- الإعلانات -
تداول الكثير من مستعملي منصات التواصل الاجتماعي، في الأيام الماضية، مقطع فيديو يوثق لحدث نزاع بين سيدة متزوجة وابن زوجها البالغ من السن 17 سنة. ما فتئ أن تطور الأمر في نهاية الفيديو إلى اعتداء السيدة على الشاب المعاق حركيا بطريقة وصفها البعض بالوحشية. وبغض النظر عن حيثيات هذا الحدث، فإن الواقعة التي بين أدينا اليوم ينبغي تناولها في إطار أوسع يتعلق بالعنف ضد الأشخاص المُعاقين.
وعلى الرغم من أن تنامي نسب العنف، بمختلف أشكاله ضد الفئات الأكثر هشاشة في المجتمعات المعاصرة، حسب نتائج مختلف التقارير الصادرة عن الهيئات الدولية خلال العقدين الأخيرين، ورغم انتشار الظاهرة على نطاق واسع فيبقى العنف، بالتأكيد مهما اختلفت صوره وتعددت ضحاياه، مرفوضا وغير مبرر اجتماعيا ويجب على الدول والمجتمعات اتخاذ جميع التدابير لحماية الأشخاص من كافة أشكاله. إلا أن العنف ضد الأشخاص في وضعية إعاقة ولاسيما الأطفال منهم يكتسي أهمية خاصة ليس فقط لأنه الأكثر انتشارا ويحيط به الكثير من التكتم ولكن أيضا لأن معظم الدراسات التي تناولت هذا الموضوع -على قلتها- لم تحاول منح الأشخاص المعاقين الفرصة للتعبير عن مواقفهم وآرائهم في تحديد خصائص الممارسات التي يعتبرونها أحد أشكال العنف؛ وفي هذا الصدد، تشير أرقام منظمة الصحة الدولية، في دراسة أنجزتها سنة 2013 ،إلى أن الأطفال المعاقين على الأقل بدول الشمال- يكونون أكثر عرضة للعنف ثلاث أو أربع مرات من غيرهم في حين تصل هذه النسبة عند البالغين إلى 1.5 مقارنة مع غيرهم. وفي ظل غياب معطيات كمية وكيفية عن واقع الخدمات الموجهة للأشخاص ذوي الإعاقة بالدول ذات الدخل المحدود، فربما يكون الأمر أسوء. وذلك بسبب ارتفاع عدد الأشخاص ذوي الإعاقة بهذه الدول وارتفاع مستويات العنف وتعدد أشكاله بالإضافة إلى تدني مستويات الخدمات المقدمة لهم.
وفي ظل هذا الواقع، نحاول في هذا المقال التساؤل عن طبيعة وجذور العنف ضد الأشخاص ذوي الإعاقة بالمغرب وهل يشمل التعريف المعتمد في التشريعات الوطنية كل أشكال العنف الممارس على هؤلاء الأشخاص؟ وأية علاقة للعنف بباقي تجليات التمييز التي يعاني منها هؤلاء المواطنين والمواطنات؟ ثم كيف يمكن لنا المساهمة في تشكله كموضوع للبحث الأكاديمي؟ وكيف لنا مناهضته.
طبيعة العنف ضد الأشخاص ذوي الإعاقة
إن أول ما يثير الانتباه في الدراسات، التي حاولت تناول ظاهرة العنف ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، هو كونها تقوم على تعريف محدد سلفا لمفهوم العنف، وتكاد لا تأخذ بعين الاعتبار تجارب الأشخاص ذوي الإعاقة، وعلاقة ذلك بباقي أشكال التمييز الذي يتعرضون له. إذ يحيل مفهوم العنف في هذا المستوى على الممارسات الاجتماعية الحاطة بكرامة الشخص والمنصوص عليها عموما في الاتفاقيات الدولية من قبيل اتفاقية حقوق الطفل المادة 19 واتفاقية إسطنبول المادة 3.
وتتوزع فئات العنف حسب هذه الاتفاقيات بين الإهمال والضرب والاغتصاب والاستغلال والاتجار والعنف المؤسساتي …، إلا أن الممارسات العنيفة في منظور الأشخاص ذوي الإعاقة حسب بعض الدراسات تتجاوز هذه الفئات التقليدية. فعلاوة على تعرضهم باستمرار لكل هذه الممارسات، إلا أن السلوكات العنيفة في منظور الأشخاص المعاقين تشمل كل فعل تنتج عليه معاناة أو ضرر نفسي أو مادي؛ كأن يجد المرء نفسه في عزلة إجبارية داخل البيت أو في المدرسة، أو إجباره على فعل ما، من قبيل تناول أدوية تحد من استقلاليته والتحكم في اختياراته لمدة معينة.
