ذاكرة إعلامية.. المسرحي محمد مسكين يتحدث عن أزمة المسرح المغربي وضرورة توفر “مسرح ناقد”
- الإعلانات -
ذاكرة إعلامية هي نافذة يطل من خلالها قراء موقع “µ” على أعمال صحفية ذات قيمة فكرية، أدبية، فنية و سياسية سبق للصحفي المصطفى روض أن أنجزها و نشرها في مجلتي الحرية و الفكر الديمقراطي الفلسطينيتين و منابر أخرى بالمشرق وصحيفة أنوال بالمغرب. و ستكون البداية مع الحوارات في محور السينما ستتلوه محاور الشعر، المسرح، النقد الأدبي والسياسة و الفكر.
فضلا عن كونه مخرج مسرحي، فإن محمد مسكين ينشر على مدار السنوات الماضية، سلسلة من المقالات و الدراسات حول المسرح. لقد تكونت لديه باعتراف العديد من النقاد و المعنيين بشؤون المسرح في المغرب، “وجهة نظر” خاصة بشأن المعضلات التي تواجه المسرح المغربي و العربي.
في هذا الحوار مع محمد مسكين، الذي نشرناه بمجلة الحرية الفلسطينية سنة 1687، محاولة لإلقاء الضوء على أفكاره و توجهاته في ميدان الإخراج المسرحي.
- س: في ضوء أزمة المسرح المغربي، ما هي الهموم المسرحية لمحمد مسكين و كيف يرى علاقتها بأزمة المسرح العربي ككل؟
محمد مسكين: أشير بدءا أن من الأشياء التي يتم تداولها بشكل ملفت للنظر هو مصطلح الأزمة. هذا المصطلح يلتصق بكل الممارسة الثقافية العربية. فهناك أزمة الشعر، و أزمة السينما، و أزمة الرواية، و هنالك أزمة المسرح.. الخ. و لهذا وجب منذ البدء تحديد دلالة هذا المصطلح، تم اختلاف دلالته من قطاع إلى قطاع آخر. و إذا كان للشعر أزمته، فأكيد أن أزمة الرواية تختلف، كما أن ما يسمى بأزمة المسرح، تختلف بالنسبة للمسرح العربي، و كما قال الأستاذ حسين مروة في إحدى دراساته إن أزمة المسرح العربي هي أزمة ميلاد بخلاف أن أزمة الشعر هي أزمة موت، على اعتبار أن الشعر العربي عمر طويلا و بالتالي أصبح يعش نوعا من الاختناق. و إذا كانت هناك أزمة للمسرح العربي فهي أزمة الولادة و البداية و هي أزمة الخطوة الأولى. و نعرف جيدا أن كل خطوة أولى تعزز أزمة باعتبارها مغامرة، و المغامرة لا تستطيع الابتعاد عن الأزمة. و أريد أن أقول بهذا إن المسرح العربي يعيش في الحقيقة أزمة إيجاد موقعه ضمن خريطة الثقافة العربية ككل على اعتبار أن الملابسات التاريخية التي من خلالها دخل المسرح الثقافة العربية اتسمت بنوع من إرادة الإقصاء و إبعاد هذه الصيغة المستجدة الدخيلة على الثقافة العربية “الأصيلة” التي رفضت هذا الوافد الجديد الذي هو المسرح، و كلنا يعرف مدى معاناة الجيل الأول – ونقدم هنا نموذجا – أبو خليل القباني في دمشق الذي تعرض كثيرا لهجمات الفقهاء الذين رفضوا المسرح باسم الدين حيث أحرق مسرح القباني في دمشق و نعت بكل الأوصاف كما نعت بالماخور و صدرت فتوى تحرم الاهتمام بالمسرح.
