صحافة البحث

سعيد عاهد يكتب: في الحاجة إلى فيروس القراءة بعد رحيل فيروس كورونا

- الإعلانات -

أسئلة “الما بعد” تناسلت والجائحة لم تضع أوزارها بعد؛ ولا عاقل يقدر، إلى الآن، على المجازفة بصفته والمغامرة بتمريغ اسمه في أوحال العبث، عبر التكهن بموعد نقطة الختم التي لن يجد بعدها كورونا موطأ ذكر إلا في كتب التاريخ البائد. 

بل إن ضاربي الخط الزناتي أنفسهم، من مؤولي الديانات السماوية السابحين في مجرات الانغلاق والقابعين خلف (وفي قعر) إلغاء العقل وتعطيل عجلة التاريخ المتحول بقوة الفعل البشري، خبت تنبؤاتهم حول توقيت صلاة الجنازة على القاتل المستجد وبداية ما بعده، إعمالا لمبدأ التقية وليس اقتناعا.

وحتى لو بُعث نوستراداموس في زمن الجائحة هذا، وأعاد صياغة مؤلفه “النبوءات” وهو في الحجر الصحي، لما خاطر وأدرج ضمن مؤلفه المُحَين رباعية (ولو غير مفهومة) تتكهن بيوم رحيل مُوَلد هجرة البشرية الجماعية نحو التشبت بالاستمرار على قيد الحياة.

وسيناريوهات “ألما بعد” تتكاثر لترسم معالم عالم محتمل مغاير، مجهول محطة الانطلاق زمنيا، يساهم في تصورها أو التنظير لها أو تمنيها الكثير من ذوي الاختصاص ومن فاقديه، فإنها تركز أساسا على دور الدولة والمؤسسات مستقبلا، وعلى صورة العالم المُعولم، وعلى الدورة الاقتصادية التي افتضحت عورة أعطابها، وعلى مجالي الصحة والتعليم المنخورين، وعلى الواقع الاجتماعي المعاش الذي يجعل الناس يتجاورون تحت نفس العلم ويرددون ذات النشيد الوطني، ولكن يعيشون في وطن ذي سرعتين، أو بالأحرى في وطنين متناقضين: وطن رفاهية يفصله جدار سميك بلا معبر عن أرض قاحلة هي موطن الهشاشة.

كل أسئلة “الما بعد” هذه ومحاولات تلمس بدايات لأجوبتها، ومعها سؤال آثار التباعد الاجتماعي النفسية والاجتماعية، الفردية والجماعية، وكذا سؤال الحريات عقب تقييدها الذي فرضته الاحترازات المشروعة لمواجهة تهديد الفناء، أساسية وجوهرية وضرورية ومستعجلة، محركها منطق الاستباق الذي لا بديل عنه لكي لا يُباغت “الما بعد” البشرية مثلما أخذها سليل ووهان على حين غرة.

وبموازاة هذا، فثمة أسئلة أخرى يقحمها استشراف “الما بعد” في جدول الأعمال، مؤرقة حتى وهي ثانوية، رغم أنها لا ترقى إلى استعجال وأهمية علامات الاستفهام السالفة، بل قد تبدو مجرد ترف، يعوض به البعض غياب نقاشات المقاهي وغيرها من دردشات بقية فضاءات الحميمية الموصدة.

أحدها يرافق العزل وأيامي المحجورة بإكراهاته منذ البدء، سؤال يدق الباب تارة، في زمن لا يطرق أحد فيه باب غيره، ليشغلني، ويتبخر أحيانا أخرى تاركا إياي أدبر فائض الوقت المتاح بوفرة لا تحتمل؛ سؤال لعله وليد انحراف مهني، بل هو كذلك بكل تأكيد: إنه سؤال القراءة حين سيجد الناس أنفسهم منغمسين مجددا في انشغالات “الما بعد” الموروثة عن “الما قبل”.

