تفاعلا مع دعوة السيد الأمين العام لحوار داخلي بالحزب، وتثمينا للمنحى الإيجابي المتمثل في البحث عن إيجاد سبل تجاوز الأزمة التنظيمية، وتفادي المزيد من هدر الزمن الحزبي والسياسي لاسترجاع الثقة والمبادرة الحزبية، والتهييء لمختلف الاستحقاقات القادمة بنفس وحدوي، وتشجيعا لهذه المبادرة ذات النفس في التعبير عن الإرادة في رأب الصدع ولم الشمل، لا بأس من تسجيل ملاحظتين أوليتين أساسيتين:
تتمثل الأولى في دفع المبادرة إلى مداها من حيث الجرأة في تدقيق مضامين ومحتويات التداول والنقاش داخل الحوار المنشود.
بينما تتجسد الثانية في التسريع بالدخول في هذا اللقاء، وكذا تسريع وتيرة الاشتغال وبلوغ مقصد تحقيق أهدافه من جهة أخرى، خاصة وأن الوقت لا يرحم وفي غير مصلحة الحزب من حيث القيام بأدواره داخل المشهد السياسي.
وللمساهمة في إغناء مبادرة السيد الأمين العام لابد من لفت الانتباه إلى ما يتطلبه الجانب الشكلي من التفكير في الإطار التنظيمي الحاضن للحوار؛ خاصة وأن كل الأجهزة غير قادرة على احتضانه لعيوب تتعلق بتشكيلها وتشكيلتها وفعاليتها. والعمل على توفير سبل إنجاح المبادرة بالتنسيق القبلي بين الطرفين، وضمان التزام الجميع بالقضايا والمشاكل الأساسية المطروحة، والتحلي بقيم وقواعد وضوابط الحوار بما يحفظ واجب التقدير والاحترام للجميع. تفاديا للعديد من أسباب ومسببات التفجير، وتفويتا لأية فرصة على جهات عديدة متربصة وتعمل على إحباط أية خطوة للتقارب أو الاتفاق، وتساهم في إذكاء شروط الانقسام، وتعرقل أية محاولة لإيجاد مخرج للوضع المأزوم.
وعلى عموم المناضلات والمناضلين، الوعي بأن للعمل السياسي والانتماء الحزبي عنوان اسمه الميل إلى الإيمان بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية. وللمثقفين والأطر الجمعوية والنقابية والسياسية دور هام في استقطاب الناس إلى مجال النضال السياسي، وجعلهم في قلب الاستعداد الطوعي لخوض كل أشكال النضال والتضحية.
وهو ما كان يجعل الخطاب السياسي نافذا إلى مسامع الناس وعقولهم، شبابا وشيبا، ذكورا وإناثا، ويدفع الناس إلى تتبع الأحداث والوقائع السياسية، وتحليل الأوضاع والمخاطر التي تهدد البلاد، وتقدير التوجهات والاختيارات الممكنة والمحتملة، ويعطي للنضال السياسي والانتماء الحزبي شرف الانتماء إليه، ويجعله محط إعجاب وتقدير لدى كافة الناس داخل المجتمع، فينتج عن ذلك بالضرورة الإحساس بالمشاركة السياسية والانخراط في تفاصيلها.
وغياب كل هذا، إما بفعل الإكراه أو التقصير، أدى إلى غياب التأهيل السياسي اللازم للمرحلة، وخروج الناس عن مجال الرهان الوطني المتمحور حول النهوض بالأوضاع المعيشية والعلائقية داخل كل من المجتمع والدولة، وإضعاف مبدأ احترام المؤسسات والإطارات والقوانين والضوابط، والابتعاد عن دمقرطة صيغ إنتاج المواقف والقرارات، والانحراف عن خط التنوير على مستوى التصريف التواصلي والإعلامي.
ومنذ تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، دأب المناضلون على التعامل فيما بينهم على قاعدة القيم والضوابط الضامنة لشروط الوقار الذي يحفظ مكانة الأشخاص، ويصون مبدأ الاحترام المتبادل، لتيسير ظروف الاشتغال، بما يسمح بحضور طابع الرفاقية وروح التضامن ونقاء الأجواء. غير أن المنحى العام في هذه المرحلة، وللأسف، سار على النقيض من كل ذلك، بحيث لم يحفظ كرامة الأشخاص والمجموعات بفعل النعوت المشينة المستخدمة في الخطاب، والمتداولة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، على سبيل التشهير ونفث سموم الأحقاد والكراهية.