إرادة الإقصاء
هذا دليل على أن المسرح كصيغة كان منذ البداية مندمجا في إطار الصراعات الاجتماعية و الثقافية التي عرفها القرن 19 في العالم العربي. من هنا فالمسرح وجد مع الأزمة، أزمة إيجاد الموقع. و ما زلنا في الحقيقة، حتى في القرن العشرين أو النصف الثاني منه، نجد هذه الإرادة في الإقصاء، فالثقافة العربية ما زال الخطاب السائد فيها هو الخطاب الشعري و ثقافة الشعر. و ما زال الشعر يمتلك قوة إقصاء الخطابات الأخرى و من ضمنها المسرح. هذه الأزمة يمكن أن نتفاءل انطلاقا منها على اعتبار أنها أزمة بحث عن الوجود و أزمة تحقيق هذا الوجود.
إذا انطلقنا من هذا المستوى العام إلى المستوى الخاص، يجب أن أعترف بأن المسرح المغربي هو فن وافد بمعنى أن الثقافة المغربية و الثقافة العربية ككل، لم تألف هذا الفن الجديد الذي هو المسرح، أي هذا الممثل و النص و التقنيات و الخشبة و الجمهور. صحيح أننا عرفنا ما يسمى بالأشكال ما قبل المسرحية بالرغم من أنني لا أتفق مع هذه التسمية (عرفنا أشكال التواصل الجماهيري) و لكن لم تتوفر فيها كل أشكال الفرجة المسرحية.
إذن، بالنسبة للمسرح المغربي فهو مازال يبحث عن ذاته و موقعه، و لعل مؤشرات هذه الأزمة يمكن أن نجملها فيما يلي:
بالنسبة للمسرح المغربي يعيش نوعا من التشتت الإداري، بمعنى أننا ما زلنا لم نضبط بعد هل المسرح ينتمي إلى وزارة الشؤون الثقافية أم إلى وزارة الشبيبة و الرياضة أم ينتمي إلى وزارة الإعلام؛ فما يسمى بمسرح الهواة ينتمي إلى وزارة الشبيبة و الرياضة التي تهتم في الأصل بالرياضة، و كثيرا ما يساء فهم المسرح و يعتبر مجرد تزجية (للوقت الثالث) و للأطفال و يتعامل مع المسرح بنوع من الاستخفاف و الازدراء.
و “المسرح الاحترافي” – ليس هناك مسرح احترافي بمعنى الكلمة – لم يجد بعد المؤسسة التي تؤطره و تهتم به. و هذا التشتت الإداري هو من ضمن مؤشرات الأزمة.

و كذلك من ضمن مؤشرات الأزمة غياب المسرح الاحترافي الفاعل. و إذا استقرأنا تاريخ المسرح بصفة عامة نجد أن المسرح الاحترافي كان دائما يقدم نفسه كنموذج للصراع، على اعتبار أن المسرح الشاب كان يجد نفسه مضطرا للصراع مع المسرح الاحترافي من أجل خلق البديل، و بالتالي هذا الصراع كان يملك قوة جدلية تدفع عجلة تطور المسرح إلى الأمام. و إذا كان المسرح الاحترافي في أغلب الأحيان يقدم بعض النماذج الناضجة و الناجحة في تاريخ المسرح، إلا أننا في المسرح المغربي لا نجد هذا النوع من المسرح، و كل ما نجده هو مسرح متفرغ. و هناك فرق بين التفرغ و الاحتراف. هناك غياب قاعدة قانونية تضبط معنى الاحتراف. ليست هناك فرقة وطنية محترفة معترف بها على الصعيد الرسمي و ليس هناك قانون يضبط هذه الفرقة، كما أنه ليس هناك قانون يضبط مهنة المسرح. هذا في الحقيقة يشكل، في اعتقادي، ملمحا من ملامح الأزمة. هناك بعض الملامح الأخرى يمكن إيجازها كالتالي:
بالنسبة للمسرح نعرف أنه أصبح الآن علما و ليس ممارسة تلقائية عفوية. المسرح هو التقنية و هو التشخيص، و التشخيص هو علم، المسرح هو الديكور، و الديكور هو علم، المسرح هو الإنارة، و الإنارة علم… الخ. لكن، مع الأسف الشديد، نجد لحد الآن أن الممارسة المسرحية في المغرب كانت تعتمد التلقائية، لأنني أطرح هنا مسألة غياب المؤسسات التكوينية و المعاهد المسرحية. و هذه القضية ساهمت في إشاعة نوع من الغموض الذي طغى في الساحة المسرحية، و كذلك نوع من الخلط الذي ساد الإبداع المسرحي في المغرب.
