لا تتجسد “العشوائية” في البعض من منطقة “أكادير الكبير” (تشمل مدينة أكادير المركزية، وإنزكان، وآيت ملول، والدشيرة، والقليعة) بمدن صفيحية. هناك تجاوز للقانون أحياناً، وإنما وبكل الاحوال، هناك فوضى عمرانية، وضعف في الخدمات العامة أو غيابها، وبؤس شروط حياة السكان في هذا المكان القصي، بعدما تخلّعت أسس وجودهم السابق بالنزوح الريفي وبالبطالة المستشرية. تقوم إذاً حالة هجينة باختلاط كل ذلك وتشابكه وتفاعله.
تحيل العشوائيات بالمغرب على “البراريك” (جمع باللغة العربية لكلمة بالفرنسية هي baraque أو مساكن من صفيح). هذا المنظر “غير المرغوب به” يُوصَف في الدارجة المغربية بـ”الخْنُونَة” (مخاط الأنف)، خصوصاً عندما تُزاحِم تلك الكيانات القصديرية الرمادية ألق ناطحات السحاب الزجاجية، أو حين تخترقها سكة “تراموي” حديث، يمضي بأبهته في مشهد غير متسق، غرائبي، يجمع مابين حداثية الشكل وبدائية الفضاء.
لم يختر سكان هذه الأحياء أن يقطنوا في مساكن عشوائية. لم يرتضوا لأنفسهم هذا الوضع، بل فُرض عليهم ذلك. بدأت العشوائيات مع حقبة الاستعمار الفرنسي والاسباني في مطلع القرن العشرين، إذ أدت سياسة الاستحواذ على أراضي القرويين ومصادرة ملكيتها (إما بالاحتيال أو بالغصب) إلى دفعهم إلى الهجرة نحو المدن وضواحيها. وعلاوة على ذلك، توالت عليهم سنوات الجفاف ومعه المرض والجوع. تنامت العلب القصديرية بجوار المصانع (كما حصل في حي “كاريان سانطرال” بالدار البيضاء) واستمرت الحالة بعد الاستقلال، بل استفحلت وانتشر القصدير في معظم المدن.. إلى أن قررت السلطات المغربية مع بداية الألفية الثالثة – بعلنية وصرامة – أن تنهي هذه المساكن الصفيحية. لكن هذا القرار المسمى “برنامج مدن بدون صفيح”، لم يتحقق بشكل كامل، وأقرت الحكومة بفشله خلال العام الماضي، واكتفت بالقضاء على 59 مدينة صفيحية من أصل 85 (1).
مورفولوجيا أكَادير: مُنظَمة في الوسط ومُكَدّسَة في الأطراف
على عكس معظم المدن المغربية، لم تكن مدينة أكادير المركزية منشأة على الطراز القديم، ولم تكن خليطاً بين الحديث والتاريخي. زلزال عام 1960 دمّر كل شيء، ودَكَّ كل معالم المدينة، ولم يتبقَ إلا شظايا جدران منسية متناثرة هنا وهناك. “رُب ضارة نافعة”، هكذا ترى أصوات تعتبر الزلزال – على الرغم من قوته التدميرية – سبباً لبناء مدينة جديدة على النسق العصري، بمواصفات تراعي التوزيع المنظم للأحياء والطرق والمرافق الحيوية والبنى التحتية. لكن عملية الإعمار تلك مضت بشكل بطيء، إذ توجس السكان من تكرار سيناريو غضب الطبيعة، على اعتبار أن المدينة واقعة على أكبر فالق في شمال إفريقيا (وفق الجيولوجيين).
إنزكان
بسبب الخوف من الزلازل، تركز توجه السكان المحليين إلى الضواحي والنواحي. إنزكان (أكثر من 130 ألف نسمة) هي إحداها. في البداية كانت مجرد بلدة صغيرة تحت إمرة السلطة الاستعمارية الفرنسية، ثم تحولت في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الفائت إلى فضاء إسمنتي مكدس بالمساكن العشوائية المحاذية للوادي البعيد عن أعين السلطات المحلية.
تشكلت المدينة الناشئة بشكل هجين، من الهجرات المتوالية بسبب سنوات الجفاف التي عمت قرى المغرب (فترة بداية الثمانينات الفائتة). معظم السكان أصولهم قروية من نطاق منطقة “سوس” (2)، وأما الباقون فمن مناطق عديدة تشمل مدن الساحل الغربي والجنوب الشرقي والأقاليم الجنوبية للصحراء.
