- الإعلانات -
هناك أفلام يشاهدها المتفرج بعد انتهائها، أي حين يغادر القاعة ويبدأ في استرجاع ما شاهده… يحاول تركيب تصور خاص به. “في انتظار بازوليني” لداود أولاد السيد واحد من تلك الأفلام التي لا تشيخ. في صيف 2007، شاهدت الفيلم ثلاث مرات في قاعة الفن السابع بالرباط. كان الفيلم ينتهي بسرعة دون أن أتمكن من الإمساك بكل خيوطه. كان هذا واحدا من أفضل الأفلام المغربية التي شاهدتها. وقد قدم الثلاثي محمد البسطاوي ومحمد مجد ومصطفى تاه تاه أداء ممتعا.
يصل خبر سعيد إلى قرية منسية بوارزازات، سيأتي بازوليني ليصور فيلما في ما يسمى هوليود المغرب. وقد سبق له أن صوّر هنا. كان كريما وحسّن حياة الكومبارس الذين عملوا معه… هذه فرصة أخرى لهم، يعدهم التهامي (محمد مجد) بأن صديقه بازوليني سيساعدهم. كانت نية التهامي حسنة. التهامي معجب ببازوليني، المخرج المناضل، عدو البورجوازية. كان مخرجا مثقفا يدافع عن قضية. أحب القرويون بازوليني ليس لأنه شيوعي بل لأنه شغّلهم.
في الفيلم نرى مئات الكومبارس المغاربة يشاركون في تصوير فيلم تاريخي عن الرومان. ويجري الحوار بين الملك ووزيره أمام الشعب في “الأغورا” بينما تحيط بهم التماثيل الحجرية.
فجأة يقتحم المقدَّم – أصغر موظف في وزارة الداخلية ومبعوث السلطة – البلاتوه ويتلصص على مجريات التصوير، يستمع لحوار يشتكي فيه الملك من “عام الجوع”، ومن نقص الإمكانات المادية لدى جلالته… يغضب المقدم، يتوهم أن الحوار يتناول “صاحب الجلالة الملك”، الحاكم حاليا في المغرب، بينما يجري تصوير فيلم عن الملوك القدامى… يتدخل المقدم ويطالب بتغيير الحوار الذي يستحيل أن يقوله الملك… لماذا؟ يجيب المقدم بثقة مطلقة: لأنه يستحيل أن يعاني الملك من نقص مادي.
واضح أن المقدم لا يميز بين الواقع والخيال، وما يعنيه هو أن تكون صورة الملك الحالي مشرقة.
يشتكي الكومبارس علال (محمد البسطاوي) من تكليفه بأداء دور وزير لا يظهر إلا نادرا في الفيلم، لذا يطلب أن يكون من الشعب “ليخدم كل يوم” في التمثيل… كومبارس في خنوع على حافة التسول… يتمردون على أداء دور اليهودي، لكن بعد نهاية التصوير يدفعون إتاوة “للمقدم”. يدفعون له بذل ليرضى عنهم.
كتب يوسف فاضل سيناريو “في انتظار بازوليني” على شكل فصول ينتج بعضها بعضا، فبعد دفع أجور الكومبارس مثلا نرى النتائج، علال بيني بيته والفقيه يؤثث والتهامي يسْكر… يوجد تركيب سببي باطني في الفيلم، أعمق من ذاك الذي نراه، لقطات متصلة بقوة تجعل الفيلم لحمة واحدة.
