صحافة البحث

بنيونس عميروش يكتب: المشترك في التشكيل والسينما.

- الإعلانات -

منذ ظهورها، عملت الفوتوغرافيا على تَعقُّب خطوات التوجهات التشكيلية التي أسست للجمالية البصرية عبر سيرورة ومنعطفات تاريخ الفن الذي ظل مرتبطا بالفنون القديمة (التصوير la peinture، النحت، المعمار) طيلة عهود مضت. في خضم هذا التَّعَقُّب، سرعان ما شكلت الصورة الفوتوغرافية النواة الأساسَة للصورة المتحركة، لتنفتح آفاق جديدة على توطيد العلاقة بين فنون التشكيل والسينما، حيث أمسى البعد التشكيلي يتخذ مكانته الإبداعية والجمالية في الأساليب السينمائية ونظَرِياتها.

مع انطلاق السينما الطلائعية (فرنسا، ألمانيا) في ثلاثينيات القرن العشرين، أضحت مفاهيم الدادائية والسريالية محاور اشتغال التشكيليين والسينمائيين. ومثلما اشتهرت أفلام الدادائية (“الباليه الميكانيكي” للتشكيلي فيرناند ليجي، “بين الفصول” لرونيه كلير)، عرفت السريالية، وضمنها “الكوميديا السوداء” إقبالا من لدن التشكيليين والسينمائيين الذين اشتركوا في إنجاز العديد من الأفلام التي يأتي في مقدمتها “الكلب الأندلسي” للويس بونويل وسالفادور دالي. فيما انتقل مفهوم التشظي من فنَّيْ التصوير والنحت إلى الأدب والسينما استنادا إلى القاعدة المُؤَطِّرة للفن التكعيبي.

إلى جانب هذه التداعيات المذهبية، سيدعو السينمائي والمنظر إيريك رومي (Eric Romer 1955) في مجلة دفاتر السينما إلى “مجابهة تاريخ السينما بتاريخ الفنون الأخرى، مستلهما الأشكال الأيقونية المرتبطة بالأعمال الفنية عبر التاريخ، وخاصة ما يتعلق بالفنون التشكيلية القديمة والمعاصرة”. في تناغم مع هذه الدعوة التي تتخذ عدة أبعاد، نشير إلى السينمائي والمنظر أندري تاركوفسكي Andrei Tarkovski(1932- 1986) الذي أفرد فيلمه الثاني (بعد “طفولة إيفان، 1962”) لأحد أكبر رسامي الأيقونات الدينية أندري روبليف Andrei Rublev (1360-1427) (2). فيما اتخذت العديد من الأفلام السينمائية تشكيليين مؤثرين أبطالا لها، من أمثال بيكاسو وموديغلياني وفانغوغ وغيرهم، فيما نجد أكثر من فيلم حول الفنان الواحد، كما هو الشأن بالنسبة لفرانشيسكو غويا الذي شكل موضوع ثلاثة أفلام روائية طويلة: الفيلم الأمريكي “مايا العارية” بإخراج هنري كوستر عام 1959، والفيلم الإسباني “غويا” بإخراج نينو كوفيدو عام 1971، والفيلم الألماني السوفياتي المشترك بعنوان “غويا: الطريق الشاق إلى المعرفة” يتوقيع كونراد فولف عام 1971 أيضا، وذلك نظرا لثراء سيرته وقوة تأثيره التعبيري.

لقطة من فيلم أندري روبليف لتاركوفسكي 1966

مثل لوحات غويا وكثير الأعمال التشكيلية القديمة، ظلت مثار اهتمام السينمائيين لاستحضار أجواء تاريخية محددة بمعمارها ولباسها ونمط عيشها، وبخاصة الأفلام التي تقوم على الأحداث التاريخية. فيما ظل باستمرار تعاون التشكيلي مع المخرج في إنجاز الديكورات وتصميم الملابس والأكسسوارات وإنجاز الأفكار والتصورات، بحيث قدمت السينما للتشكيلي عديد المداخل للاشتغال، وأبرزها إنجاز ملصقات الأفلام Les affiches التي تعد إنجازات فنية في حد ذاتها. فيما منحت السينما إمكانات جديدة للتشكيلي في معالجة الضوء وفي سبل التأطير Cadrage أيضا، فالمبالغة في التكبير لدى التشكيليين في عصرنا، إنما تروم خلق إثارة شعورية مشابهة للقطة المقربة في الفيلم السينمائي وما يصاحبها من موسيقى الخلفية التي تربط بين اللقطات المتباينة والمتتالية، لتضفي على الشخصية المصورة شحنة عاطفية من خلال التوليف الهارموني. ولعل الفنان “كريستيان بيرارد”، يعتبر أول من اعتمد اللقطة المكبرة في التصوير الزيتي بطريقة منهجية في 1937، تاريخ معرضه في باريس والخاص بمجموعة من البورتريهات المدهشة في تجانسها والمرسومة بالحجم الطبيعي (41).