ومن هذا المنطلق، يلاحظ وجود شبه إجماع في جميع الدراسات ذات الصلة أن كل الأشخاص ذوي الإعاقة عبر العالم سبق لهم أن تعرضوا لأحد أشكال العنف، إما من طرف أحد أفراد الأسرة، وإما داخل مؤسسات الرعاية الصحية والاجتماعية، وإما داخل معاهد ومراكز التربية والتكوين، أو داخل مقرات عملهم أو في الفضاء العام. كما تشير بعض البحوث الميدانية إلى أن الأشخاص ذوي الإعاقة يضطرون إلى عدم التبليغ عن تعرضهم للعنف، ولو في حالة العود، خشية فقدانهم للمساعدة الشخصية أو التخوف من عدم أخذ ادعاءاتهم على محمل الجد. ويفترض بعض الباحثين أن صنف الإعاقة ربما قد يؤثر على طبيعة العنف الممارس؛ وهكذا يظل الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية والنفسية الأكثر عرضة له. وأمام الانتشار الواسع لظاهرة العنف ضد الأشخاص المعاقين وتعدد أصنافه، يبقى التساؤل مشروعا عن العوامل الكامنة وراء شيوعه داخل المجتمع.
العنف والحواجز والثقافة
تذهب جل الدراسات، التي تناولت الظاهرة إلى اعتبار اللامساواة التي يعاني منها الأشخاص ذوي الإعاقة، في الولوج للخدمات الاجتماعية، المتوفرة لغيرهم وانتشار الحواجز الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، التي تحد من مشاركتهم في مختلف مناحي حياة الجماعة، إلى جانب ضعف التحكم الذاتي في اختياراتهم. كل هذه عوامل تجعل الأشخاص ذوي الإعاقة عاجزين عن تفادي الوقوع ضحية ممارسات عنيفة. وينضاف إلى هذه العوامل، هيمنة إيديولوجية معيقة تنظر إلى الأشخاص ذوي الإعاقة وتفرد لهم معاملة تقوم على اعتبارهم أشخاصا لا قيمة اجتماعية لديهم.
ويبدو أن مصدر هذه النظرة يتجسد في المعتقدات والمواقف الدونية، بمعنى آخر تلك النظرة الواصمة التي تسمهم بالأقل قيمة مقارنة مع النموذج الأحادي للجمال والاعتيادية. وغالبا ما تتأسس هذه الصور على الجهل وعلى معطيات مغلوطة أو تقليدية وخرفات بدائية. فهي متجذرة في ثقافتنا ولها قدرة خارقة على المقاومة، لأنها قادرة ولو جزئيا، على إعادة إنتاج نفسها عبر وسائل الإعلام. فتأثير هذه الوسائل على صناعة الرأي العام والمعتقدات الاجتماعية اتجاه الإعاقة يجعلها ناقلا قويا للمواقف الدونية حول الإعاقة. ويمكن القول أن انتشار العنف ضد الأشخاص المعاقين هو مؤشر عن نظرة المجتمع لإنسانية الأشخاص المعاقين.
العنف ضد الاشخاص ذوي الإعاقة بالمغرب
أما في المغرب، وأمام غياب أية معطيات علمية عن العنف الموجه ضد الأشخاص المعاقين، يمكن القول أن هذا الموضوع لم يحظ بعد بالاهتمام الكافي، لا في السياسات والبرامج العمومية الموجهة للقضاء على كافة أشكال العنف، ولا في البحوث الأكاديمية حول الظاهرة، ولا حتى في خطط عمل منظمات المجتمع المدني. فعلى المستوى التشريعي، يلاحظ أن كل النصوص التشريعية المتعلقة بالأشخاص ذوي الإعاقة لم تتضمن مقتضيات صريحة تضمن الحماية القانونية والاجتماعية للأشخاص ضحايا العنف اللهم في الفصل 19 من القانون إطار 97.13 المتعلق بتعزيز حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. وهي المناسبة الوحيدة التي تشير إلى “ضمان حماية الأشخاص المعاقين من كافة أشكال الاستغلال والعنف وسوء المعامل والتمييز حسب القوانين الجاري به العمل”. فعلاوة على أن مقتضيات هذه المادة تبقى مقتضيات عامة، فهي كذلك لا تحدد ما المقصود بالعنف ولا علاقته بباقي الفئات الأخرى المشار إليها في نفس المادة من قبيل سوء المعاملة والتمييز.
