تتزاحم في خلدي الكلمات والمشاعر وأنا أرثي واحدا من أهرامات هذا البلد، قائد سياسي جسّد قيم الوطنية والتضحية من أجل المبادئ والتواضع والحكمة والتبصر في أبهى صورها. فعلا لقد غادرنا الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي إلى مثواه الأخير، تاركا فراغا مهولا في وقت عسير ما أحوجنا فيه إلى بُعد نظره وحكمته من أجل ميلاد جديد لبلد أحبه حتى النخاع، ضحى بالغالي والنفيس حتى يعيش مواطنوه ومواطناته أحرارا فخورين بانتمائهم إليه.
تعرفت على السي عبد الرحمان لأول مرة سنة 1988 بعمان (الأردن) حيث كنت مكلفا من جريدة حزبي “البيان” بتغطية أشغال المجلس الوطني الفلسطيني وكنت أتقاسم غرفة في الفندق مع الزميل والصديق العزيز الأستاذ محمد الأشعري ممثلا لجريدة الاتحاد الاشتراكي. التقينا في بهو الفندق، سلمت على السي عبد الرحمان وقدمت له نفسي بصفتي مراسلا لجريدتي “البيان” بالعربية والفرنسية، فرحب بي غير أنه وجه لي ملاحظة في شكل استغراب من كون حزب كالتقدم والاشتراكية يتمكن من إصدار جريدته بلغتين في حين أن حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يمثله، رغم قوته، كان يصدر فقط باللغة العربية. فاجأتني ملاحظة السي عبد الرحمان لأنني رأيت فيها نوعا من الاستصغار لحزبي لكنني لم أرد احتراما للرجل ولقيمته. فقد كنت أقدر فيه منذ ريعان شبابي نضاله الحقوقي والسياسي منذ فترة المقاومة إلى سنوات الرصاص المقيتة والسيئة الذكر.
أما الفرصة الحقيقية التي أُتيحت لي للتعرف عليه أكثر، فهي بدون شك مرحلة حكومة التناوب (1998-2002). ذلك أن السي عبد الرحمان هو من طلب سيرتي الذاتية لأكون عضوا في حكومة التناوب رغم أنني لم اكن ضمن اللائحة الثانية المقترحة للإستوزار من طرف الحزب الذي كنت أنتمي إليه، وهذا ما فاجأ بعض قيادييه في ذلك الإبّان.
إن أكثر ما أثارني في تدبير “السي عبد الرحمان” لحكومة التناوب هما بُعدين رئيسيين: البُعد الأول يتعلق بقبوله ركوب رهان تحمل المسؤولية في ظروف عصيبة تجلت في مرض الملك الحسن الثاني والملابسات التي قد يطرحها انتقال الحكم إلى ملك جديد، وثانيهما “السكتة القلبية” التي كانت تهدد المغرب في تلك الفترة العصيبة من تاريخه الحديث. من هذه الزاوية، لم تكن حكومة “التناوب التوافقي” حكومة اليسار أو الكتلة الديمقراطية” بقدر ما كانت حسب رأيي المتواضع أقرب إلى “حكومة إنقاذ وطني”، وهو ما أكسبها دعم جل الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، بما فيها التيار الإسلاموي. وهذا ما يجسد بالملموس صفة رجل الدولة بامتياز التي كانت تُميز “السي عبد الرحمان” دون غيره. ذلك أنه بخلاف رجل السياسة العادي الذي يفكر دائما في الانتخابات المقبلة، يتسم موقف رجل الدولة ببُعد النظر وتغليب مصالح الوطن العليا ومستقبل الأجيال الصاعدة. وقد انعكست هذه المقاربة الفريدة على برنامج حكومة التناوب الذي كان “ليبراليا اجتماعيا” وليس يساريا ولا اشتراكيا. وهنا تحضرني مقولة للسي عبد الرحمان في إجابته صحافي وطني معروف سأله “هل أصبحت أحزاب اليسار ليبرالية”، فأجابه أن هذه الأحزاب وطنية قبل كل شيء. إن الإقرار بهذا المُعطى لا ينفي تميز هذا البرنامج عما كانت تعمل به الحكومات التي سبقت والتي كانت تعطي الأسبقية للتوازنات الماكرو اقتصادية والتقويم الهيكلي على حساب التوازنات الاجتماعية. إن ما قامت به حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي هو محاولة سد العجز الاجتماعي المهول الذي ورثته عن سابقاتها. هكذا اجتهدت هذه الحكومة لتعميم التمدرس، خاصة بالعالم القروي، وربطت الدواوير والقرى بشبكات الطرق والماء الشروب والكهرباء. وتم تحسين وضعية الموظفين وإحداث صندوق محاربة الجفاف، الخ… وإذا كانت أهم الانتقادات، التي وجهت لحكومة التناوب على المستوى الاقتصادي، تكمن في خوصصتها لجزء من القطاع العام، وهو انتقاد لا يخلو من وجاهة، فإن ما ينبغي إثارة الانتباه إليه هو أن الموارد المالية المحصلة في هذا الإطار استعملت في المقام الأول لتعزيز البنيات التحتية وسد الخصاص الاجتماعي الأنف الذكر.
إلى جانب هذا، كنت ألاحظ أن “السي عبد الرحمان” كان يقف على نفس المسافة من كل الأحزاب المكونة للحكومة دون تمييز بينهم أو انحياز لحزبه على حساب الهيئات السياسية الأخرى..
