الفنان التشيلي صانع تمثال الكلب “الثوري”: «ماطاباكوس» رمز يشجع على الإبداع واستنهاض الوعي.
حاوره: المصطفى روض
مرت أربعة أشهر على الحراك الشعبي في التشيلي، من دون أن تفلح القوات الأمنية في شل دينامكيته التي يعود الفضل في خلقها واستمرارها إلى رمزية الكلب الزنجي «ماطاباكوس» المتوفى قبل سنتين، بعدما تمكن الفنان مارسيل صولا من نحت تمثاله الذي استعاد به رمزيته المؤثرة. الفنان مارسيل صولا حائز على إجازتين في الفنون وعلم الجمال بعد دراسته في جامعتين بالتشيلي. كما أنه حاصل على ماجستير في علم المتاحف بجامعة «فيادوليد» بإسبانيا. وكان مسيرا لأزيد من عشر سنوات لرواق «سيان»، الذي يقوم بتطوير الفنون في التشيلي، فضلا عن كونه فعالية تنشط في مجال الدفاع عن القضايا البيئية و الاجتماعية.
- كيف تبلورت لديكم فكرة نحت تمثال خاص بالكلب الزنجي «ماطاباكوس» (قاتل رجال الشرطة)، الذي يتغذى من رمزيته الحراك الشعبي في بلدكم التشيلي؟
نحت هذا التمثال في المقام الأول، مع إعادة التدوير، كان هدية لشعب التشيلي وتكريما، في الوقت عينه، لكل الذين ناضلوا بلا كلل من أجل الكرامة و العدالة الاجتماعية.
منذ انطلاق الحراك الاجتماعي يوم 18 أكتوبر الماضي، اعتبرت، في غياب القادة والناطقين الرسميين المتبنين لمطالب المواطنين، أنه لا بد من تقوية مرجع (إلكيلترو) “ماطاباكوس” (قاتل رجال الشرطة)، باعتباره شعارا وأيقونة للمقاومة المدنية. “إلكيلترو”: هو صنف من كلاب ذات أحجام صغيرة وجدت في التشيلي قبل مجيء الإسبان، وهو التعبير الأكثر دقة، عندنا، عن هويتنا، وفي كثير من الأحيان يتخلى عنها جزء كبير من التشيليين ويسيء معاملتها ويميزها بالطريقة ذاتها التي تتجاهل بها الطبقة السياسية مشاكل معظم المواطنين التشيليين.
صحيح أن صنع تمثال الكلب الزنجي “ماطاباكوس” استغرق مني أزيد من أسبوعين، ما حفز بطريقة سريعة إخراجه إلى الأماكن العامة في 15 نونبر، حيث الاستعمال الموازي للوحات البيضاء كان دليلا على السلام وإعلانا لمرحلة جديدة للحدث الوطني بناءً على الاتفاق السياسي، الذي جرى الإعلان عنه مساء أحد أيام الخميس لإجراء استفتاء على دستور جديد في أبريل المقبل بدل تعديل الدستور الحالي. وفي حين احتفل البعض بالمبادرة، راقب الآلاف من التشيليين الآخرين المشهد بخيبة أمل وقلق إزاء عدم وجود حلول جوهرية مرتبطة بما يسمى “الأجندة الاجتماعية”، واعتبروا أن هذا الإجراء (الإعلان عن الاستفتاء) ليس أكثر من مجرد ستار دخان سيجعلنا نتأكد أن الأمور ستعود شيئا فشيئا إلى مجراها العادي.
- إلى أي حد تكون رمزية الكلب الزنجي (ماطاباكوس) الذي توفي قبل سنتين تؤثر في خلق ديناميكية لمظاهرات الحراك الشعبي في التشيلي؟
لقد أثرت بدرجة عالية منذ اعتبار أن صورة الكلب الزنجي توحي بكونه “المنقذ”. وهذا النوع من الكلاب التي تعيش في الشارع تظل على قيد الحياة لأنها “تقاوم” كل يوم وتواجه عددا لا يحصى من المحن وتعيش لامبالاة من طرف الكثيرين. ومع ذلك، بالنظر إلى التعاطف والرعاية لهذه الكلاب من قبل العديد من الأشخاص، فإنها تكون مستعدة للاهتمام بهم وحمايتهم، بل وقد تعطيهم حياتها فداء لهم.
