صحافة البحث

نعوم تشومسكي : ترامب بصدد تقويض آفاق نظام الحياة الإنسانية على هذه الأرض

2٬225

- الإعلانات -

أدرك نعوم تشومسكي خريف عمره، بحيث ولج سنه حاليا عقده التاسع، فلازال صاحب نظرية النحو التوليدي، البروفيسور اللامع والشهير لمعهد ماساتشوستس، يؤلف، يكتب، يتابع كل صغيرة وكبيرة تحدث للإنسانية التي تعيش بدورها، أرذل  وأسوأ وأفظع، مراحل عمرها.

يستمر تشومسكي الوفي لخطه الفكري، دون أقل زيغ أو مواربة، يجسد دائما بنفس القوة والزخم والإشعاع والنبل، ماهية المثقف العضوي المهووس، القادر على المزاوجة بين الاشتغال على أعقد المفاهيم؛وتطوير أطروحات علمية في غاية التمكن العلمي والنظري،ثم في  الآن ذاته،الالتفات إلى منظومة اليومي؛بكل تفاصيله وتعقيداته، قصد الانخراط في مساءلة أبعاد السياسيات العمومية التي تقرر،بكيفية أو بأخرى، مصير الشعوب.

لاي كف تشومسكي، كما عهدناه دائما،عن انتقاد المنظومة السياسية لبلده أمريكا، من الداخل نفسه،التي يسري مفعولها السلبي على الشعب والمؤسسات،وقد صارت في نظره مجرد حرب استراتجية على الديمقراطية.مثلما يفضح التوجهات الامبريالية، لبلده دائما فيما يخص البنيات الكامنة ،ضمنيا؛خلف مخططات الحكومات الأمريكية وكذا الأجهزة الاستخبارية  عبر تأهيل منظومة وكلائهم الخارجيين،المتمثلة عناصرها أساسا في :الحركة الصهيونية،الأنساق الاستعمارية، الديكتاتوريات في مختلف تجلياتها،الجماعات العنصرية والطائفية…

هكذا أصدر حديثا، كتابا جديدا؛ تحت عنوان :”الأممية أو الانقراض : من أجل مقاومة عالمية”. أيضا، لازال دؤوبا على لقاء وسائل الإعلام، بنفس الحيوية وبذات الهمة، كي يبدي رأيه بخصوص مايجري، محللا ومؤولا ومنتقدا ومستنتجا ومحذرا، مستطردا فيما يتعلق بسؤال واحد،بعشرات الجمل المكثفة؛المتداخلة موسوعيا،وقد استمدت روافدها من حقول علمية متعددة.ضمن السياق نفسه،جاءت آخر حواراته الصحفية مع مايكل بروكس، يوم 23 يونيو، كي يتحدث عن تفاصيل كثيرة تتعلق بالراهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والطبي والايكولوجي و الايتيقي،ثم ممكنات معطيات هذا الآني،خلال المدى القريب والبعيد،وتأثيرات ذلك السلبية؛على التطور البشري برمته.

عموما، يمكن اختزال،موضوعات حديث تشومسكي،في المحاور التالية : تظاهرات الشارع الأمريكي،وباء كورونا،سياسات ترامب وطبيعة شخصيته، الصحافة  والنشر وحرية التعبير، الديمقراطية،البرازيل بين فترتي لولا دي سيلفا و جايير بولسونارو،مناخ الكرة الأرضية.

إذن، بخصوص الوضع الأمريكي، يؤكد تشومسكي بأن التظاهرات الحالية فاقت كثيرا وبكيفية غير معهودة سابقا،المستوى الذي حققه مارتن لوثر كينغ إبان قمة شعبيته؛ مع سياقات خطابه”أملكُ حلما”،ومختلف حدود تفاعل الجماهير سابقا،مع أحداث مماثلة للقتل تعرض لها السود؛من طرف أفراد الشرطة.

ربما،لايماثل المشهد سوى ماجرى،سنوات التسعينات في لوس أنجلس،بعد تعنيف وضرب شديدين لرودني كينغ.مع ذلك، أطلق سراح المعتدين دون توجيه تهمة من طرف المحاكم.مما أدى إلى اندلاع التظاهرات طيلة أسبوع؛ فقتل ستون شخصا،ثم  وجه النداء إلى فرق الجيش الفيدرالي كي تتدخل.لكنها استمرت في  لوس أنجلس.