كذلك ضمن مؤشرا الأزمة غياب الآفاق بالنسبة للمسرح الهاوي، هذا المسرح الذي قدم الدليل في مناسبات عديدة على انه مسرح ناضج يعنى بهموم الجماهير الكادحة و ارتبط باللحظة و عبر عنها، و لكن، مع كل الأسف، أن هذا المسرح لا يجد نفسه أمام أفق يمكن أن يبلور من خلاله تجربته. و أعتقد أن الأفق هو المسرح الاحترافي، و هذا قانون في تطور المسرح، فلا يمكن أن نبقى هواة طيلة حياتنا، و لا بد من فترة معينة ينتقل فيها المرء من الهواية إلى الاحتراف.
من لغة الشعر إلى لغة الاقتباس
- س: بين أزمة المسرح المغربي و أزمة المسرح العربي توجد قواسم مشتركة سواء على مستوى كتابة النص أو على مستوى الإخراج، أو على مستوى المصطلحات التقنية، أو على مستوى لغة المسرح المعتمدة ككل. و من خلال كتاباتك و كتابات المسرحيين المغاربة الآخرين بصفة عامة نلحظ بأن ثمة جهود جادة لتأسيس مفاهيم معينة بغية فتح آفاق نحو لغة مسرحية أصيلة. ما هي وضعية هذه الجهود و ماذا حققت و بالتالي كيف ترى من منظورك اللغة المسرحية في المغرب؟
محمد مسكين: اللغة المسرحية نقصد بها مسألتين: اللغة التي نكتب بها المسرح، و نقصد بها – كذلك – اللغة التي نتخاطب بها مسرحيا، أي اللغة التي تؤل بها العملية المسرحية أو التي تشكل في الحقيقة الشبكية القاموسية للمسرح، إذا صح التعبير. فيما يعود للمسألة الأولى، و هي اللغة المسرحية، نعرف جيدا أن اللغة العربية لم تكن في أي يوم لغة مسرح لأنها نحتت في إطار الشعر. فهي لغة اعتمدت “الاقتباس”، وأريد أن أشير هنا إلى أنني لا أكرر قول المستشرقين، و لكن في الحقيقة هذا واقع موجود و حتى الفلاسفة المسلمين في القرن الثاني و الثالث الهجري حين أرادوا صياغة فلسفة إسلامية اضطروا إلى الاقتباس من لغات أجنبية، نجد الكندي يرجع إلى اللغة العبرية و يقتبس منها، نجد الفارابي يعود إلى اللغة اليونانية و يقتبس منها، انطلاقا من كون أن اللغة العربية تفتقد لتلك المصطلحات الفلسفية التي تعبر عن مفاهيم فلسفية مجردة. نفس هذه الوضعية يعيشها المسرح على اعتبار أن اللغة المسرحية تفرض وجود نفس درامي في حين أن اللغة العربية فيها نفس شعري و غنائي في الأصل. و في الحقيقة المسرح لم يصنعه الغناء و إنما صنعه البعد الدرامي. فمنذ البداية نجد الرواد الأوائل اضطروا إلى الاعتماد على اللهجات العامية (الدارجة) التي قدمت – أحيانا – هذه الإمكانية بخلاف اللغة العربية، فنجد مثلا مارون النقاش في مجموعة أعماله يقحم العامية اللبنانية في إطار اللغة العربية و كأنه يسعى لتجاوز ذلك النقص الدرامي في اللغة العربية، و نفس الشيء نجده عند أبو خليل القباني في تلك الفترة. و بالنسبة لهذا الجيل يمكن القول إن توفيق الحكيم قد بدأ بمحاولة لإيجاد لغة مسرحية درامية فأسس مفهوم ما يسمى باللغة الثالثة، و هي تركيب بين اللغة العربية و اللهجة العامية المصرية. و هناك محاولات أخرى لشحذ اللغة العربية بهذا البعد الدرامي. و أصبحنا اليوم نجد الكتابات المسرحية التي استطاعت أن تضمن هذا البعد الدرامي و الذي أسميه بلغة رولان بارت بالروح المسرحية، أي تلك الروح المسرحية التي لا نجدها في اللغة العربية. و هناك محاولات كثيرة لتطويع اللغة العربية و مدها بهذا النفس الدرامي.
