- الإعلانات -
بول رابناو من الباحثين الأنثروبولوجيين الأمريكيين الذين اشتغلوا على المغرب، وبالضبط على الأحواز القبلية لمدينة صفرو، وذلك تحت إشراف كليفورد كيرتز من سنة 1968 إلى 1969م. وقد أصدر إثر ذلك بحثه بالإنجليزية تحت عنوان “الهيمنة الرمزية: التشكل الثقافي والتغيرات التاريخية بالمغرب”. لم يثر هذا البحث التقليدي، كما ينعته رابناو، حفيظة البحثة والمهتمين مقارنة بالمؤلف الثاني الذي سينشره بعد ذلك تحت عنوان “إثنولوجي بالمغرب”، وهو عبارة عن تأمل ذاتي ونظري في بحثه الميداني السابق. هذا المؤلف الأخير سيكتب تقديمه السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو والذي سيعتبره لحظة القطع القصوى مع التصور الوضعي للبحث العلمي. لقد رسخ رابناو تصور كيرتز للمعرفة ولميدان البحث والعلاقة بين الباحث والمبحوث. يقول بورديو إن الإشكالات الجديدة التي يتطرق إليها رابناو، خصوصا تلك المتعلقة بمخبريه، تلخصها جملة شهيرة لجان بياجي يقول فيها: لا يتعلق أمر الكلام عند الرضع بكونهم لا يستطعون إنجازه، بل إنهم يجربون جميع اللغات إلى أن يعثروا على اللغة التي يفهمها آباؤهم.
في تقديمه لكتابه يقول رابناو: “لقد غادرت شيكاكو يومين بعد اغتيال روبير كينيدي وذلك باتجاه المغرب. وصلت باريس في غشت 1968م، وهي فترة الانتفاضة الطلابية الفرنسية، وبعدها توجهت إلى المغرب وبالضبط إلى مدينة صفرو حيث قمت بعملي الميداني في قبائل الأطلس المتوسط. الكتاب الذي أقدمه للقارئ الآن هو تقرير مفصل نسبيا عن هاته التجربة الميدانية بالمغرب. وقد حاولت فيه أن أتحرر من سلطان التصور التقليدي الذي طبع الإثنولوجيا، والذي يزن الباحث بميزان تجربته الميدانية والتجريبية. لقد اخترت المقاربة الفينومينولوجية والتأويلية، على اعتبار أن كل ثقافة هي في النهاية تأويل. فالوقائع التي يدونها الأنثروبولوجي في الميدان ليست وقائع خامة بل إنها تأويلات. الوقائع تحكى من طرف الناس، وبما أنها كذلك فإنها ليست غير تأويلات هؤلاء الوقائع. لا تشبه الوقائع ركام الحجارة التي نجمعها ونرسلها للمختبر كي يتم تحليلها، بل إنها معطيات مبنية أصلا، والأنثروبولوجي يضيف إليها بناء جديدا، هكذا تصبح كل الوقائع حاملة في طياتها تأويلات عديدة. إن الأنثروبولوجيا، حسب براناو، علم التأويل، أما موضوعها فهو دراسة الإنسانية من منظور الآخر الذي لا يتفوق عليها في شيء”.
بناء على هاته المحددات النظرية المتشبعة بالميدان، يعتبر رابناو أن الإثنولوجي ومخبريه يعيشون معا في فضاء ثقافي متوسط (بفتح السين) وهما معا مشدودان داخل شبكات الدلالة التي نسجها بأنفسهما. هي ذي الإثنوبولوجيا أما وقائعا فإنها عابرة للثقافات بما أنها تتشكل عبر انتهاك الحدود الثقافية. الوقائع توجد في الواقع المعيش لكن يتم تشكيلها أثناء مسار الاستجواب والملاحظة والتجربة. هذا المسار الذي يعتبر مشتركا بين الإثنولوجي والناس الذين يعيش بينهم. مما يعني، حسب قول رابناو، أن المخبر (الشخص الوسيط بين الأنثروبولوجيين والمبحوثين) عليه أن يظهر ويعلن ثقافته ويعيها ويضفي الطابع الموضوعي على عالم عيشه.
يحكي رابناو، على طول صفحات كتابه، علاقاته المتعددة مع مخبريه الصفريويين بكل رهاناتها الإنسانية والمهنية والذاتية. علي وإبراهيم وعبد المالك وآخرون، كل بأكثر من حكاية ودسيسة ورهان. إنه الأمريكي الذي اختار قرية الحسن اليوسي للبحث، وهو الذي لا يحسن الفرنسية جيدا في منطقة ذات ماض استعماري فرنسي، ولا يحسن الأمازيغية والعربية كذلك.سيتعلم رابناو اللغات المحلية وسيتوغل أكثر في قوانين اللعبة الرمزية والثقافية مع مخبريه ومبحوثيه. سينتهك الحدود الثقافية، كما يقول، وسيتعامل مع هؤلاء بالندية والتي ستكون نتيجتها توترات كثيرة، كان منتهاها الانتقال من علاقة العالم بمخبريه إلى تدشين الصداقات. يختم رابناو مؤلف بفصل عن الصداقة، وسيكون إدريس بن محمد موضوع هذا الفصل. “لقد وفض إدريس الاشتغال معي كمخبر وظل يعاملني كضيف ليس إلا بكل ما تستلزمه قيم الضيافة من احترام، لكن مع مرور الوقت سنصبح أصدقاء، وستغادر أحاديثنا نطاق الاستجواب الأنثروبولوجي. سنتناقش حول الثقافات هي هي متساوية أم لا؟ وحول العنصرية وحول أحكامنا الواحد اتجاه الآخر، وفي كل مرة كان إدريس يعرض رأيه وينبه إلى الأحكام التي تصدر في حق ثقافته. فالمسلمون، يقول إدريس، يتفوقون على باقي الثقافات غير المسلمة. هكذا أراد الله.
إن دروس التسامح مع الآخر ومع الذات والتي علمني إيها إدريس – يقول ربناو – خلال الأيام الأخيرة من إقامتي بصفرو أعطت أكلها. لقد غمرني الإحساس وبكل قوة عمن أكون: إنني أمريكي، حينها علمت أن الوقت قد حان لمغادرة المغرب.