الكلب “ماطاباكوس” الأصلي يكون دائمًا في مقدمة خط المواجهة لأنه كان يشعر بالالتزام للدفاع عن جميع الطلاب في مظاهراتهم ما بين 2009 و2017، لأنهم كانوا يطعمونه ويرعونه. وهذا هو السبب في أن اللافتات السوداء المكتوب عليها اسمه (ماطاباكوس) كان شعارا يولِّد إحساسا كبيرا بالانتماء والسيطرة الاجتماعية، نظرًا لأنه يشكل رمزا لمقاومة انتهاكات نظام ينكر هوية شعب ويرى أفراده مستهلكين ومجرد كتلة مهمشة. ولذلك، فإن رمزية “ماطاباكوس” تشجعنا على تعزيز إبداعنا واستنهاض وعينا بالدفاع عن حقوقنا السياسية والاجتماعية وحماية البيئة، فضلا عن ضرورة احترامنا وتقديرنا للشعوب الأصلية، لضمان تكافؤ الفرص ضمن العديد من المتطلبات الاجتماعية الأخرى.
- أنت كفنان للنحت، كيف تقيم تقديرات النخبة التشيلية بشكل خاص والمواطنين بشكل عام، لعملك الفني المتوج بنحت تمثال رائع حول الكلب الثوري “ماطاباكوس”؟
لقد تأثرت لرؤية الامتنان والبهجة والأمل لدى الناس الذين جاءوا لمشاهدة هذا النصب التذكاري للكلب الزنجي. وبالفعل، في اليوم الأول الذي خرج فيه إلى الشوارع لساعات طويلة، حمله آلاف المتظاهرين كما لو كان قديسا في موكب. أخبروني في مناسبات متكررة أنه منحهم القوة للنهوض والمضي قدما في الحراك، كما منحهم الشعور بالتماسك والوحدة الاجتماعية.
ما هو ملفت حقا، أن النصب التذكاري للكلب “ماطاباكوس” يكون محاطا باستمرار بأشخاص كثيرين بعدما تحول إلى محرك دائم للحراك الشعبي كل أسبوع، ويتم نقله في كل مرة إلى ثلاثة أحياء شعبية لتعزيز التجمعات الإقليمية للبحث في المقترحات الخاصة بتأسيس المجلس التأسيسي الذي ستوكل له مهمة كتابة الدستور الجديد. وفي كل مرة يصل فيها تمثال “ماطاباكوس” إلى منطقة جديدة، تزداد المساعدة الكبيرة للمواطنين ومشاركتهم المكثفة في مظاهرات الحراك الشعبي. وكان استقبال الناس لتمثال الكلب الزنجي لا يصدق. الناس من جميع الأعمار يأتون إلى حضنه لالتقاط الصور معه لتخليد هذه اللحظة التي ستحدد تاريخ التشيلي. خلال هذه الأيام، يقوم ممثلون لمختلف الجماعات المنظمة للحراك بمبادرات عديدة بفضل وجود التمثال، إذ بدؤوا في جمع اعتمادات مالية لعلاج المتظاهرين الذين أصيبوا في المظاهرات و المواجهات مع رجال الشرطة، فيما جزء آخر من الاعتمادات المالية سيخصصونه لشراء لوازم الإسعافات الأولية واستعمالها في إطار المظاهرات. وبالموازاة مع ذلك جرى اتخاذ سلسلة من المعايير والمقترحات لانقاد الكلاب المهجورة، حيث سيكون “ماطاباكوس” مرجعا أساسيا لعملية تشجيع تبني الكلاب الزنجية الضالة التي نادرا ما يقبل على تبنيها الناس.
التعاطف والاعتراف بالهوية اللذان حققتهما صورة الكلب الزنجي “ماطاباكوس” ونصبه التذكاري لدى معظم المجتمع الشيلي تتعارض مع النخبة التي تعتبر رمزيته تهديدًا لها وللنظام. ولهذا السبب، تعرض النصب التذكاري للعديد من الهجمات لتدميره أو إتلافه كأيقونة للنضال الاجتماعي. لقد تعرض للضرب ، ورسمت عليه شعارات لليمين المتطرف. ثم، جرى حرقه، ولكن بنية هيكل التمثال التي استحال تدميرها بواسطة الحرق، أخذها مئات الأشخاص لإعادة بناء التمثال، وذلك باستعمال الأزهار والأوراق. ولاحقا، أُعيد بناؤه بدرع معدني. وبعد عدة أيام حاولت مجموعات منظمة تدعم النظام السياسي والاقتصادي الحالي تدميره عن طريق جر التمثال الذي جرى ربطه بسيارة رباعية الدفع لمسافة طويلة. وفي كل مرة يتعرض فيها تمثال “ماطاباكوس” (قاتل رجال الشرطة) للهجوم، يستيقظ مرة أخرى بدعم من الأشخاص الذين يتعاونون في إعادة بنائه. النخبة تعتبره تهديدًا لأنه يُعد مرجعًا للتمكين وللاتحاد بين المواطنين، فيما يعتقد الناس أن هذه الأنواع من الأعمال العنيفة ضد النحت، هي مجرد انعكاسات لما تفعله الطبقة السياسية الحاكمة مع أفراد المجتمع من خلال معاملتها لهم مثل الكلاب.