هذا جانب، أما الجانب الأكثر أهمية في الحقيقة فهو القاموس المسرحي، و نعرف جيدا أننا ورثنا القاموس المسرحي الغربي. و مارون النقاش حين أراد أن يصف الممثل رجع إلى قاموس اللغة العربية فلم يجد مصطلحا يفيد هذه المهنة الجديدة (التمثيل) و التي لم تكن موجودة و بالتالي فاللغة العربية لم تنحت لها مصطلحا مرادفا، فسمى الممثل باللاعب ثم بعد ذلك وجد أن هذا المصطلح لا يفيد فسماه بالشادي (الذي يمارس الغناء) و فيما بعد وجد أن هذا المصطلح، هو الآخر، لا يفيد كذلك. و أنا أعطي هذا المثال لكي أشير إلى أننا لا زلنا نعيش فوضى المصطلحات. و نعرف جيدا أن المصطلح ليس مسألة شكلية و إنما هو مسألة صميمية و جوهرية: لأنه ليس هناك مصطلح بدون مفهوم و المصطلح هو وعاء المفهوم. و إذا كان هناك خلل في المصطلح فإنه ينعكس على المفهوم و على فهمنا للشيء. فمثلا ماذا نريد قوله بمصطلح المخرج هل هو ترجمة لمصطلح (ميتر آنسين) بالفرنسية! إن هذا المصطلح الفرنسي يعطي الدلالة الحقيقية لمهمة ما نسميه نحن بالمخرج، أي هو الذي ينقل العمل من الورق إلى الخشبة، هذه وظيفته. و لكن المخرج باللغة العربية ما معناه؟ أخرج الشيء، أي نقله من مكان إلى مكان آخر و هذا لا يقدم أي معنى للدلالة الفعلية ل (ميتر آنسين). و في الحقيقة لا زلنا نعيش هذه الفوضى في المصطلحات. و يمكن القول أن المسرح العربي لم يول أي اهتمام لهذه المسألة. طبعا، لا أدعي بأن البداية ستكون مني شخصيا و أعتبرها مهمة جدا و ليست شكلية.
لا مسرح خارج الجمهور
- س: ضمن الإشكاليات المطروحة على المسرح يبقى هناك جانب آخر يطرح نفسه بحدة و هو مصطلح السينوغرافية كتصور للإخراج، و نعلم بأن ثمة مجهودات دراسية لبعض المسرحيين المغاربة كمحاولات جادة تهدف إلى إيجاد نوع من الكتابة للإخراج. من وجهة نظرك كيف تنظر لهذه المسألة؟
محمد مسكين: في الحقيقة إن مصطلح السينوغرافية هو نفسه يخلق مشاكل، لان السينوغرافية ترجمة لمصطلح (سينوغرافي) و هو في الأصل لا يعني الإخراج، أي
(لا ميز آن سين) و لكن فقط يعني الاشتغال بالمناظر و الملابس…الخ.
الديكور و الملابس، و المخرج هو ذلك التقني الذي يهتم بتصميم (Un cinographe)
شيء آخر و له وظيفة أخرى. و إذا كان السؤال يرتبط بمسألة الإخراج فمع الأسف لحد الآن لا نجد هذا الاهتمام بصياغة الإخراج صياغة كتابية. فنحن ما زلنا نتعامل مع المخرج كأنه قائد و كفى. و كأن هناك من الذين يهتمون بالإخراج فقط كحب في الزعامة، لا أقل و لا أكثر على اعتبار أن المخرج يملك قرار تحريك الممثل و بالتالي يملك سلطة إقصاء الممثل عن عمله، في حين أن الإخراج كإبداع و كعلم و كفن لا زلنا لم نصل إلى مستواه في المسرح العربي، باستثناء بعض المحاولات الشابة في إطار ما يسمى بمسرح الهواة.
