صحافة البحث

شارل لوكور.. النبش عن تفسير لسلوك المغاربة.

- الإعلانات -

شارل لوكور من الباحثين الشاردين داخل التقليد السوسيولوجي الفرنسي. من بين أعماله الميدانية المهمة، والتي تخص المغاربة، البحث الذي أنجزه حول مدينة أزمور والذي قدم فيه التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي ستعرفها أزمور منذ بداية الاحتلال الفرنسي، معتمدا في ذلك على كل الوثائق التي جمعتها البعثة العلمية تحت إدارة ميشو بللير وكذا على عمله الميداني المباشر. لقد عقد شارل لوكور العزم بدءا على البحث في الحقل المغربي لكنه بعد ذلك سيغر مساره باتجاه بحثه الحالي. 

ليس من باب الصدفة أن يقدم اسم من حجم جورج بلاندي لهذا المؤلف الذي يحمل عنوان “الطمس والأداة”، فصاحبه لا يساير تقليد سابقيه ومعاصريه في شيء لا من حيث اختياراته المنهجية أو من حيث زاوية تحليله للموضوع وطبيعة تصوره للمغاربة. وعلى الرغم من أن البحث تم في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي – يقول بلاندي – لم يستهلك لوكور النظرة الاستعمارية مثلما لم يسخّر بحثه لأجل فرنسيي المتروبول أو لأجل المؤسسة العسكرية والسياسية. في الأمر غرابة وغموض، لقد انتقد لوكور فرنسا وفي الآن نفسه أحدث ثورة في الدّين الذي لليوطي على كل الباحثين الفرنسيين. طريقته في ذلك الانخراط الذاتي والنظري في تأسيس معرفة متخلصة من الأحكام المسبقة تجاه المغاربة الأهالي، وكذا الدوغمائية المنهجية للنزعة التطورية التي كانت سائدة آنذاك. سيبرز شارل لوكور، حسب بالانديي، القوة الفعلية والإجرائية للطقوس في كل المجتمعات، وهو ما يعتبر تمهيدا لثورة داخل حقل العلوم الاجتماعية. 

في تقدميه لكتابه، يعتبر ش.لوكور أن عمله هو عصارة لعشر سنوات من الحياة بإفريقيا (الكتاب يضم جزءا من البحث في منطقة التبستي جنوب الصحراء قبل أن ينتقل لرصد مدينة أزمور). “لقد وصلت إلى المغرب واكشتفت الاستعمار مع عشرينيات القرن الماضي، وطتبت حينها في إحدى الأسبوعيات أن سياسية التهدئة التي تمارسها فرنسا لا تحمل أي طابع إنساني بل هي أضعف أنواع الشر، ولذلك تجب إدانة مبدأ الاستعمار في حد ذاته، لم يكن الأمر سهلا حينها، لكن شارل لوكور سيتمم انخراطه في المعركة عبر إنجاز بحثه. لقد درّس لوكور المغاربة بثانوية مولاي يوسف وبعدها بالمعهد العالي للدراسات المغربية، وخلال احتكاكه بطلبته المغاربة سيعيش لوكور قلقه المعرفي والوجودي: ما معنى حقيقة الذات والآخر؟ من هو المتحضر ومن ينتمي إلى الأهالي؟ كيف يمكن للمرء أن يكتشف في ذاته تعدديتها؟ كيف له أن يعثر على الآخر فيها؟ 

يقول شارل لوكور: “التناقض بين الإنسان كما يبدو لذاته وكما يبدو للآخرين وكذا المجهود الذي يبذله لحله هو النواة الأساسية لكتابي هذا. يبدو الإنسان لذاته مثل رجل تقنية ويبدو للآخرين مثل مبدع للطقوس. يتصور الفرنسي ذاته كرجل تقنية وينظر إلى المغربي ككائن طقوسي، إنها المفارقة – يقول شارل لوكور – التي تفسر منحي لهذا الكتاب عنون الطقس والأداة”. 

مهمة السوسيولوجيا المغربية أن تفهم لغير المغاربة ما يستطيع المغاربة وحدهم فهمه. ليس هنالك علم أكثر ثورية وتناقضا من هذا. وفي مجتمع مثل المجتمع المغربي، مهمة العالم هي الوعي بأهمية السوسيولوجيا التلقائية للأهالي. كيف يتبادل المغاربة التحية؟ وكيف يتناولون طعامهم ويرتدون لباسهم ويقيمون أعراسهم ويشيعون موتاهم؟ إنها الأسئلة التي تجعل من السوسيولوجي إما قادرا على الانخراط في اللعبة عبر فهم قواعدها أو غريبا عن ذاته وعن الآخرين. كل مجتمع – يقول شارل لوكور – كوميديا أو ملهاة. لكن هاته الملهاة لها معنى. إنها تحدث بلاغة الأحاسيس. ففي الحياة الاجتماعية الإحساس هو مبرر وجود الفعل الاجتماعي. 

حينما يتعرض أحد أصابعنا للاحتراق فإن رد الفعل الغريزي يكون هو الابتعاد عن النار، لكن حينما نفقد قريبا فإن الحركات الدالة على الحزن والدموع وصراخ النساء والماء الذي نبلل به القبر لا تحمل قيمة في ذاتها، بل إن ما يهم هو الألم والرحمة التي تعتبر عنهما. كل حركات المغربي وتعبيراته يتداخل فيها الكقوسي مع الأداتي، والنافع مع الدال، والحياة الاقتصادية مع الحياة العاطفية، والحفل المغربي أكبر دليل على ذلك، يقول لوكور. ليست هنالك حدود أو حواجز بين الفعل والحركة النافعة وبعدها الطقوسي الحامل للإحساس والمعنى والرمز. حينما يزيل المغربي حذاءه وهو يهم بالدخول إلى المسجد فإنه لا يهتم بالنتائج المادية لفعله هذا، بل برمزية الاحترام لقدسية المكان. لذلك، يقول شارل لوكور، تحمل حركات وأفعال المغاربة غايتها في ذاتها. فالأمر لا يتعلق بفعاليتها المادية بل بتعبيراتها الرمزية. إنها القاعدة التي تنطبق على جميع الطقوس الصغرى مثل التحية وبلاغة التسول، والكبرى مثل الأعراس والأعياد والجنائز ومواسم الحصاد والاستسقاء وعاشوراء…