“لا أدري ما حكمة الله في خلق مدينة كإنزكان”.. هكذا يعبر أحد المعلّقين بشكل ضمني على واقع المدينة والفوضى التي تطبعها، إذ تستقبل الزوار بمحطة تاكسيات وحافلات هي الأكبر من نوعها في جنوب المغرب، لكنها تكتظ بالمتسولين والنشالين وأطفال الشوارع (وهم من المتخلى عنهم)، مع بعض من يعاني من الأمراض العقلية وتنبذهم عائلاتهم ولا يوجد لهم مآوي أو مصحات.
بشق الأنفس، تخرج نعيمة (*) (تعمل مياومة) كسواها من قاطني المدن المجاورة من إحدى سيارات التاكسي (3) المهترئة التي يزدحم على مقاعدها ستة أشخاص، وذلك لجميع الرحلات قصيرة كانت أو طويلة.
بجوار المحطة، وعلى طول الشارع الرئيسي للمدينة، يعرض الباعة المتجولون سلعهم، ثمن السلعة رخيص،أو “الرْخَا والرِيبَاخَا” (والرخا تعني الرخيص بالدارجة المغربية والريباخا كلمة اسبانية “rebaja” تعني خصم أو تخفيض في الثمن)، كما يصدح صوتهم عالياً قبل حلول المناسبات الدينية.
لا حيز للمارة على الرصيف. وبالنسبة لنعيمة، فإنزكان تشكل فضاءً للتسوق الأسبوعي، إذ هي أكبر مركز تجاري في الجنوب المغربي (أكثر من 2652 محلاً تجارياً (4))، ما يوفر عرضاً للسلع المحلية والمستوردة (جلها من الصين) بثمن مناسب. تشكل الفوضى عنواناً لهذا الفضاء الذي تتنامى فيه أنشطة الاقتصاد الموازي (غير المهيكل) من خلال حضور لافت للفرّاشة (الباعة المتجولين)، والحرفيين المستقلين (سمكريين،صبّاغين…) الذين يقطنون في أحياء مركونة على حواف وادي سوس.
أطراف مدينة إنزكان (الأحياء المجاورة للوادي) كانت أكثر استقطابا للسكان بحكم رخص الأرض، وتغاضي السلطات المحلية إبان السبعينات وإلى حدود التسعينات الفائتة عن بناء المساكن بشكل غير قانوني، مع ما يترتب على ذلك من إهمال حكومي لجهة توفير الخدمات والمرافق الأساسية (مدارس، مراكز صحية،نقل عمومي…)، كما هو حاصل في حي مجاور للوادي، يعرف محلياً باسم “دوار الليل”. التسمية ليست صدفة بل جاءت كوصف للممارسات غير القانونية التي كانت تتم تحت جنح الظلام، كالبناء غير المرخص، وانتشار الدعارة والإتجار بالمخدرات. لكن مع بدايات الألفية الثالثة، لم تعد أحياء إنزكان الطرفية تعيش وفق أحوال الحي “الليلي” ذاك، إذ سجّلت “تحسينات”، بدأت تغير قليلاً من ملامحها العشوائية دون إلغائها، من خلال توفير بعض الخدمات الأساسية والخدمية (قنوات الصرف الصحي ومدارس ونقل عمومي وطرق…). لكن العشوائية مازالت حاضرة كمورفولوجيا سكنية غير لائقة وكتكدّس وغياب التناسق مع طول وعرض الأزقة. وتحضر أيضاً الحالة الهجينة في ممارسات السكان، وكمثال على ذلك، فمازال الإرث القروي متجلياً أحياناً في تربية بضعة قطعان من الأغنام أو الدواجن، حتى بعد الغزو الإسمنتي المديني للحي.
عموماً، شكلت مدن الهامش (إنزكان، آيت ملول، الدشيرة…) المركونة خلف أكادير بواجهتها “البراقة” السياحية، حالة هجينة بقليل من العشوائية والفوضى المكانية. ملامح مدينة “القليعة” أكثرها حدة لهذه الجهة.