   في حين برزت العديد من الأعمال السينمائية كتجارب رائدة على المستوى العالمي لسينمائيين تشكيليين، كنموذج الياباني أكيرا كروساوا، فبعد أن تابع دراسته بمدرسة الفنون الجميلة بطوكيو، وعبَّر عن إرادته في شق مساره في الإبداع التشكيلي بإقامة عدة معارض في اليابان، قرر تغيير الوجهة نحو السينما، ليلتحق بشركة “بي سي إل” العام 1935 كمساعد مخرج متدرب، كما انضم بنفس الصفة في 1936 إلى الشركة السينمائية “توهو” ليتعلم على يد المخرج الياباني ياماسان، غير أن هذا التحوُّل لم يمنعه من استثمار ما اكتسبه من الدرس التشكيلي الذي بات يحمله في كيانه، إلى الدرجة التي صار يعمل فيها على ترجمة السيناريوهات التي يكتبها بنفسه أو تلك التي يساهم في كتابتها إلى لوحات (Planches) قبل الشروع في مرحلة التصوير.

لعل هذه الإمكانية الإبداعية المُضافَة، هي التي مكَّنَتْه من وضع المسافة مع التقليد، ليحقق انزياحا باهرا ضمن مُيولات السينما العالمية إلى حدود الأربعينيات، منذ أول أفلامه الطويلة “سانشيرو سوجاتا” الذي أنجزه في 1943، استنادا إلى صياغة بصرية ملفتة وطريفة، تكثف الجمالية والدلالة على حد سواء لدى المُشاهِد. ذلك أن »كاميرا كوروساوا، منذ البداية، تتحرك بشكل مختلف، بطريقة تكاد تكون طقوسية تقريباً، وتكرر وتعيد تكرار نمطها الاستهلالي. ومن المحتم أن النتيجة هي صورة مختلفة، عما تقدمه السينما اليابانية نفسها من خلال مخرجين يابانيين آخرين، وأيضاً مختلفة عما تقدمه هوليوود (…) هذه الصورة ستحلق إلى ذروة رفيعة في العديد من أفلام كوروساوا، كما سنجدها في “الساموراي السبعة” وفي “ران” وفي العديد من أفلام المخرج الياباني الكبير الأخرى«  (كمال يوسف حسين).

لقطة من فيلم “الساموراي السبعة”

بصدد فيلمه التاريخي “راشومون” (الترجمة الأدبية: “في الغابة”، عن حكاية الكاتب الياباني أكوتاجاوا) الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي سنة 1950 وجائزة أحسن فيلم أجنبي بهوليوود في نفس السنة، وهو الفيلم الذي رغب في أن يكون صامتا، بصدده يقول: “أحب الأفلام الصامتة، وقد أحببتها دوماً، وهي غالباً أجمل بكثير من الأفلام الناطقة. وربما يتعين أن تكون كذلك. وعلى أي حال فقد أردت استعادة بعض هذا الجمال. وأتذكر أنني فكرت في هذا الأمر بهذه الطريقة: إن أحد الأساليب الفنية لفن الرسم الحديث هو التبسيط، وبالتالي فلابد لي من تبسيط هذا الفيلم”.

إن عمل كوروساوا على تثبيت الظل برؤية مرهفة للغاية، هو نوع من التماهي مع الجمالية الانطباعية التي أسست جماليتها على تسجيل الانطباع البصري كما تحسه العين في ملاحظة تبدلات المناظر بحسب الضوء والمناخ والفصل والساعة، ولذلك توجهت إلى ما هو أكثر شفافية وتبدلا في الطبيعة، باعتبار هذه الانعكاسات الحقيقة المُثْلى لعالم متحول. هكذا أضحى »عنفوان الصورة كأداة لإعادة اكتشاف جوهر ما تعنيه السينما. يعتقد الكثير من النقاد أنه ربما منذ إيزنشتاين ومورانو لم يقَدَّر لأي فيلم أن يبتكر سرده من خلال صور شديدة العنفوان بلا هوادة على نحو ما حدث في “راشومون”، حيث تبدو الصور حقاً كما لو كانت تعيد اكتشاف جوهر المقصود بالسينما» كما يوضح كمال يوسف حسين.

من النماذج السينمائية العربية، يتألق السينمائي المصري شادي عبد السلام (1930 – 1986) باعتباره مبدعا متميزا يشتغل بأياد متعددة. إنه التشكيلي الذي أبدع في فن التصوير la peinture، كما أبدع في تصميم ديكور وملابس عدد من أهم الأفلام السينمائية المصرية، فيما ظل يشتغل بعين الفنان التشكيلي في أفلامه (التسجيلية بخاصة)، بوصفه المخرج الذي عكست أعماله رؤيته الفريدة للثقافة المصرية القديمة والتراث الإسلامي والقبطي أيضا. ومن ثمة، وضع فيلمه الروائي الطويل الوحيد “المومياء” السينما المصرية على خريطة السينما العالمية. ومن خلاله نال عدة جوائز منها جائزة “جورج سادول” (Georges – Sadoul) بباريس في 1970 سنة إنتاجه، بينما اختارته المؤسسة العالمية للسينما في 2009 كواحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، وقامت بترميم النسخة الأصلية، وتم الاحتفاء به في مهرجان كان السينمائي في نفس العام.