إن الترجمة مهما بلغت قيمتها تبقى استنساخا رديئا للأصل – النص. إ ذا كان المخرج مجرد مترجم للنص فماذا سيقدم للعمل الإبداعي، في حين أن الإخراج هو كتابة ثانية للنص كما يقال حاليا. أي أن النص يمكن اعتباره مجرد فرضية ينطلق منها المخرج ليبني فضاءه الفني و التقني. و هذا المستوى هو الذي لم نصل إليه بعد.
المسرح العربي ولد في مقبرة
- س: تضاف إلى أزمة المصطلحات المسرحية و إلى الإشكالات الأخرى في المسرح، إشكالية الجمهور و هي مطروحة بحدة. كيف كان اهتمامكم الثقافي بهذه الإشكالية، و كيف تعالجونها؟
محمد مسكين: المسرح في الأساس هو لعبة جماهيرية، و كما أقول دائما أن الشاعر يمكن الانفصال عن الجمهور في حالات معينة ليأخذ قلما و ورقة و يكتب القصيدة. و يمكن للفنان التشكيلي أن يبتعد عن الناس و يرسم. و لكن رجل المسرح، لا يمكن أن يؤسس مسرحا بدون جمهور لدرجة أستطيع معها القول أن الجمهور هو الذي يبرر وجود المسرح، لأن المسرح هو فرجة و الفرجة لا تقدم للذات و إنما للناس. و من هنا يجب أن ينصب النقاش على إشكالية الجمهور. و أنا شخصيا، لدي وجهة نظر، لأن الأزمة بالأساس هي أزمة جمهور بالنسبة للمسرح العربي ككل، و حتى لا أبقى في إطار التعميم سأركز على المغرب. هناك أزمة جمهور، و أتحدى أي مسرحية و أي رجل مسرحي بأن يقدم عمله عشرة أيام متتالية في المسرح و يأتيه الناس، و بكل تحدي، في مدينة مثل الدارالبيضاء أو الرباط. كيف نؤسس مسرحا إذا لم نستطع تقديم نفس المسرحية مدة عشرة أيام متتالية في حين نعلم جيدا أن هناك مسرحيات في أوروبا تقدم آلاف المرات؛هناك مسرحيات أوروبية قدمت، و مازالت تقدم خمس سنوات متتالية و في كل ليلة تقريبا. فعلا هناك أزمة جمهور، لكن ما هي أسبابها، من المسؤول عن هذه الأزمة، و كيف يمكن تجاوز هذه الأزمة؟
فيما يعود للأسباب، أولا، هناك غياب الاهتمام بالمسرح. و هذا الغياب يمكن تدقيقه في غياب الحاجة للمسرح، فكيف نطالب الجمهور بحضور المسرح و هو ليست له حاجة بهذا المسرح؟ و أعتقد أن ما يجب التفكير فيه هو خلق الحاجة المسرحية. يمكن القول إنه من الناحية العلمية لا يمكن، و لكن يمكن أن نخلق الحاجة لدى الآخر كي يذهب إلى المسرح، طبعا، من خلال التربية الجمالية. حين يصبح المسرح جزء من اهتمام الناس و يدرس في المدارس الابتدائية و المدارس الثانوية و في الجامعات، آنذاك، يمكن القول بأن المسرح احتل موقعه. و أنا هنا أطرح سؤالا: لماذا ندرس الشعر للطفل منذ السنة أولى ثانوي و لا ندرس له المسرح؟ لماذا الطفل العربي يعرف المتنبي و أحمد شوقي الشاعر و لا يعرف أحمد شوقي المسرحي؟ لماذا هذا الطفل يعرف البحتري و لا يعرف توفيق الحكيم؟ لهذا، إذا كنا نعتبر أن المسرح جزء من الثقافة العربية ككل وجب فعلا أن يكون جزءا من اهتمام الناس ككل. في الحقيقة إن إدراج المسرح في البرامج التعليمية سيعطينا فرصة لجعل الأطفال و الشباب على اتصال مباشر بالمسرح. فالطفل في فرنسا منذ الابتدائي و هو يعرف موليير و يعرف راسين و يدرس مسرحياته و يعرف كورنيي، و هناك اعتزاز بهذا التراث المسرحي الفرنسي بالنسبة للطفل، فكيف لا نعتز نحن بتراثنا المسرحي العربي؟