اَلْقْلِيعة
ليست بقرية ولا بمدينة. هكذا يحكم الزائر من أول نظرة على “القليعة” (25 كيلومتراً جنوب أكَادير). وما بين المجالين (5) ولدت هذه المدينة، بمواصفات سوسيو-اقتصادية وثقافية ممتزجة ومركبة، لا يمكن تصنيفها داخل إطار جاهز، إذ تجمع ما بين أنماط حداثة مدينية مشوهة، وأخرى تنهل من إرث قروي متداعي.
المدينة التي بدأت بوادر نشأتها في بدايات تسعينيات القرن الماضي، سجّلت انفجاراً ديمغرافياً بمعدل نمو هو الأكبر في جهة سوس ماسة (5.69 في المئة، وفق احصائيات 2014). فمن تعداد بلغ حوالي 40 ألف نسمة عام 2004، إلى رقم مضاعف في عقد واحد، إذ وصل إلى أكثر من 80 ألف نسمة عام 2014.. وهو في تزايد!
تشكلت خريطة سكان القليعة من مناطق مغربية مختلفة، معظمها من القرى المجاورة أو البعيدة، وأيضاً من هوامش مدن قريبة منها (إنزكان، الدشيرة، آيت ملول…).
تثير المشاهدات الأولية لمدخل المدينة الكثير من الاستهجان، خصوصاً لدى مستعملي الطريق الرئيسية الوحيدة. فهي ليست معبدة بشكل كافٍ، وتتعرض لـ”عملية جراحية” (على حد وصف السكان) بين الفينة والأخرى، بسبب تكرار الأشغال العمومية لإدخال قنوات الصرف الصحي التي لم تشمل كل الأزقة والأحياء،خصوصاً الطَرفية منها. وهناك حضورٌ للأغنام التي تمضي باحثة عن بقايا نباتات يابسة، أو فضلات منزلية في الأراضي الخلاء القريبة من هذا الطريق، وعربات جر (كاروسات) تزاحم السيارات والمركبات، ينافسها طيش الدراجات النارية للمراهقين، مع كثير من المشائين جنب الطريق المغبر، وقليل من الواقفين تحت لفحات شمس الظهيرة، المُلَوِّحِينَ بأياديهم لأيّة وسيلة نقل (6).
الرأسمال يفرض كلمته على الأنماط
في الساعات الأولى من الفجر، تقف نعيمة شبه منتصبة بجوار زميلاتها قرب علامة تشير إلى أنها محطة الحافلة. الخوف والتوتر باديان على وجهها بعد أن خرجت من “جحرها” (كما تصف مسكنها)، المكدس وسط مئات المساكن المتراصة. النساء الواقفات مع نعيمة لا ينتظرن الأتوبيس، وإنما شاحنة صغيرة يتراصفن فيها لنصف ساعة، تقلّهن إلى”ضيعات” (مساحات زراعية حديثة أو مزارع) تنتشر خلف مدينتهن حيث تعملن كمياومات.
تمتص المصانع الموجودة في مدينة آيت ملول (على بعد 7 كيلومترات من القليعة) من جهة، والضيعات الفلاحية المتمركزة في المجال القروي من جهة ثانية (إقليم اشتوكة آيت باها)، عمل مئات النسوة القاطنات في هذه المدينة. مع بدايات الألفية الثالثة، صار الطلب عليهن أكثر من أي وقت مضى. ينظر العمال الذكور لهذه الظاهرة باعتبارها تستهدف “رجولتهم”، بعد أن صارت المرأة هي المعيل الأساسي، بل الوحيد أحياناً في بعض الأسر.
بعكس نعيمة – وهي المعيل الرئيسي لأسرتها – التي تعمل طيلة السنة في المصانع، وبشكل مؤقت وموسمي في الضيعات. يجد زوجها أحمد نفسه شبه عاطل عن العمل (عادة ما يمارس أعمالاً ترميقية). وهو لم يستسغ في البداية أن تخرج زوجته عند الساعات الأولى من الفجر، وترجع إلى المنزل بحدود منتصف الليل. لكنه مع الوقت برر هذه الخطوة بالقول: “المعيشة سؤال، وجوابها هو جلب المال وبأي ثمن”. موافقته هذه ليست مبنية على تمكين دور المرأة، ولكنها مؤسسة على الشروط الرأسمالية التي تحتاج اليد العاملة النسائية.
