من الجملة الأولى حتى الجملة الأخيرة، وبنية هذه الرواية المؤسسة تتبع سلوكا راسخا، “فالفرسان الجوالة قد مروا ويمرون بنفس المراحل التي قصصتها عليك حتى يبلغوا مرتبة الأباطرة والملك” وقد قرر الفارس أن يصير بطل الكتب التي قرأها، أن يمر بكل المراحل.
محاكمة النوع القس ناقدا
وتلك المراحل هي سبب داء الفارس، لذلك يفحص جارا الفارس القس والحلاق الكتب التي سببت نكبة دون كيخوته 65. يسجل القس أن هناك توازيا بين أفعال الفارس وكتب الفروسية، إنه دون كيخوته لا يفكر في الكتب التي قرأها بل يعمل على تطبيقها. يحاكيها”234 مثلا يعيش جنون العشق دون أن تكون له معشوقة فعلا. المهم لابد أن يجن الفارس الجوال حسب تلك الكتب، ومن خلال الفحص يظهر القس كناقد أدبي ماهر، وهو يعترف بأنه حاول تأليف مثل تلك الكتب، لكنه فشل. من ذلك الفشل صار يعرف كيف يتحدث عن بناء الحكاية من الناحية الفنية.
ما بنية الرواية؟
بنية دون كيخوت هي رحلة ذهاب وعودة، ولنجاح هذه الرحلة يحتاج الفارس ملكا وحربا وحبيبة. في محطة الذهاب بدأ الكتاب بتقديم أحوال وأعمال دون كيخوته وأول خرجة له خارج موطنه، وقد خاض مغامرات عدة حصل فيها على خوذة وحرر طائفة وقدم النذر وألقى خطبة عجيبة ودخل في محاورات عاقلة… بعد هذه الإنجازات العبثية رجع لقريته ليستعد لرحلة أطول وأعقد… وفيها حارب وهزم وحارب ونَصّب حاكما وقدم نصائح عنيدة وصدمته وقائع قاسية… وفي الأخير قرر اعتزال الفروسية والعودة لقريته ليكون راعيا. فبعد الهزيمة العسكرية للفرسان حان وقت هزيمة النوع الأدبي الذي يمجدهم.