قد يبدو خروج الأمريكيين إلى الشارع،بتلك الأعداد الهائلة،مجرد احتجاج على مقتل جورج فلويد و برونا تايلور،وتقديم السند لحركة”حياة السود مهمة”.إنه سياق جديد،يعكس من جهة ارتقاء لينا للوعي بهذه الكيفية،نتيجة  تكرس تراكماته طيلة أربعمائة سنة من الاضطهاد العنيف ضد السود.سياق يعكس جوهره، رفضا عاما للوضع،تبعا لمشاكله البنيوية،إلى درجة الإعلان،تحت ضغط ظرفية الوباء،عن منطقة حكم ذاتي مستقلة في مدينة سياتل.  

تاريخ نضالي طويل،بدأ يثمر تغيرات نوعية؛تعتبر في جوانب منها تقديرا للمنجز الذي حققه تنظيم”حياة السود مهمة”،ومجموعات أخرى،حفزت انتباه الجمهور نحو التفكير في الأسئلة الجديدة؛ ومن ثمة الأفق المغاير.ضمن هذه الصيرورة،نفهم حيثيات سلسلة المقالات المهمة،التي دأبت على نشرها،خلال السنة الماضية؛جريدة نيويورك تايمز تحت عنوان : ”1619″،ترصد تاريخ العنصرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية.لماذا 1619؟لأنها السنة، التي شرع خلالها العبيد السود؛يأتون بأعداد وافرة.يصعب تخيل معطى من هذا النوع، قبل سنوات.

لايؤمن تشومسكي سوى بالانجاز والتحقق،للحركات المجتمعية؛غير آبه بالعجز أو الإحباط،وقد انزاح عن التصور النمطي الجاهز للنجاح والفشل،لأنهما بحسبه معطيين معقدين،ستعرف كل مقاومة جدية؛لحظات ارتداد.قد لايمضي المخطط وفق المتوقع،لذلك يلزم إعادة الكرَّة،ثم مواصلة السعي انطلاقا من نقطة الفشل السابقة،إلخ. جميع المعارك النضالية التي بوسعنا التفكير فيها،سواء المتعلقة بالحقوق المدنية،حقوق المرأة،إلغاء العبودية، امتثلت لمسار طويل وشاق،على ضوء جدليات النجاحات والتراجعات.

يستحضر تشومسكي بهذا الخصوص،مثالا ملموسا من الواقع الأمريكي الراهن،وتحديدا مشروع بيرني ساندرز؛صاحب التوجه الاشتراكي الديمقراطي: ” تصلني بهذا الخصوص طيلة الوقت،رسائل، أو أطلع على مقالات تضمر المعنى التالي:لقد حاولنا، وانهزمنا ثم انتهى الأمر،واستسلمنا.غير أن ماحدث واقعيا يشكل العكس،ويقدم تجليات نجاح هائل،لامثيل له، بحيث لم يعرف التاريخ السياسي الأمريكي، وضعا كهذا،منذ نهاية القرن التاسع عشر تقريبا، عندما سُحقت بقوة الحركة الشعبية،أو حركة المزارعين الجذريين”.

تبنى ساندرز خطة تكتيكية،بحيث انضم إلى حملة جو بايدن كي يستدرجه وجهة مبادئ اليسار.هكذا، شرعا يشتغلان وفق استدلالات لجان للتخطيط،وبالفعل حين مراجعة برنامجهما الذي رأى النور حاليا، سيتجلى بوضوح أفقه اليساري؛ قياسا لكل التاريخ السياسي منذ فترة روزفلت ويمنح فرصا عديدة.لحظة،لم يدركها ساندرز وشبابه، بترانيمسحرية.لكنه، سعي تحقق نتيجة فعالية وعمل دائمين.