لا توجد مشاهد عري في الفيلم، لكن في مشاهد الفقيه فضيحة جنسية مضمرة بمهارة، فهو يعظ بالخير والعفة ويطارد المتزوجات العاقرات لأن فيه بركة لأرحامهن، يرى الفقيه المرأة التي يشتهيها فيجلب ديكا ودجاجة للمرأة التي ستتوسط لصيد المرأة المشتهاة. كان الديك والدجاجة مقيدان… ينطبق عليه شعار الفقيه في الثقافة الشعبية “افعلوا ما أقوله لكم ولا تفعلوا ما أفعله”… بفضل تصوير الفيلم الجديد حلت مشكلة الفقيه. جاءت قريبته لتعمل ككومبارس فصارت زوجته…
هكذا انتهت كوميديا الفقيه الأعزب. لكن الفرجة مستمرة، ففي لقطة ممتعة نابعة من السياق يؤدي الكومبارس دور مقاتلين رومانيين. وفي لحظة استراحة بين تصوير مشهد وآخر، مرت جنازة لا يتبعها أحد، جري الكومبارس بملابس الرومان… صرخوا “الله أكبر”، وأسرعوا “لتعشير الخطوات”، فنرى الجنود الرومان متخشعين خلف جنازة مسلم يدعون له بدخول الجنة. هكذا يخرج الفقيه من دوره في الفيلم ويعود لدوره في الحياة… يؤبن الميت… يدعوا له، بينما باقي الكومبارس يرددون آمين وهم مسلحون بالرماح…
ينادي المخرج على الكومبارس فيرجعون للتصوير. يغادرون الواقع إلى التخييل. بعد بضع لقطات يتسلط عليهم لمقدم من جديد. يشارك في الإخراج. بذلك تحضر السلطة كعامل مشوش على السينما، يطلب المخرج من الممثلين أن يظهروا الحزن والعبوس. يترجم مساعد المخرج توجيهات إدارة الممثلين ويقول للكومبارس بالدارجة:
“قال ليكوم المخرج خصروا كمامركم”… ينزعج ممثل السلطة لأنه يتوقع أن تظهر السعادة على وجوه أفراد الشعب يوميا.
فجأة توقف التصوير. ارتطم الكومبارس بواقعهم من جديد. وقد كانت جلسة التهامي والفقيه السرية في “الجامع” هي التي فكت العقدة. جرت مكاشفة علنية حول واقع القرية وأحلام سكانها، بقي ميكروفون مؤذن الجامع مفتوحا وسمع الكومبارس الحقيقة: بازوليني مات.
في فيلمه الموالي “الجامع” 2010 رجع أولاد السيد لنفس المكان، والمشكل فيه أن المسجد الذي بني كديكور لتصوير الفيلم صار مكانا لصلاة القرويين. عبر من التخييل إلى الواقع. والنتيجة أن موحى الفلاح يريد هدم المسجد ليحرث أرضه. المخرج هو الذي أقام ديكور فيلمه السابق على أرض موحى. وظهور داوود أولاد السيد في الفيلم مبرر تماما، لأنه سبب الأزمة. تعتقد زوجة موحى أن على المخرج دفع الثمن وحل المشكل. لكن المخرج بخيل.

موحى مواطن نحيف فقير في المغرب العميق، شخصية متواضعة لكن مصممة على الدفاع عن حقوقها… بهدوء ولكن بثبات… يريد أرضه ليحرثها. أليست الأرض لمن يحرثها. لكن لتحقيق ذلك لابد من هدم الجامع. هل يجوز هدم مسجد بينما من مبنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة؟
حينها تتدخل الجماعة وتنصح موحى أن يصبر لأنه سيحصل على تعويض في الجنة. يرفض موحى السقوط في الفخ الديني، توجد مشكلته في الأرض لا في السماء. يقترح على معارضيه أن يتبرعوا بأرضهم لنباء مسجد… يرفضون. يتكشف حجم التدين اللفظي، يحرصون على إظهار حبهم لبيوت الله، تزعم الجماعة بأسبقية الدين على الرزق. لكن لا احد يطبق ما ينصح به.
