صحافة البحث

الوجه الآخر للحجر الصحي في زمن كورونا

2٬930

- الإعلانات -

ما كادت تكتمل طمأنينة الإنسان الإبديميولوجية تجاه الأوبئة والأمراض الفتاكة، التي اعتقد في لحظة ما أنه انتصر عليها، حتى تمردت عليه الطبيعة من جديد، لتفرز فيروسا وبائيا غريبا، يضع الصحة العمومية والاقتصاد الدولي اليوم أمام أخطار محدقة. 

إن ظهور فيروس كورونا المستجد بهكذا الشكل المفاجئ، وخلافا للتوقعات التي طالما بنيت على وهم التحكم الإبديميولوجي في الأوبئة والسيطرة على الطبيعة بفضل العلم والتقنية، ليس مجرد حدث بيولوجي أو طفرة نوعية في تاريخ الفيروسات، بل حدثا تاريخيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وإعلاميا ونفسيا… اهتز له بنيان المجتمع بمختلف أنظمته، وأحدث دينامية كبيرة في الحياة الاجتماعية وفي مقالات الصحف والجرائد وباقي وسائل الاتصال السمعي البصري والتواصل الاجتماعي. وقد ترتب عن هذه الدينامية على المستوى الاجتماعي تشييد خطاب عامي مطبوع بالسخرية أحيانا وبالإشاعة أحيانا أخرى، وصار هذا الخطاب موازيا للخطاب الطبي عن مرض كوفيد 19، أصبح من الصعب معه على غير المتخصصين التمييز بين الوهمي والحقيقي في الأخبار والمعلومات المتداولة عنه.

المرض في الواقع  هو مِحلال (Analyseur)  لفهم الذهنيات والممارسات في شتى مناحي تجربة المرض، سيما لما يتعلق الأمر بالأمراض المعدية-الوبائية كما هو الحال مع فيروس كورونا المستجد الذي هز النظام الاجتماعي وعطل الحياة العامة والاقتصاد، كما كشف عن حقيقة الكثير الموضوعات التي طفت على السطح عارية كالمفهوم السلطة وللمؤسسة، الجسد، هشاشة الإنسان المعاصر، الأمن الصحي، الأمن الغذائي، التضامن الاجتماعي، الطب الوقائي، محدودية العلم، جنون التقنية، التخلف الحضاري، تجذر الوهم، التضخم الإعلامي خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي…إلخ.

يكفي التأمل في موضوعة السلطة مثلا، لنلاحظ بجلاء كيف حول فيروس متناهي في الصغر الدولة من قوة لامرئية إلى قوة مرئية، أي من جهاز موجود بالقوة إلى جهاز موجود بالفعل؛ بعدما تحولت إلى قوة جبارة فاعلة في مجريات الواقع وصانعة لأحداثه وموجهة للحياة العامة ومتحكمة في الرأي العام الدولي المتعلق بهذا الفيروس المتربص بحياة الكل. غير أن هذا الحزم البادي على كيانها وسياساتها وإجراءاتها الاستعجالية لم يكن أساسا بدافع حماية الحقوق كالحق في الصحة والحق في الحياة… إلخ، وإنما بدافع حماية الذات والتحكم في الساكنة باعتبارها مشكلة سياسية واجتماعية واقتصادية وابيديميولوجية مهددة للأمن الصحي بوصفه رأسمالا جماعيا ومصيرا مشتركا بين الجميع يخص خاصة القوم وعامتهم دونما استثناء.” لقد كانت إحدى المستجدات الكبرى في تقنيات السلطة، في القرن الثامن عشر، هي ظهور “الساكنة”، كمشكلة اقتصادية وسياسية: الساكنة-الثروة، الساكنة-اليد العاملة  أو قوة العمل، الساكنة في التوازن بين تزايدها الخاص والموارد التي تتوفر عليها. فقد أدركت الحكومات بأنها لا تتعامل ببساطة مع رعايا، ولا حتى مع “شعب”، ولكن مع “ساكنة” لها ظواهرها الخاصة المتميزة ومتغيراتها المميزة: الولادة، الوفاة، مدة الحياة، الخصوبة، الحالة الصحية، تواتر الأمراض، شكل التغدية والسكن. وكل هذه المتغيرات هي في نقطة إلتقاء حركات خاصة بالحياة وآثار خاصة بالمؤسسات.” (ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية، ج ١، ٢٠٠٣، ص ٢٣).