ها هو يقتحم فضاء تخلصي الجائز من الكمامة الأليف، غير عابئ بحظر التجول ليلا، مبرره مقال نشره الملحق الأسبوعي ليومية “لو فيغارو” الفرنسية (لو فيغارو ماغزين، عدد فاتح و2 ماي).      

“هل سنمتلك قوة مقاومة النزوع الجموح إلى الحياة لما ستتوقف طائرات المراقبة بدون طيار عن الأزيز فوق رؤوسنا؟ لا نعرف الجواب إطلاقا. ومسافة غير محددة تفصلنا لا تزال عن ما بعد الحجر. لا يمكننا اليوم عيش هذا الما بعد، نستطيع فقط تخيله، الرهان على الأفضل خلاله، تخيل أنفسنا أفضل مما كنا عليه قبله؛ والفضل في ذلك يرجع للبلوى، وأيضا للحقل الذي جعلنا العزل المفروض نكتشفه، أو نعيد اكتشافه: القراءة”، هكذا تتحدث الروائية والناقدة إليزابيث بارِيِي.

فعلا، فرض الحجر علينا، على بعضنا على الأقل، العودة إلى ممارسة فعل القراءة. إلى التصالح مع “الرجل- المكتبة” العارف العلامة بالكتب والقراءة، ألبرتو مانغويل، مصنف القراءة في مرتبة التنفس ومبوئها مقام “الوظيفة الحياتية الأساسية”. استأنفنا قراءة المكتوب (المفعول من كَتَب وليس المُقَدر) ورقيا أحيانا، ونحن ننفض الغبار عن مؤلفات اقتنيناها سابقا وتركناها في رفوف المكتبة المنزلية دون أن نمنحها لذة التصفح ولا أمتعناها بقشعريرة السباحة بين طياتها؛ جريمة تأجيل استنشاق عطر ورقها وسماع خشخشته ارتكبنا في حقها، مع سبق تأجيل مداهمة مضامينها إلى ما لا نهاية، مقرونة بظروف تشديد عنوانها تبخيسها. إذ “ما الكتاب إذا لم نفتحه؟ مجرد مكعب من ورق وجلد يضم صفحات؛ لكننا إذا قرأناه، فإن شيئا غريبا يحدث، أظن أنه يتغير في كل مرة.” (خورخي لويس بورخيس).  ودرب القراءة رقميا في أغلب الأوقات سلكنا، لما أهداه لنا الفيروس “اللي ما يتسماش” من إمكانيات الإبحار  مجانا في متون متعددة اللسان، ومن فرص استثنائية لولوج أكبر المكتبات العالمية.

في مقالها المقتضب المنشور ضمن ملف يسائل دروس الجائحة انطلاقا من سؤال محوري: “ما يجب تغييره”، تذكرك/نا صاحبة “مدرسة في السماء” ببديهيات حجبتها عنا الحياة في نسختها السالفة، أيام وليالي “الما قبل” حيث كنا مجرد أطياف مستنسخة لشارلي شابلن في “الأزمنة الحديثة”: “إننا نعرف فضائل القراءة منذ روض الأطفال. منذ زمن سابق ونحن نعرف أنها ترياق مضاد لكل الآفات تقريبا، مشروب منشط لا ينتج عنه استفحال كمية الكحول في الدم؛ كما سبق وشرح لنا أحد النبهاء أنها طريقة جيدة للاغتناء دون سرقة أحد، وسلف وأكدت لنا إحدى المتحمسات أن أمرين اثنين بإمكانهما تغيير الإنسان: حب جارف أو قراءة كتاب ممتاز. وبالطبع، كنا نتوفر على كتب ممتازة هي ذكريات مثيرة للعواطف تعود إلى أيام الدراسة، كتب جيب متداعية، مصنفة ضمن أمهات الكتب في كل الأزمنة؛ لكن ما لم نكن نتوفر عليه، هو الوقت لإعادة فتحها. فخلف أشياء كثر كنا نلهث. التوفيق بين الأشياء جميعها، النجاح في كل شيء، التأقلم باستمرار، هو ذا كان الرهان، مع رسملة كل دقيقة من حياتنا المهنية، ولنيل هذا المبتغى، كان لزاما علينا عدم إضاعة الوقت في أحلام يقظة غير منتجة.”