حتما مجرد الضغط على زرَ،يضيف تشومسكي، سيرجح كفة هذا المرشح أو ذاك.لكن،المسألة الأكثر أهمية،التي تخلق الفارق الخلاق،تلك الفعالية المنصبة على تشكيل جدول الاختيارات،القضايا والسياسات.لاتقف، حدود النجاح عند حركات الأصبع تلك.بل، ستحقق أشياء،وتخفق أخرى،لكن يلزم الاستدراك والانطلاق ثانية من نقطة التوقف.

فيما يتعلق بحرية التعبير،فلقد شكلت معيارا منذ عقود،واستهدفت دائما فكر وعمل اليسار:تمَّ إيقاف أنشطة لقاءات وإرباكها بعنف؛ أُلغيت خطابات؛ و أُتلفت كتب.هكذا يخبرنا تشومسكي،عن تجربته الشخصية،ضمن سبيل النضال،من أجل استتباب هذا الحق الإنساني :  “أذكر مثلا بأن الكتاب الأول الذي أشرتم إليه :صناعة الإذعان.العمل الذي أنجزته بمعية إدوارد هيرمان،وصدر بداية سنوات 1970، من طرف ناشر مرموق جدا؛وقد طبع عشرين ألف نسخة.ينتمي الرجل إلى شركة كبرى،وحينما تبين لأحد المشرفين عليها،بأن الكتاب أثار الفزع،طرح على الناشر قضية وقف تداوله،لكنه رفض. حينئذ بادر شخص ثان إلى تحطيم  دار النشر برمتها،وإتلاف كل مخزون الكتاب،قصد الحيلولة دون توزيعه.فهل اتجه اهتمام شخص ما إلى القضية؟ بدافع الفضول،تحولتُ بالقضية إلى أنظار أهم المدافعين عن الحريات المدنية،مثل نات هينتوف (جمعية الدفاع عن الحريات المدنية)،لكنهم لم يجدوا في ذلك أيّ نوع من أنواع الإساءة.ففي نظرهم عندما تتخذ مقاولة قرارها بالقضاء على ناشر من خلال إتلاف محتويات المخزون قصد الحيلولة دون استمرار توزيع الكتاب لايمثل رقابة للدولة ولايستحق ذلك الإدانة”.

فقط مجرد مثال واحد،إلى جانب وقائع أخرى لايتسع المقام لذكرها، توثق؛ يضيف تشومسكي،لسحب بعض مؤلفاته ومنعها من النشر،أو حينما طُلب منه دون مقدمات المبادرة إلى تسديد تكلفة طباعة الكتاب،لأن فقراته تضمنت محتوى سياسيا لايستسيغه الناشر. أيضا،جرِّدت شخصيات أخرى من مهامها وألغيت وظائف للتدريس،إلخ.مواقف،لم تدرج سلفا ضمن منطق الرقابة،مادام المقصود بها اليسار دون غيره.

مع ذلك،يبقى الدفاع عن حرية التعبير قضية مبدئية،بحيث يرفض تشومسكي؛تلك الرقابة المسلطة على الأقوال،رغم كونها يمينية جدا.كما حدث،بخصوص موقف جريدة نيويورك تايمز،من رسالة توم كوتون،السيناتور الجمهوري عن ولاية أركنساس،التي تضمنت نداء يدعو إلى انتشار الجيش لمواجهة التظاهرات على امتداد البلاد :”ونتيجة ماأحدثته وجهة نظره من خلافات،سحب المقال كما أعلن كاتب افتتاحيات نيويورك تايمز ورئيس التحرير عن استقالته.ضمن السياق نفسه،عندما يقرر العديد من الشباب حذف مداخلة محاضر من جدول برنامجهم،يرتكبون بالتأكيد خطأ جراء سلوكهم ذلك،وإن بررته وجهة نظر تكتيكية.توجد حقا أساليب أخرى أفضل من أجل الاعتراض: يمكن تنظيم ندوة موازية،يسلط موضوعها الضوء على طبيعة مايجري وتحويل الندوة البديلة إلى فرصة بيداغوجية.لأن أسلوبا من هذا القبيل يمثل هدية لليمين المتطرف،الذي يعشق هذا النوع من الرقابة”.  