هذه ظاهرة حاضرة بشكل لافت في معظم هوامش وعشوائيات المغرب. بالنسبة للقليعة، تعمل أكثر من 86 في المئة من الإناث، قياساً بالذكور – حوالي 51 في المئة – وفقاً لإحصائيات المندوبية السامية للتخطيط لعام 2014 حول مستخدمي القطاع الخاص التي تخص المصانع والضيعات الفلاحية والمقاولات المتوسطة، بسبب توفر الشروط الاجتماعية (البطالة،”الهشاشة” الاجتماعية..).
يمثل أحمد ونعيمة نسبة مهمة من القرويين الذين توافدوا على القليعة في بدايات نشأتها (التسعينات) بسبب الجفاف الذي أنهك أراضيهم البنية الجافة، بحيث أن هجرتهما إلى المدينة كانت هي الحل. تؤثر الشروط الاقتصادية الجديدة على نسق أفراد جاؤوا من بنية قروية، إذ شكل حضور الضيعات على النمط الحديث والإنتاجي المتسلسل، وما يتبعها من تصنيع حضري متمركز في أطراف المدينة، فرصة و صدمة في آن. فرصة لكونها الخلاص الوحيد من حالة البؤس التي يعاني منها القرويون، و”صدمة ثقافية” لأن النسق الاقتصادي الحديث فرض كلمته في كل صغيرة وكبيرة، على المستويات الثقافية والاجتماعية: خروج المرأة للعمل ومشاركتها في تسيير مصاريف الأسرة، امتثال الأبناء لقيم المدينة المنفتحة في اللباس والكلام والتعامل الخ..
طبقة متوسطة تبحث عن مساحات إسمنتية بأي ثمن
تتوفر في القليعة البنى المؤسساتية التابعة للدولة: البلدية، والإدارات الحكومية، وأيضاً مخفر للدرك الملكي، وهي تُسيّر شؤون السكان. لكن المشكل يخص غياب التدبير المحكم والمنظم لهذه الاحتياجات، وخصوصاً الأمن، الذي يعتبر المطلب الأول للسكان.
أما الحياة اليومية فليست بأكملها متروكة لتتدبر الناس أمرها، وإنما تقع في وضعية وسطى ما بين أن ينظّمها القانون وأن تصير عرفية أو خارج القانون، مثل تدبير مشكلة الصرف الصحي، إذ تُسَيَّر بشكل غير مؤسساتي. أي أن الهيئة الحكومية المكلفة بالصرف الصحي لا تقوم بهذا الدور، وإنما تتولاه صهاريج خاصة يملكها أشخاص وتقوم بإفراغ مطمورات (خزانات) الصرف الصحي، وترمي سوائلها في الأراضي الخلاء القريبة من المجال الغابوي. وعلى الرغم من وجود نقل عمومي إلا أنه لا يكفي لاستيعاب كل الركاب، لهذا يستعين السكان بوسائل غير مصرح عنها مثل النقل بسيارات خاصة…
“لسنا كلنا فقراء وبؤساء وحثالة كما ينظر إلينا سكان المدن المجاورة”، يقول كمال، وهو مدرِّس حكومي، معبراً عن استنكاره للنظرة الضيقة والاختزالية تجاه مدينته. ويؤكد بأنه تقطن في هذا الفضاء المكاني نسبة ليست بالقليلة من الموظفين والمدرسين. وبالفعل، فـ”القليعة” لم تعد ملجأ محدودي الدخل فحسب، وإنما صارت تستقطب أيضاً الموظفين الحكوميين من مدرسين وإداريين متوسطي الدخل (7)، بحكم غلاء العقار الفاحش في المدن الأخرى المجاورة، وعدم استطاعة تلك الفئات تحمل سداد القروض السكنية طويلة الأمد (تصل أحياناً إلى 30 سنة)، إضافة إلى تطلعهم إلى إنشاء سكن بطوابق أي منزل مستقل يتكون من طوابق،ما يتيح إمكانية استثمار بعضها للإيجار كشقق متوسطة المساحة أوصغيرة، وأيضاً إمكانية إيجار المرآب في الطابق الأرضي للأنشطة التجارية كمحلات، أو للحرفيين والأعمال الحرة، مع ما توفره المدينة من تغاضي السلطات المحلية – أحياناً – عن الاشتراطات الإدارية في إلزامية رخصة السكن والتصميم في الأحياء الهامشية البعيدة، والاستفادة من انخفاض نسبي – مقارنة بالمدن المحيطة – لثمن قطع الأرض وخصوصاً تلك التابعة لـ”الوداديات السكنية” (8)، بطريقة سداد أسهل قياساً بالتمويل البنكي، مع إمكانية شراء مواد البناء ودفعها على أقساط مريحة لتجار تلك المواد.