أما على المستوى المفاهيمي، فيمكن القول أن المشرع المغربي لم يكن مستعدا لوضع تعريف واضحا للعنف ضد الفئات الأكثر هشاشة، بما فيها الأشخاص المعاقين لأن تحديد هذا المفهوم، ربما يهدد استمرارية البنيات التقليدية داخل المجتمع. ولاسيما أن أغلب ضحايا العنف بالمغرب هن النساء. وبالتالي كان علينا انتظار سنة 2017 ليقر البرلمان المغربي قانون رقم 130.13 يتعلق بمحاربة العنف ضد المرأة”. وهي الوثيقة التي حدد فيها المشرع تعريفا للعنف. فالعنف في هذا القانون يحيل على “كل فعل مادي أو معنوي أو امتناع أساسه التمييز بسبب الجنس، يترتب عليه ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي للمرأة”.
وعلى الرغم من القطيعة المفاهيمية التي أسس لها هذا النص؛ حيث اعتمد نفس التعريف الوارد في الإعلان العالمي لمناهضة العنف ضد النساء المعتمد من طرف الأمم المتحدة سنة 1993. إلا أن هذا التعريف حسب بعض المهتمين بقضايا حقوق الإنسان في المغرب، لا يشمل بدوره كل الممارسات العنيفة الماسة بكرامة المرأة. وهو ما يمكن قوله كذلك على العنف الموجه ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى كونه يقرن العنف بالضرر الجسدي وبالتالي تبقى السلوكات المرتكبة دون حصول ضرر غير مجرمة. ونفترض أن شيوع الفهم المبني على النموذج الفردي للإعاقة، واعتبارها مشكل صحي يحتاج إلى تدخل طبي لتقويم الخلل، هو ما يجعل ربما هذا الموضوع لا يسترعي باهتمام الفاعلين المؤسساتيين وصناع القرار والباحثين في العلوم الاجتماعية على حد سواء. إذ يسود اعتقاد بأن الأشخاص ذوي الإعاقة يعيشون وضعية غير محددة اجتماعيا أي وضعية مابينية أو وسيطة. فلا هم بمدمجين في الجماعة ولا بمستبعدين تماما؛ ولا هم أصحاء ولا مرضى. ويمكن القول أن هذا التصور يتغذى سواء بشكل واعي أو غير واعي من غميس نسق قيمي يرى في الإعاقة ظاهرة مرضية يمكن علاجها إما عن طريق التدخل الطبي أو عن طريق تدخل قوى خارقة. وبمعنى آخر فهناك دائما توقع اجتماعي في عودة الأشخاص ذوي الإعاقة لما يعتبر وضعا عاديا. كما يمكن القول أن عدم استكمال البناء الاجتماعي والسياسي لظاهرة العنف ضد الأشخاص ذوي الإعاقة راجع في جزئ إلى ضعف تملك الباحثين للمقاربات الحديثة في فهم الإعاقة، سواء باعتبارها تنوع في شكل الوجود أو كظاهرة ناتجة بالأساس عن شروط اجتماعية، وهي مفروضة دون تبرير على عجزنا الوظيفي من خلال الكيفية التي ينتظم بها المجتمع. كما إن الالتباسات في ممارسات وخطاب بعض الفاعلين المدنيين قد يؤدي إلى تكريس المواقف الاجتماعية السلبية اتجاه الأشخاص ذوي الإعاقة ضحايا العنف.
وهكذا ينبغي على كل المهتمين بقضايا الإعاقة من فاعلين مدنيين وباحثين في العلوم الاجتماعية، استثمار انفتاح مؤسسات الدولة على موضوع الأشخاص المعاقين، وتبني مقاربة نقدية في تقييم مسارات هذا الانفتاح من خلال تفكيك وإبراز قصور الفهم الطبي للإعاقة الذي تتأسس عليه السياسات العمومية الموجهة لهؤلاء الأشخاص. ونفترض أن ذلك لن يتأتى إلا من خلال انخراط الحركة المدنية للإعاقة بشكل فاعل ومسؤول في كل المبادرات الأكاديمية قصد مساعدتها في تناول الموضوع من خلال جهاز مفاهيمي يسعف في استكشاف وتأويل تجارب الأشخاص ذوي الإعاقة ومواقفهم اتجاه ما يعيشونه من استبعاد وتمييز.