الولايات المتحدة الأمريكية،التي تعرف صعودا متواصلا للخطابات اليمينية و الشعبوية المتطرفة،على غرار العديد من بلدان العالم المتقدم،تواجه في نفس الإطار؛مخططا لتقويض المنظومة الديمقراطية. مقاربة تشومسكي لهذا المحور،شكل فرصة لكي يقذف دونالد ترامب بشتى النعوت السلبية،أكثرها إثارة للانتباه؛تصنيفه لزعيم البيت الأبيض باعتباره أكبر مجرم في التاريخ،مادامت أقصى غايات برنامجه،تنحو صوب تقويض آفاق نظام الحياة الإنسانية فوق الأرض خلال موعد قريب، ولاينطوي الإقرار بهذه الحدة على مبالغة.

يتجه انتباه الأمريكيين،خلال هذه الظرفية،صوب التظاهرات؛إلى جانب الوضعية الوبائية الخطيرة جراء تداعيات فيروس كورونا.ستكون،التكلفة باهظة ومرعبة،نتيجة التدابير السلبية المتخذة من طرف ترامب،وقد تسببت في مقتلعشرات آلاف الأمريكيين نتيجة عدم كفاءته ولامبالاته أمام وباء كورونا .ولماذا نكابد اليوم هذه الوضعية الصحية؟ يجيب تشومسكي :”سنة 2003، بعد فيروس سارس، باعتباره إحدى تجليات كورونا،وقد استوعب العلماء ظهوره جيدا،فانتهوا إلى الخلاصة التالية :”من المحتمل جدا،ظهور فيروس كورونا آخر،أكثر شراسة من الفظاعة الحالية.بالتالي، يلزمنا اتخاذ عدة تدابير من أجل التحضير لتلك اللحظة”.ويلزم تفعيل تلك التدابير من طرف شخص على أرض الواقع.توجد بالفعل صناعة دوائية،لكن المختبرات الضخمة والفاحشة الثراء تتحاشى القيام بذلك.لايمكنها إنفاق المال من أجل شيء قد يحظى بالأهمية بعد عشر سنوات، فالعمل على وقف كارثة بالنسبة لتلك المختبرات ليس مثمرا. بنية تشي بأزمة الرأسمالية. تمتلك الحكومة موارد؛وتتوفر على مختبرات كبيرة.لكن لدينا في نفس الوقت معطى اسمه رونالد ريغان،يعود إلى بداية اكتساح الليبرالية ضد الشعب، محاولا تكريس تأويل مفاده بأن الحكومة تجسد مشكلة وليس حلا،مما يعني أنه يلزمنا إعادة القرارات إلى أيادي المؤسسات الخاصة غير المضطرة أساسا بتدبيج وصياغة تقارير وعدم الخضوع لتأثير أي جهة.جورج بوش، أسس مجلسا رئاسيا لتقديم الاستشارة العلمية،وقد بادر أوباما بذكاء نحو استدعائه خلال اليوم الأول لإدارته وألتمس منه تهيئ نظام لمواجهة وضعية وبائية.بعد انقضاء أسابيع،عاد الفريق بمخطط تبلور على أرض الواقع.لكن شهر يناير 2017،صارت شؤوننا بيد المدمِّر.خلال أولى أيام تدبيره،خرَّب ترامب كل النظام المخصص لمقاومة الوباء؛ثم سنة بعد سنة،أوقف الدعم عن مركز التحكم وكذا الوقاية من الأمراض وكذا مختلف السلطات الحكومية المرتبطة بالشأن الصحي.أيضا،ألغى البرامج العلمية الأمريكية في الصين التي تهتم بالتعاون مع علماء صينيين من أجل تحديد التهديدات المحتملة لوباء كورونا والتصدي له. لذلك،حينما دقت لحظة كورونا،لم تكن الولايات المتحدة مستعدة بما يكفي،جراء سياسة القائد المدمِّر”.