هناك جانب موضوعي و جانب ذاتي، طبعا لا نخفي انعدام الإمكانيات للتواصل مع الجمهور، و هناك حواجز. و لكن حتى بالنسبة للإنتاج المسرحي فهو ضئيل. لا يجب أن ننتظر من الجمهور أن يأتي إلينا بل يجب أن نذهب إليه. المسرح الذي لا يذهب إلى الناس ليس مسرحا، المسرح الذي لا يذهب إلى المعامل و المزارع ليس مسرحا. و نحن في المسرح العربي بحاجة أكثر من غيرنا للذهاب إلى الناس كي نخلق لديهم الحاجة و كي نعرفهم بهذا الشيء الذي اسمه المسرح. كذلك من ضمن الأسباب في أزمة المسرح وجود هذا الطغيان – الغول الجديد المتمثل في التلفزيون، هذا الغول أصبح يكتسح كل شيء و لم يعد يترك وقتا للاهتمام لا بالكتاب و لا بالمسرح و لا بأي شيء آخر.
المسرح العربي حين أراد أن يولد، ولد تقريبا في اللحد ، ولد في مقبرة، و ملاك الموت واقف على رأسه (التلفزيون) و هذا يدل على أن ثمة عملية لإجهاضه منذ البداية. و المسرح تاريخيا لم يجد الهواء الكافي لممارسة التنفس و خنق منذ البداية خاصة من طرف التلفزيون.
النقد المسرحي لم يطور أدواته الإجرائية
- س: هناك مسألة النقد المسرحي في المغرب و ما قيل عنه كثير. ما هي، في نظرك، وضعيته الآن و كيف يتعامل مع الإنتاج المسرحي كتابة و عروضا؟
محمد مسكين: في الحقيقة مسألة النقد المسرحي منفصلة عن مسألة المسرح ككل. و بالنسبة للمغرب النقد المسرحي لم يخلق التراكم الضروري الذي يمكن من خلاله أن نناقشه و نحاوره. كل ما هنالك مجموعة محاولات هنا و هناك لا تشكل تجربة تمتلك ملامح واضحة. و ما يمكن أن يقال عن النقد المسرحي هو أنه في أغلب الأحيان نقد صحفي يكتب في الجرائد.
من هنا فقد مصداقيته كمتابعة نقدية رصينة كذلك. فالنقد المسرحي مختلف بالنسبة لأشكال النقد الأخرى في الثقافة العربية. و إذا كان نقد الرواية و نقد الشعر قد تطورا، فإن النقد المسرحي لم يطور بعد أدواته الإجرائية. النقد المسرحي في أحسن الأحوال – مازال – نقدا إيديولوجيا، و النقد الإيديولوجي لا يمكن أن يؤسس لنا البعد العلمي. صحيح أن الجانب الإيديولوجي يجب أن يكون حاضرا، و لكن الآن الأدوات النقدية تطورت في حين نجد النقد في المسرح المغربي و العربي ككل لم ينتبه بعد إلى ضرورة تطوير هذه الأدوات و إلى ضرورة الانتقال بذاته من مرحلة إلى أخرى. هنا أستثني بعض المحاولات القليلة في المسرح المغربي التي أفرزت بعض الأسماء التي تعي الأشياء الإيجابية في هذا المجال. كذلك هذا النقد يكون في بعض الأحيان عبارة عن تصفية حسابات، فهو نقد إخواني و نقد للإقصاء أي نقد كالسيف، إما أنك معي أو سيفي على رقبتك. و هذا ليس نقدا لأنه كثيرا ما يسقط في السب و الشتم. و السب و الشتم لا يؤسسان العلم.