يُفضّل الموظف المتوسط المرتبط بإرثه الثقافي المحلي أن يمتلك بيتاً، على استئجاره،أو حتى أن يمتلك شقة (9) صغيرة باعتبارها “قبراً في الحياة” (على حد وصفها لدى المغاربة). يحاول كمال أن يمتلك منزلاً بطوابق (وإن كان بمساحة ضيقة)، مع ما يتيح له ذلك من إمكانية التوسع عمودياً من أجل الاستثمار في الطابق السفلي (تحويله إلى بيت صغير ومرآب للاستئجار). وعلى الرغم من مستواه التعليمي وذهنيته المدينية،إلا أنه مازال متمسكا بنسق القرية المتوارث من والديه، في أن يتطلع – ما أمكن – لتأسيس أسرة كبيرة أو ممتدة، وليس نواتية على النمط الغربي الحديث. لكن الشروط الاقتصادية (الدخل المادي وما يتبعه من احتياجات) تفرض عليه أن يكتفي بإنجاب طفلين أو ثلاثة في أحسن الحالات.
الشباب يبحث عن أدوار مفقودة
“كانْدِيرْ بْحَالْ هاد الحْسَانَة حيتاش مَا بغيتش نْبان بْحَالْ دْمْدُومَة”،(أقوم بهذه التسريحة لكي لا أظهر وكأني جبان ومستكين). هذه الجملة تتكرر لدى الشباب الناشئ (الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و23 عاماً) كتبرير لتبنيهم نمط حياة بات سائداً بينهم،ولكنه غريب بنظر مجتمعهم المصغر (الحي والمدينة).
جمال شاب على أعتاب العشرينيات،هو واحد من شباب “القليعة” الذين يمثلون نسبة 26.5 في المئة (10) من السكان، وهو حريص على قصة الشعر المتبناة لدى معظم أبناء حيه: رأس بجوانب فارغة مع قليل من الشعر المتدلي إلى الخلف، سروال جينز مقطّع، وتيشرت بألوان غامقة، وطبعا السكين الطويل “رفيق دربه” (المخفي داخل السروال) وهو يستحيل أن يتنازل عنه. هكذا يحاول الشاب العشريني كسواه من شباب المدينة أن يتبنى “الانحراف”(عن الأخلاقيات السائدة.
جاء تبني جمال (ابن المدينة حالياً والوافد إليها من القرية) لهذا النمط كآلية دفاعية تجاه محيطه المصغر، بعد تعرضه في أيام مراهقته الأولى للتنمر والعنف اللفظي والمادي من قبل رفاقه في الحي والمدرسة، بسبب شكله وسلوكياته المُحيلة إلى القروي “الساذج”.. أو حتى لا يوصم بأنه “دمدومة” (جبان ومستكين). يحاول الشاب أن يتنصل من إرثه القروي أو حتى العائلي كأخلاقيات وممارسات، ويتمرد على سلطة الأسرة والمؤسسات (الدولة، المدرسة، الشرطة…)، وأن يبحث عن “رجولة” و”فتوة” مزعومة من خلال الانتماء لشلَة (كْليكَة وهي ترجمة لـclique) أو عصابات تنشط في السرقة وحتى الاغتصاب…،أو ممارسات تجمع بينهم (كالإدمان على الكحول والحشيش الرديء..).
يكاد لا يمر يوم دون سماع خبر عن جريمة أو جنحة، أو اعتداءات لصوص تصل إلى حد التسبب في عاهات مستديمة للأشخاص المستهدفين. سؤال الأمن لدى السكان يصبح أكثر إلحاحاً عاماً بعد عام، وهو يحضر أكثر من أي مطلب اجتماعي أو حقوقي آخر. فـ 13 دركي (وفق مصادر صحافية عام 2014) عددٌ غير كافٍ لتأمين مدينة تنتشر فيها الجريمة. لكن السلطات المحلية تواجه هذه المخاوف بوعود ببناء مخافر للشرطة، وإقامة دوريات أمنية للسيطرة على الوضع،و”تنظيف” المدينة من أصحاب السوابق.