حين تتاح الفرصة لموحى للحديث أمام العالم، يحددون له الموضوع “مشاكل المجموعة”. مع من؟ لا جواب. هو يريد أن يتحدث عن مشاكل الفرد. عن مشاكله هو. مع من؟ مع الجماعة. بقراره الحديث عن نفسه أفسد الحفل، أعلن الانفصال عن الجماعة وعرض نفسه للعقاب… هكذا نرى الفرد مسحوقا تحت الصمت الجماعي، يعاقب بالعزل ويصنف كمجنون.
تتولد تعقيدات القصة من نقطة واحدة، كما يحصل حين نلقي حجرا في الماء، تتوالد الدوائر وتتسع وتتبدد… تتوالد المشاهد متناسقة، باستثنناء إقحام مشهدي الإحصاء والحديث مع حفار البئر. تتطور الحكاية بمنطقها الداخلي، أي أن كل التطورات تسبب فيها حادث عرضي، ديكور الجامع. يكاد الصراع ينفجر بين الطرفين. يتدخل طرف ثالث:
المقدم (السلطة) لا يريد الشوشرة، تريد الهدوء.
في الفيلم الأول تناول المخرج الدين والجنس من خلال سلوك الفقيه الأعزب. وفي “الجامع” عاد للضلع المتبقي من الثالوث المحرم: السياسة من زاوية مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة.
في هذا المستوى يندلع جدل بين موحى وممثل السلطة. يتبرأ المقدم من الأمر ويحمل المسؤولية للسكان. ثم ينصح موحى “ادخل الخط” لتكون بخير. وأشير إلى أن جملة “أكم الخط” بالأمازيغية تستخدم أثناء الحرث… لتوجيه ما يجر المحراث… فالبغال والحمير التي تحرث هي التي تُضرب لتسير في الخط… وهذه استعارة بليغة لطلب الخضوع والانخراط في طقوس الجماعة حتى على حساب الموقف والمصلحة الشخصية. في النهاية “لم يدخل موحى الخط” ودفع الثمن.
فيلم “الجامع” عميق، بلا ضجيج، لكن يعاني من بخلين، بخل في الكتابة وبخل في الكاستينغ.
لا أستطيع منع نفسي من المقارنة في الفيلمين. فيهما قوة وانسجام بفضل وضوح رؤية المخرج. فيهما شخصية المجنون المنبوذ معا. لكن توجد فروق. فجودة المشاهد ليست متساوية. “في انتظار بازوليني” رائع، رسمت الشخصيات بدقة على مستوى الأفعال والمعجم، أشير على الخصوص إلى الحلاق الذي يسوي رأس الزبون، حركات التهامي وفضاء جلوسه، كلمات الفقيه ونظراته… امتاز الفيلم بحيوية وقوة تعبير كبيرة، وفيه رصد ذكي للحياة اليومية في المغرب العميق.
فيلم “الجامع” السيناريو ضعيف، لا وجود للقفشات التي تبين لمسة يوسف فاضل في الكتابة، الممثل الرئيسي لم يدخل جيدا في الدور إلا في النصف الثاني للفيلم، الديكور غير مقنع، هذا الذي يسميه المخرج “جامع” مجرد قصب واجهة، لا نرى فيه بصمات المقدس، وهو لا يقنع ليكون في مستوى الصراع الذي يدور حوله…. واضح أن هناك تقشفا شديدا في الإنتاج، ديكور خام، ممثلون غير معروفين، تصوير نهاري…
في الإخراج لمسة داوود واضحة، تنتقي الكاميرا الضروري فقط لو كانت الكتابة في مستوى عمل الكاميرا لكان الفيلم خلف صدى أكبر… في “الجامع” جاءت الشخصيات عائمة، بلا تمايز، حتى الفقيه الذي كان شخصية كوميدية جذابة في الفيلم السابق تسطّح. في الجامع تفاصيل قليلة وحوارات طويلة. في الكثير من اللقطات كان كاتب الحوار يقدم بنفسه الاستنتاجات التي ينبغي ترك استخلاصها للمتفرجين… كان يملي عليهم تفسير ما يرون بدل أن يحكي لهم فقط…