وأعترف، نيابة عن كثير من أقراني، رغم ألا أحد فوض لي الحديث باسمه، أننا مسخنا، في العهود الحجرية تلك، إلى آلات إنتاج (مادي و/أو رمزي)، يحكمنا السوق (سوق الشغل وسوق الاستهلاك)، وتؤطر روتيننا الشاحب ثلاثية “الذهاب إلى العمل، والعمل، ثم النوم”، مع ما تيسر من إنعاش اقتصاد الطلب. لا نحلم بوردة مدسوسة في كتاب، ولا ببيت شعر يبشرنا بلوحة سيمفونية، ولا بشخصية روائية تحقق لنا القبض على الزئبقي في رفرفة حباحب. لا يؤثث غسقنا غير جاثوم جدولة المسار المهني، وعلامات الاستفهام العابثة بمآله. فكان أن انقلبت إلينا ملكة الخيال خاسئة، لأننا تركنا ميشيل فوكو وحيدا بلا ندماء، اِمّحت حكمته ” الخيال يأوي بين الكتب والمصباح الكهربائي. (…) لا يجب، بغية الحلم، إطباق العينين، بل تجب القراءة” لتضحي صيحة ذهبت في واد. 

 “فجأة، تواصل إليزابيث بارِيِي،  توقف كل شيء، انكمش كل شيء، باستثناء الوقت. فجأة، لم نعد نملك سواه. وكما كان يحدث لنا في الأيام الخوالي صيفا ونحن قابعين في غرف طفولتنا، لم نجد مخرجا آخر سوى الهروب بوسائلنا الخاصة. وهكذا، عادت كتبنا المهجورة للخدمة. فاستقللنا سفنا شراعية ربابنتها تولستوي، بلزاك، باسترناك، توني موريسون وكثيرون غيرهم. فكان أن عثرنا مجددا على كل شيء، كل ما سلبه الحجر منا، المتعة، غير المتوقع، المغامرة، علاوة على التوهج، ولنقر بذلك: على الإنسانية. ذلك أن القراءة تلحم إنسانيتنا”.

بفضل الانزواء والتباعد الاجتماعي والسماء التي تقلصت إلى محض زاوية صغيرة في نافذة إذن، والوقت المنساب بوفرة لا تطاق بين أربعة جدران هي مجالنا الحيوي، بفضل عوائق حرية التنقل (رب نقمة تحولت إلى نعمة) نحو الأوهام المعششة في “الما قبل”، عدنا نقتني “بطاقة سفر إلى الجنة”، على غرار هنري ميلر الذي كان يذهب، بين الفينة والأخرى، إلى المكتبة البلدية للقراءة، معبره إلى الفردوس.

“فهل ستكون لنا القدرة على تذكر الأمر؟، تسأل الروائية معشر من عقدوا صلح الأبطال مع عادة إدمان الكتب. هل سنكون قادرين على الاحتفاظ بمكان في حياتنا لهذا الغذاء النادر الذي تهبه الكتب دون تاريخ لانتهاء الصلاحية؟ إنه سؤال آخر مطروح على “الما بعد” يمكننا أن نحوله، منذ الآن، إلى تعهد.”

شرط، بالطبع، أن يجد فيروس القراءة خلايانا قابلة لاحتضانه بصَبابة وليس بصُبابة بعد رحيل فيروس كورونا من دون رجعة. حتى نأخذ بذلك ثأر جاك لندن الذي شبهه جهلة، نعموا بجهالتهم، بنوستراداموس حين أعلن على رؤوس الأشهاد أنه “سيأتي يوم سيتعلم خلاله الناس، وقد تقلص انشغالهم بمتطلبات حياتهم المادية بعض الشيء، القراءة ثانية”.