يعي السكان أن المقاربة الأمنية لا تكفي لوحدها، إذ لا بد من توفير الخدمات والشروط الاجتماعية، التي تمنح أساسيات الحياة الكريمة دون تهميش، أو”حكرة” (احتقار). لكن هذا الأخير يبرر للشباب مشاعر الانتماء لعوالم العنف، وهم يكررون “المسؤولون واللي شادين البلاد (صناع القرار) ضيعونا وسرقونا واحتقرونا”.
عادة ما ترمي هذه الفئة من الشباب الناشئ في هذه المدينة (مثل نظرائهم في هوامش وعشوائيات المغرب) شماعة فشلها بالدرجة الأولى على الدولة، يلعنونها ويشتمونها في أحاديثهم اليومية ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى باتوا يغنون في الملاعب “في بلادي ظلموني” كشكل احتجاجي يعبر عن سخط جماعي. يحاول شباب الأحياء الهامشية المركونة في “النقط السوداء”بالمدينة أن يتجاوزوا نظرة أنهم مجرد “براهش” (مراهقين) التي يعتبرونها “استعلائية”، بممارسة العنف كشكل استعراضي.
تبحث هذه الفئة عن أدوار مفقودة اجتماعياً بسبب الاهتزاز العميق الذي أصاب البنية الاجتماعية والتراتبيات السابقة والقيم التي كانت تتماشى معها وتغلِّفها. وهو تخلّع ناجم عن الاقتلاع السريع من أماكنهم الأصلية والذي حدث غالباً بشكل كارثي وليس كتطور طبيعي، كما أنه لم يترافق مع استقرار في العمل والسكن – مهما كان بائساً – بل غلب عليه تدبر الحال المضطرب. وهم غالباً ما يحاكون دور الأخ الأكبر في الوصاية الأبوية والذكورية على الأخوات، أو فتيات الزنقة، حرصاً على “شرفها”، و”مدى احترامها لأخلاقيات الحي، أوتارة أخرى كشاب يرغب في ممارسة ذكوريته العنيفة في استمالة شابات الحي بالتحرش بهن، أو في “أحسن الأحوال”الدفاع ومساندة “ولْد الحومة” في خلاف أو مشاجرة تستدعي القتال.
أما السياسة.. فَلا يَهُم مَنْ سيكْسب
بدأت الحملة الانتخابية، وكالعادة تُفرَش الأوراق المالية الزرقاء (200 درهم) على الناخبين المفترضين، ومعها هدايا ووعود وخطابات خشبية مع ابتسامات صفراء توزع على السكان. “حزب اشتراكي،إسلامي،مخزني…لايهم، المهم اللي يْخْدمنا”، هكذا يرد السكان على سؤال: لمن ستصوتون؟
سَجلت القليعة كسواها من المدن المغربية الهجينة توالياً لكل الإحزاب، يسارية ويمينية وإسلامية ومخزنية. والمحصلة لا ملامح ولا أثر لتنمية تمس الإنسان بشكل فارق. المدينة الموصومة بكونها “قلعة للإجرام” تتطلع لأن تخرج من براثن هذا الوصف. السكان لم يعودوا يكترثون لشعارات السياسيين في الحملات الانتخابية ولا لتحالفاتهم الحزبية بعد الاستحقاقات، أو لخلافاتهم خلال تصويتهم على مشاريع محلية غالباً لا ترى النور، بل لم تعد تكترث حتى لأخبار تورطهم في ملفات الفساد السياسي.”نُحس بالعار ولا نريد لمدينتا أن تصل لهذه المآلات…” يوجز السكان كلامهم عن رغبتهم في تحسين البينة التحتية والظروف العامة لمدينتهم.