 قد نتجاوز مرحلة الوباء، يؤكد تشومسكي، بيد أننا لن :”نتخلص قط من آثار جريمة أخرى اقترفها ترامب، تتمثل في مسألة ارتفاع حرارة المحيط الجوي.إذن، يكمن الأسوأ في القادم، ولن ننجو من هذا المصير أبدا. الصفائح الثلجية للمناطق القطبية بصدد الذوبان؛ ولن تتشكل ثانية.يقود هذا نحو  ارتفاع مطرد لحرارة الأرض. بهذا الخصوص،يمكن مثلا لثلوج القطب الشمالي،إغراق العالم.لقد أوضحت دراسات حديثة بأنه جراء الوضعية الحالية، وفي غضون خمسين سنة،سيغدو حيز مهم من أمكنة العالم التي تصلح للاستقرار غير قابلة للحياة.يستحيل التفكير في العيش ببعض المناطق المنتمية إلى آسيا الجنوبية،أو الشرق الأوسط وكذا الولايات المتحدة الأمريكية.تقترب مياه البحر من النقطة التي بلغتها قبل 125 ألف سنة، أي 7.5 ميترا بمعنى أكثر ارتفاعا من مستواها الحالي.والأكثر فظاعة من هذا،فقد أصدر معهد سكريبس لعلوم المحيطات،منذ عهد قريب،دراسة تعتبر أننا نقترب بكيفية مخيفة من مستوى مماثل لما كان عليه الوضع قبل ثلاثة ملايين سنة،عندما بلغ مستوى البحر آنذاك مابين خمسة عشر إلى أربعة وعشرين ميترا”.

لتدارك خطورة الوضع، تبحث مختلف بلدان العالم،القيام بعمل ما،قصد إنقاذ مايمكن إنقاذه. في المقابل، لا يتوانى ترامب عن تعميق الأزمة؛ ومن ثمة الإسراع بالبشرية نحو الهاوية : “بتوظيف الوقود الأحفوري، بل الأكثر خطورة مثل الغاز الصخري، ثم تخريبه للجهاز التنظيمي الذي يحد من تأثيره الحاسم.لم يعرف قط التاريخ الإنساني جريمة فاقت صنيعا من هذا القبيل.ولا يمارس ترامب ذلك عن جهل، بل يعرف حتما طبيعة غاياته، لكنه لايأبه. المهم ضخ مزيد من الأرباح في جيبيه وكذا جيوب ناخبيه الأثرياء غدا،فمن ينشغل إذن بهاجس احتمال اختفاء العالم خلال أجيال معينة؟”.

العقل السياسي لدى ترامب، مثلما تجسده شخصيته، وقراراته السلطوية، ومضامين تغريداته،وحروبه الدائمة،ضد كل من ينتقد آراءه ومواقفه حيال مؤسسات الكونغرس، ومجلس الشيوخ، والعدالة، والإعلام،تجعله حقيقة أقرب إلى نموذج ديكتاتوري تافه، يحكم بلدا يعرف انقلابا كل سنتين،ثم بعيدا عن روح تلك الديمقراطية البرلمانية،المنبعثة من انجلترا سنة 1689 مع الثورة المسماة مجيدة،حينما انتقلت السيادة من الملكية إلى البرلمان. بعد مرور قرن تقريبا،أخذت تلكالديمقراطية البرلمانية الوجهة صوب الولايات المتحدة الأمريكية.منظومة، تعاني تراجعا خطيرا، نتيجة زحف مقتضيات الليبرالية المتوحشة،عبر محاور جشعها المالي،يعتبر ترامب أحد أدواتها التنفيذية الفعالة.

مقابل هذا النموذج، يستحضر تشومسكي،شخصية الرئيس البرازيلي السابق لولا دي سيلفا، ويعتبره قائدا سياسيا في غاية الأهمية. لذلك، ظل يدافع عنه فترة اعتقاله، بل لم يتردد تشومسكي في زيارته بسجن كوريتيبا :”ينحدر الرئيس لولا دي سيلفا من الطبقة العمالية، عرف بنضاله :خلال عهد الديكتاتورية، استطاع تنظيم معارضة قوية ثم ترشح للانتخابات الرئاسية. سُرق منه الانتصار مرات عديدة، ثم فاز أخيرا بمنصب الرئاسة ودشن عصرا جديدا في تاريخ البرازيل.لايمكننا بهذا الخصوص البقاء عند حدود الكلام ؛بل نعود إلى تقرير البنك الدولي، مؤسسة لا تنزع نحو مرجعية راديكالية. فقد أصدر سنة 2016، دراسة مستفيضة عن تاريخ الاقتصاد البرازيلي المعاصر، واصفا فترة لولا دي سيلفا بـ”العهد الذهبي”، بحيث عرفت مستويات الفقر في البرازيل تراجعا كبيرا،ونموا معتبرا فيما يتعلق بالإدماج: بحيث احتوت سياسة لولا جانبا كبيرا من الساكنة السود وكذا شخصيات مهمشة تماما ومضطهدة طيلة العهود السابقة، وتوخى سعيه تمكين الأفراد من سيادة مؤكدة على حياتهم،فحقق لولا بذلك نجاحا هائلا.أصبحت البرازيل من بين البلدان الأكثر احتراما في العالم، بل عند خط المقدمة.