- بعد المساهمة النضالية الكبيرة للكلب “ماطاباكوس” في المقاومة المدنية لفائدة الحركة الطلابية خلال عقد من الزمن، هل يمكن للكلاب الأخرى الموجودة بكثرة في شوارع المدن التشيلية أن تلعب الدور عينه الذي لعبه الكلب الزنجي؟
كلاب الشوارع، بدلا من لعب دور نضالي، تتصرف بغريزة طبيعية من أجل البقاء الدائم. وكلما وقعت مواجهات بين المتظاهرين وقوات الشرطة، تنحاز إلى صف المتظاهرين الذين يكونون في حالة ضعف لأنهم غير مسلحين. وبالإضافة إلى الحبوالحماية التي تتلقاها الكلاب من المتظاهرين، يتحفز كل كلب منها على التوجه إلى الخط الأمامي للمواجهة مع رجال الشرطة مضحيا بحياته من أجل الإنسان المتظاهر.
“ماطاباكوس” يعد مرجعا مميزا. فهناك الكثير من الكلاب التي ليس لديها الدور عينه، ومع ذلك، فإنها تنبح بصوت عال، كما لو أنها تنقل، بهذا الشكل، استياء الشعب التشيلي جراء سنوات من المعاملة السيئة.
- من الصعب التحدث عن الكلاب المسيسة، ألا تعتقد ذلك؟
بالفعل، من الصعب تسييس تفكير الكلاب لأنها تتصرف خارج التفكير العقائدي بواسطة الغريزة الطبيعية. ومع ذلك، فقد أكد الطلاب الشباب في التشيلي مرارًا وتكرارًا أن الحيوانات الأليفة يجب أن تخضع لقانون يحميها مثل أي إنسان. ونحن ليس لدينا تشريع يضمن الملكية المسؤولة للحيوانات الأليفة ومعاقبة كل من يعتدي عليها. وبغض النظر عن أن هذا الموضوع ليس سياسيا بحتا، فإنه يكتسي طابعا اجتماعيا، ولا بد من أن يصبح مطلبا للسياسيين بسبب الفراغ القانوني الذي يعكس الإهمال المستهدف لهذه القضية الحساسة داخل المجتمع. بالنسبة إلى الحكومة التي ترتكز سياساتها على الرأسمالية الليبرالية، فإنها تهتم فقط، بالنمو الاقتصادي الذي يخدم مصالح الأقلية الحاكمة ولا تفكر إطلاقا في الاهتمام بحقوق تلك الحيوانات الأليفة.
- والآن بعدما بات واضحا أن الكلب “ماطاباكوس” بطل للمقاومة المدنية، هل، في نظرك، رمزيته تشكل تحديا للرمزيات النضالية الكبيرة مثل رمزية تشي غيفارا وبابلو نيرودا وفيكتور خارا وأليندي…؟
التشابه بين هذه المرجعيات واليسار السياسي مع رمزية الكلب الزنجي “ماطاباكوس” يكمن في التحقق من صحتها ومدى شرعيتها الاجتماعية. هذا حيوان لا يستجيب لضوابط إيديولوجية وسياسية. وحاليا، فقدت الثقة في كل الزعماء الاجتماعيين وفي الأحزاب السياسية التي غالبا ما تستفيد من أرباح وامتيازات تُغدقها عليهم السلطة، فيما الكلاب تتصرف بنكران للذات وصدق وإخلاص. وهذه الصفات النبيلة بات من الصعب أن تجدها لدى الكثير من الأفراد. وفورا، ظاهرة “ماطاباكوس” بدأت تقدم لنا نوع من التحول في النموذج الذي سيترجم، عاجلا أو آجلا، إلى طرق جديدة للحكم يضمن تمثيلية ومشاركة أكثر للمواطنين. وهذا بالضبط ما يجري السعي إليه في التشيلي مع محاولة إعادة هندسة الدستور السياسي للجمهورية من خلال فكرة تأسيس جمعية تأسيسية متعددة القوميات تضمن وجود تكافؤ للفرص بين الجنسين في دستورها، وحضور ممثلين عن مختلف الأقليات مثل الشعوب الأصلية والتنوع الجنسي والمعوقين وممثلي أقاليم البلد الذين يناشدون اللامركزية..