أما البُعد الأساسي الثاني، فكان يتجلى في قدرته الاستثنائية على الصبر والجلد وتحمل الانتقاد. ذلك أن “السي عبد الرحمان” كان محط هجومات شبه يومية من طرف أقرب حلفائه، خاصة خلال المرحلة الأولى من حكومة التناوب (1998-2000). كما كان محط انتقاد ومساءلة دائمة من طرف الصحافة الوطنية. في نفس الوقت، كانت جهات داخل الدولة العميقة لا تتوانى في توجيه اللّوم له تحت ذريعة تركيزه على البُعد السياسي في تدبيره للشأن العام على حساب الملفات الاقتصادية! بل لم تكن هذه الأطراف تجد حرجا في التدخل في بعض الأحيان في تدبير الشأن الحكومي ذاته. وقد ألمح “السي عبد الرحمان” إلى هذا الجانب من تجربة حكومة التناوب التوافقي في خطابه الشهير الذي ألقاه في بروكسيل سنة 2003.
ويبقى الملف الأساسي الذي حظيت بشرف تتبعه إلى جانب “السي عبد الرحمان” هو المتعلق بالنهوض بالمساواة بين الجنسين وحقوق المرآة. وما ينبغي التنويه به قبل كل شيء هو أن حكومة التناوب كانت أول حكومة في تاريخ المغرب المعاصر تضع قضية المساواة بين الجنسين والنهوض بحقوق النساء ضمن أولوياتها مع إعطاء هذه القضية بُعدا حقوقيا واضحا يحدث قطيعة مع المقاربة الإحسانية و”الاجتماعية” التي كانت شائعة فيما قبل. ولم يكن هذا ممكنا لولا التفاعل الإيجابي لمناضل حقوقي من طينة “السي عبد الرحمان” مع مطالب الحركة النسائية المغربية المناضلة. وقد كان على القطاع الحكومي الذي كنت أشرف عليه العمل على تنزيل هذا الالتزام القوي في شكل “خطة عمل وطنية لإدماج المرأة في التنمية” اعتمادا على التزامات المغرب في مؤتمر بكين الرابع حول المرأة (1995)، وتثمينا للعمل الذي كانت المرحومة السيدة زليخة الناصري قد بدأت في مباشرته بهذا الصدد. وقد كان للراحل “السي عبد الرحمان ” أيادي بيضاء في الدفع بالمشروع إلى الأمام حيث حرص على ترؤس اللقاء الوطني الرسمي لتقديم مشروع الخطة الوطنية يوم 19 مارس 1998 بفندق هيلتون بحضور الأميرة فاطمة الزهراء ونائب البنك الدولي السيد كمال درويش (تركيا)، وبحضور مستشارة الملك الحسن الثاني، السيدة زليخة الناصري وتلة من الوزراء/ات وفعاليات المجتمع المدني، خاصة الجمعيات النسائية. كما حرص “السي عبد الرحمان” على الإسراع بتنفيذ الإجراءات المتضمنة في الخطة من خلال تأسيسه للجنة وزارية كان يترأسها شخصيا وتجتمع بانتظام. وقد كان “السي عبد الرحمان” يفتخر بهذا العمل الحكومي ويعتبره دليلا قاطعا على انخراط المغرب في المسيرة الكونية لحقوق الإنسان ولتحقيق المساواة بين الجنسين. ولم يكن يفوت الفرصة للتنويه بهذا العمل، خاصة خلال زياراته للبلدان الشقيقة والصديقة. وتحضرني في هذا الصدد لحظة اتصاله بي شخصيا طالبا مني تزويده بملخص لمشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية لتقديمه لوزيرة الخارجية الأمريكية “مادلين آولبرليت” التي كانت في زيارة للمغرب. ورغم أن “السي عبد الرحمان” كان يأخذ مسافة من النقاش العمومي الحاد الذي أثارته “الخطة الوطنية”، إلا أنه كان متابعا لكل ما كان يدور حول هذا الموضوع، خاصة نشاطي الميداني للتعريف بالخطة والدفاع عنها، كما كان على علم بالمضايقات والاستفزازات التي كنت أتعرض لها من طرف القوى المحافظة والنكوصية. وفي شهر يونيو من سنة 2000، قام “السي عبد الرحمان” بتأسيس لجنة وطنية للانكباب على دراسة النقط المتضمنة في “الخطة” والمتعلقة بإصلاح مدونة الأحوال الشخصية، وطلب مشورتي في بعض الأسماء المكونة لهذه اللجنة. إلا أن هذه الأخيرة لم تتمكن للأسف الشديد من مباشرة أشغالها بفعل اعتراض التيار الإسلاموي المحافظ.
وغني عن البيان أن تدبير هذا الملف لم يكن سهلا البتة وكان مصدر توتر في بعض الأحيان في علاقتي مع “السي عبد الرحمان”، خاصة وأنني كنت أشتغل في ظروف صعبة جدا (مشكل الاختصاصات والإمكانيات البشرية والمادية المحدودة جدا)، وضمن مناخ يتصف بمعارضة شديدة من طرف بعض مكونات الحكومة. غير أن “السي عبد الرحمان” كان متسامحا ومتفهما لأبعد الحدود، وكنت أحس من طرفه بالتقدير والاحترام لشخصي المتواضع.
لقد رحل عنا “السي عبد الرحمان”، لكنه ترك لنا سيرة نضالية مبنية على التشبث بالمبادئ والزهد في الأمور الدنيوية والتضحية من أجل المصالح العليا للشعب والوطن. فليكن تاريخه النضالي الحافل بالعطاء نبراسا تسير على نهجه الأجيال الصاعدة من أجل مغرب حر، ديمقراطي ومتضامن.