عملياً، يَعد سياسيو المدينة “المنتخبين” بإنجاز مشروع متكامل يشمل أشغال التطهير (أي إنشاء قنوات الصرف الصحي)،تبلغ قيمته المالية 56 مليون درهم (حوالي 5.6 مليون دولار). أما الطرق الداخلية المهمة فـ”سترى النور” (وفق تعبيرهم) مثل الطريق الإقليمية 1005 (الشطر الأول)، التي ستسهل الولوج إلى المدينة، علاوة على استحداث خط جديد لحافلات النقل العمومي يمر من الأحياء المجاورة للمدينة، كما يعدون بتقوية شبكة الإنارة العمومية في مجموعة من الدواوير (تجمعات سكنية قروية و شبه مدينية) والأحياء بمصابيح صديقة للبيئة واقتصادية، وبتعبيد الأزقة. أما أمنياً، وهو أهم مطالب السكان،فيطمئنونهم هؤلاء “المنتخَبون” بإمكانية إنشاء مفوضية للشرطة بالمقر القديم للبلدية.
غير أن البطء والمماطلة هما سمة المشاريع التنموية المحلية بالمغرب، والقليعة أكبر مثال على ذلك. ويبدو أن المدينة محكوم عليها بأن تظل “عشوائية” مترنحة ما بين نسقين مشوهين، لا تشبه المدينة ولا القرية.
المراجع:
1-صرح الناطق االرسمي باسم الحكومة، مصطفى الخلفي ، بأنه “عندما أطلق مشروع “مدن بدون صفيح”، والإعلان عن هدف بلوغ 85 مدينة بدون صفيح، والذي يقتضي بناء 270 ألف وحدة سكنية، تم بناء 277 ألف وحدة، أي تم تجاوز الهدف، ولكن مع تحديث عملية الإحصاء، وصلنا إلى الحاجة لـ420 ألف وحدة سكنية، وهو مؤشر رقمي دال، أي تم القضاء على 59 مدينة من أصل 85 مدينة الذي كان هو الهدف”.
2- منطقة تقع في جنوب المغرب،سميت بهذا الاسم نسبة إلى وادي سوس الذي يعبر أراضي تارودانت وأكادير ونواحيهما من مدن وقرى.
3- اعتمد المغرب برنامج تجديد التاكسيات بأخرى من الحجم الكبير ومريحة للركاب منذ عام 2014، في إطار دعم تقدمه وزارة الداخلية، لكن التاكسيات المهترئة ما زالت موجودة (خصوصاً في المدن الكبرى) بسبب توقف الدعم الممنوح.
4- الرقم يخص فقط محلات سوق البلدية، سوق الثلاثاء، سوق الخضر والفواكه، وسوق الحبوب، دون احتساب محلات سوق الحرية والمتلاشيات (أي الخردة الحديدية) والقيساريات (مجمع محلات عصري).
5- جغرافياً، تتموقع القليعة ما بين إقليم اشتوكة آيت باها الذي يغلب عليه الطابع القروي، ومنطقة إنزكان آيت ملول التي يسود فيها الطابع المديني الهجين.
6- توجد في القليعة وسائل نقل متنوعة من حافلات للنقل الحضري (تابعة لشركة اسبانية)، وحافلات ومركبات من الحجم الصغير (mini bus)، وسيارات الأجرة (التاكسيات الكبيرة)، معظمها يقل السكان إلى مدن آيت ملول وإنزكان ووسط أكادير. لكن الطلب عليها يتصاعد، وتسجل ازدحاماً يومياً وخصوصاً بما يخص حافلات النقل الحضري التي تعرضت لحوادث متكررة شملت الكسر والتخريب والنشل من اللصوص.
7- تصل نسبة موظفي القطاع العام بالمدينة إلى 4.5 في المئة (إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط عام 2014)
8- مؤسسة تشبه جمعية أو تعاونية غرضها إنشاء مشاريع سكنية بتكلفة أقل لفائدة المنخرطين فيها، إذ يسددون دفعات مالية محددة في فترات زمنية موزعة ويتشاركون في اقتناء الأرض ودفع جميع التكاليف فيما بينهم.
9- سعرها المتداول لدى الشركات العقارية بحدود 250 ألف درهم (حوالي 25 ألف دولار) لمساحة تتراوح ما بين 50 و80 متر مربع.
10- نسبة من تتراوح أعمارهم ما بين 20 و 34 سنة. وهي 9.4 بالمئة لمن هم بين 15 و19 سنة (إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط/عام 2014)
(*) كل الأسماء الواردة في هذا النص مستعارة.
ينشر هذا التحقيق باتفاق مع جريدة السفير العربي التي خصصت هذا الموضوع ضمن عدد خاص من دفاترها مخصص لموضوع العشوائيات في العالم العربي.