إن المفارقة الأصعب التي ستواجه الأنظمة السياسية في زمن كورونا، هي كيفية الموازنة بين الأمن الصحي والأمن الاقتصادي للساكنة. فما بما أننا أمام معادلة مجتمعية حدها الأول الصحة العمومية والثاني النمو الاقتصادي، لا يمكن في نظرنا لسياسة الحجر الصحي أن تضمن الاستقرار المجتمعي دون التفكير في سياسات وقرارات احترازية وتنبئية مصاحبة تستدف الاختلالات الماكرو والميكرو اقتصادية التي ستعصف بالمعيش اليومي للفئات الهشة في المجتمع المغربي. أكيد أن هذا هو التحدي الأكبر الذي يؤرق الآن الأنظمة السياسية ويضعها على محك اختبار صعب  في قادم الأسابيع والأشهر، خاصة في الدول الذي ينخفض فيها معدل الادخار الأسري كما هو حال الأسر المغربية الهشة التي ستفاقم جائحة كورونا من معاناتها أكثر كلما عمر الوباء طويلا  وطال انتظار البحث البيوطبي لابتكار علاج أو لقاح يضع حدا له. 

إن الحجر الصحي المنزلي هو اجراء احترازي له أوجه عديدة، يمكن تبئيره وتدبره من زوايا نظر عدة. فبالإضافة إلى الزاوية الصحية والاقتصادية والاجتماعية الديموغرافية والسياسية، يمكن النظر إليه أيضا من زاوية فينومينولوحية نسائل من خلالها ذاتنا المسروقة منا، ونعيد التفكير في موضوعات وجودية طالها النسيان  في الزمن الراهن كالهوية  والذات والجسد والسلطة والعيش المشترك والتضامن وجودة الحياة….إلخ 

ربما قد تطول مدة الحجر الصحي لتبدو تجربة مفلسة اقتصاديا ومكلفة اجتماعيا وقاسية نفسيا على كل من تعارضت مع روتينه اليومي السابق ومع نمط عيشه ووضعه المهني والاجتماعي. لكن التأويل الفينومينولوجي لتجارب الحياة وأحداثها يعلمنا النظر دائما إلى اللامرئي واللامفكر فيه في موضوعات وقضايا الوجود؛ عادة ما يوصم الحجر الصحي بالعديد من الأوصاف كالسجن والعزلة والوحدة والغربة والقطيعة مع المجتمع والعالم الخارجي عامة…  ويدرك على أنه عقاب جماعي وتجربة مولدة للضجر والملل كما يفسرها سيغموند فرويد الذي يربط بين العزلة والقلق معتبرا أن مصدر هذا الأخير هو الرهاب الأولي الذي عشناه كأطفال في لحظات الظلمة والوحدة.

إلا أن اللامرئي الفينومينولوجي للحجر الصحي يظهر أنه تجربة جماعية قد لا تتاح مرة أخرى وأنه لحظة وجودية استثنائية فارقة في مسارنا الحياتي وجب استثمارها في إعادة بنينة الذات، لأنها تجربة فريدة تتيح إمكانات هائلة للتشخصن والارتقاء بالذوات من مصاف الأفراد المغلقة والمشيأة والمستلبة باليومي إلى مصاف الأشخاص المنفتحة على قيم العيش المشترك التي تتوقف عليها حضارة الإنسان المعاصر.

إن الحجر الصحي، ليس احتجازا ولا عقابا بل مناسبة فرضتها ضرورة الأمن الصحي الذي هو أولى من الأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والروحي، وهو مناسبة لينفرد كل واحد منا بأناه ويواجه نفسه بنفسه من أجل تقوية ذاته. فعوض النظر إلى هذا الحجر على أنه تجربة مقلقة، يمكن النظر إليها على أنه تجربة علاجية تمكن الفرد من الغوص في دواخله وإعادة مراجعة ذاته واكتشافها من جديد، وإعادة بنينة علاقاته بالمجتمع والعالم.

علينا أن ننسى أن كل ما يصدر عن الطبيعة جميل وإن كنا لا نرى الجمال في المصائب؛ فبسبب حصار كورونا سيرتد كل واحد منا إلى طبيعته ليعيد ترتيب حميميته ويتدبر دواخل كينونته ككائن مشروط اجتماعيا بوجود مشترك ومعولم، آن الأوان لنفكر في سبل انتشال هذا الزمن الموبوء من غياهب الفردانية الباثولوجية والتبادل الأداتي والتشييء، ونعود به إلى قيم التعاون والتضامن والغيرية باعتبارها القدر الإنساني الذي لا مفر منه وسبيلنا الأوحد نحو الخلاص الجماعي! لأن البداهة والألفة التي ألفناها في علاقتنا بالعالم هي أكبر حاجز يحجب عنا رؤية حقيقة وجودنا؛  ففي الكثير من الأحيان لا نستطيع أن نرى بوضوح إلى إذا ابتعدنا قليلا.

فلنبتعد قليلا عن بعضنا البعض لبضعة أسابيع أو أشهر كي ننتصر على كورونا ونتدبر مصيرنا المشترك من جديد!