وقد تبين أن العديد من المنتسبين للحزب، بدوافع متفاوتة من حيث الأهداف، سقط في هذا الفخ، في حين كانت بوصلة عملنا الجماعي هي تلك المعايير الأخلاقية والسلوكية المطلوبة والموجهة لكافة الأعضاء لتحمل مسؤولياتهم التنظيمية والسياسية، وفق قواعد وأصول متعارف عليها فيما بيننا، وملزمة لنا من حيث الحفاظ عليها وعلى الدور المنوط بنا داخل المؤسسة الحزبية.
ومن منطلق المسؤولية الأخلاقية التي تطوق عنقنا، من اللازم في هذا الحوار التحلي بالقدر الكافي من الجدية، فيما يخص علاقاتنا كمناضلين وكفاعلين داخل المشهد السياسي، والبقاء في حدود دائرة الأخلاق والقواعد التي ترشدنا لممارسة مهامنا، وحفظ قيم الثقة والاحترام والكرامة في العلاقة بالأجهزة التنظيمية.
خاصة وأن الوعي كان قائما فيما سبق بأن السقوط في فخ التهجم على الأجهزة والأفراد بألفاظ وأوصاف ونعوت بذيئة يعد سلوكا غير معقول ولا مقبول في سياق وظيفتنا السياسية والتأطيرية، ويبعدنا عن منطق تغليب الحكمة والعقل فيما يتعلق بالتزاماتنا وواجباتنا تجاه المناضلين والأجهزة الحزبية التي نتموقع داخلها، ويلقي بنا بعيدا عن الحس السليم في التصرف بشكل لائق، ويجنبنا تدمير ما تبقى من قواعد الأخلاق الضابطة للتعامل.
وأمام هذه المبادرة الثانية للسيد الأمين العام، أود التأكيد على أن الوضوح اليوم يقتضي الإقرار بأن الاختلاف الحاصل في التقدير داخل الحزب يرجع في الأصل إلى التساهل في التعاطي مع غياب الاحتكام لقواعد وضوابط الديمقراطية الداخلية، وعدم انضباط القيادة للقواعد القانونية المؤطرة للعلاقات داخل الأجهزة التنظيمية.
فاللجنة التحضيرية الشرعية لحدود اليوم، هي اللجنة التي صادق عليها المجلس الوطني في دورته الأخيرة بالصفات والمعايير المحددة وغير القابلة للمراجعة. وأعضاء اللجنة التحضيرية الشرعيين، هم الذين تم البث في تمثيلتهم بالأسماء، وبشكل نهائي في بداية الاجتماع الأول للجنة التحضيرية. والشرعية المتنازع حولها، منذ الاجتماع الأول، تخص رئاسة اللجنة التحضيرية، ولا تمس شرعية اللجنة ذاتها.
والاجتماع الأول للجنة التحضيرية عرف تجاذبات صاخبة من البداية حتى النهاية، ولم يشكل ذلك شرطا موضوعيا ولا سببا لتعليق الاجتماع وإنهاء أشغاله. لأن خلفية التجاذب كانت واضحة منذ البداية، وهي المتمثلة في بروز طرفين أساسيين متنافسين على رئاسة اللجنة التحضيرية، ولكل منهما مرشحه. غير أن الأمور سارت في اتجاه وجود مرشح واحد بعد فتح باب الترشيحات.
بالإضافة إلى أن كل ما وقع لم يكن يجيز اللجوء إلى المحاكم ومساطر إنهاء المهام لعدد من مسؤولي الحزب وطرد عدد من المناضلات والمناضلين، والقيام بتعيينات خارج السياق القانوني لإسناد المهام داخل الأجهزة، وإغراق الهياكل التنظيمية بأعضاء جدد، بالشكل الذي غير طبيعتها وشكلها ووظائفها.
واليوم، فالمؤتمر الوطني الرابع للحزب هو شأن يعني جميع مناضلات ومناضلي الحزب، عبر تمثيلية اللجنة التحضيرية المصادق عليها في آخر دورة للمجلس الوطني. لذلك، فكل المشاكل الناتجة عن عدم الانضباط لقواعد وضوابط الديمقراطية الداخلية، إذا ما تم الوعي بها، هي قابلة لإيجاد الحلول، بل وللتجاوز من أجل تصحيح المسار.
لكن المطلوب أساسا، هو عدم الإنصات لمن لا مصلحة لهم في رأب الصدع، والتنازل عن بعض الأنانيات المفرطة، والقبول بمعادلة لا غالب ولا مغلوب، والاحتكام إلى الآليات الديمقراطية بدل تلك التوافقات المرضية القاتلة لطموح التغيير وتجديد النخب واسترجاع الثقة وزراعة الأمل وتوفير شروط الدينامية المطلوبة في المرحلة على المستويين التنظيمي والسياسي.