مقابل هذا الوضع لنتابع مايجري حاليا، وقد انتهت البرازيل إلى يدي بولسورانو،فأضحت تمثل اليوم إحدى البلدان المحتقرة والأكثر إثارة للسخرية والإدانة دوليا.طبعا تواجدت مشاكل كثيرة خلال فترة لولا دي سيلفا،على سبيل الذكر تساهله مع الفساد ولم يمنحه الاهتمام الكافي. في هذا الإطار، ضم حزب العمال العديد من الفاسدين، لأن الفساد يستوطن البرازيل وكذا جل محيطها.

إذن يتمثل الجانب الذي أخفقت إدارته في تفعيله،توجيهها الشعب نحو الإيمان بأنه المقصود أولا وأخيرا بمشروع التنمية و ستجني الجماهير الثمار. لذلك يبدو حاليا غريبا جدا،عندما نستفسر البرازيليين الذين استفادوا كثيرا من مخططات لولا،بسؤال فحواه: “كيف تحققت لكم تلك الحقبة الرائعة؟”. الجواب جاهز:” إنها هدية من الله”، كما لو يعتبرون تلك المرحلة مجرد سياق عابر،و لا يدركون بأنها مخططات اقتصادية واجتماعية بلورت جانبا من مشاريع حزب العمال.استمرار اعتقاد من هذا النوع يجسد فشلا حقيقيا للحكومة :يظن البرازيليون بأن ماجرى يبقى في نهاية المطاف هدية بكيفية أو بأخرى،ولاينتمون إلى تطورات المشروع،مما يكشف عن إخفاق كبير.إضافة إلى معطيات أخرى يمكنكم انتقادها.إذن،أتفق تماما مع تصنيف التقييم الايجابي ل”الحقبة الذهبية”،لأن البرازيل ارتقت مع لولا دي سيلفا إلى مستوى بلد يحظى باحترام كبير دوليا باعتباره صوتا للجنوب قاطبة،بحيث يعتبر ذلك دالا للغاية،ويفسر جزئيا سبب سقوط الرئيس.فالأنظمة السياسية لاتحب الناجحين،وترفض سعيهم نحو هذه المسار.النخب في البرازيل عنصرية جدا وتضمر وعيا طبقيا كبيرا.ثم يظهر لولا المنبعث من قلب الطبقة العاملة،بل لايتكلم حتى البرتغالية بشكل سليم؛ولم يلج أسلاك المدارس”الراقية”.النتيجة الحتمية بحسبهم،تفترض أن يكون لولا دي سيلفا خاضعا،شاكرا للمالكين معروفهم نحوه،وليس وصوله إلى السلطة ثم شروعه في تفعيل سياسات.يمكنكم أن تستشفوا مشاعر المرارة والغضب،حينما تلتقطون طبيعة الأحاديث المتداولة بين مكونات تلك الطبقة الميسورة،فقط بناء على مبررات عنصرية واجتماعية أكثر منها براهين سياسية.سنوات بعد رحيل  لولا،حدث انقلاب هادئ ضد وريثته ديلما روسيف. ثم وصلنا إلى محطة انتخابات أكتوبر .2018 أُودع لولا السجن؛لأنه المرشح الأكثر شعبية،المؤهل بامتياز للفوز.سُجن تحت طائلة تهم غير ثابتة،وإجباره على الصمت”.