- س: أين هو موقعك داخل الحركة المسرحية و ماذا يمكن قوله عن كتاباتك المسرحية و عن أطروحاتك الإبداعية في المجال المسرحي؟
محمد مسكين: بالنسبة للحركة المسرحية المغربية عرفت مع بداية السبعينات قفزة نوعية حيث ظهرت في هذه الفترة مجموعة من الأسماء في إطار ما يسمى بمسرح الهواة التي حاولت تأسيس تجربة جديدة. و لعل جدة التجربة تتأتى من كون هؤلاء المسرحيين أصبحوا ينظرون لأعمالهم، طبعا عملية التنظير في حد ذاتها ليست سلبية، و لكن بالعكس اعتقد أنها إيجابية بتأكيدها على اهتمام المبدع نفسه و وعيه للعملية الإبداعية. حين يطرح المبدع على نفسه السؤال التالي: لمن أقدم أعمالي، لمن أكتب، و كيف أكتب؟ هنا يبدأ التنظير لهذا فالمبدع الذي لا يطرح على نفسه هذه الأسئلة ليس مبدعا حقيقيا.
مع بداية السبعينات بدأت عملية التنظير في هذه الحركة. و أعتبر نفسي ضمن هؤلاء الذين حاولوا مناقشة المسرح من داخله، أي أننا كرجال مسرح كنا نناقش المسرح و هذا هو الجديد. في إطار هذه المحاولات ظهرت مجموعة من الدعوات و التصورات و ظهر ما يسمى بالمسرح الاحتفالي. و أعتقد أن هذه هي أهم دعوة و أنا لا أسميه اتجاها، و لكنها دعوة مبررة و مهمة لأنها – على الأقل – أعطتنا على المستوى الكمي مجموعة من الدراسات و الكتابات التي حاولت أن تؤسس لهذا التصور المسرحي. و شخصيا في حوار مع تجربة المسرح الاحتفالي وصلت من خلاله إلى مجموعة من القناعات. أولا، أن المسرح الذي أريد شخصيا، لا يجب أن ينفصل عن الثقافة العربية في أفقها المستقبلي، بمعنى الثقافة العربية التي أريد هي تلك التي تساهم في تأسيس الإنسان العربي الجديد الذي يحمل مشروع مجتمع عربي جديد.
من هنا يمكن القول بأن المسرح الفاعل هو المسرح الذي يتقاطع مع هذه الأهداف كأهداف للثقافة العربية الفاعلة. ثانيا، هذا النوع من المسرح لا يمكن إلا أن يكون مسرحا نقديا من هنا أحاول أن أدعو في كتاباتي الأخيرة إلى تأسيس ما أسميه بكتابات النقد و الشهادة. و أعتقد أن المسرح إما أن يكون مسرحا نقديا أو لا يكون. و المسرح النقدي هو المسرح الذي لا يهادن الواقع، بل على العكس من ذلك هو مسرح يفضح باللغة الإبداعية الواقع و يدعو لتجاوز واقع معين و مجتمع معين من أجل بناء المجتمع البديل و الإنسان البديل. طبعا هناك أسس للنقد حاولت تحديدها في مجموعة من الدراسات. هذا المسرح في اعتقادي هو مسرح شعبي انطلاقا من ارتباطه بالشعب و ليس بمفهوم الشعبوية البسيطة و لكن بمفهوم التعبير عن طموحات هذا الشعب. كذلك هو مسرح اجتماعي ليس بالمعنى المصري، و لا بالمعنى المبتذل لمفهوم الاجتماعي، و إنما مسرح اجتماعي انطلاقا من كونه يناقش قضايا اجتماعية تشد إليها الناس و الجماهير. كذلك هو مسرح حرية أي أنه حر، يبيح لنفسه قول ما لا يستطيع أي مسرح آخر قوله. و أعتقد أن المسرح إما أن يكون حرا أو لا يكون. كذلك هذا المسرح النقدي هو مسرح عقلاني بمعنى أن يحارب العقلية الأسطورية و الخرافية لكي نؤسس عقلانية جديدة. كذلك هو مسرح يهدف إلى تأسيس حساسية جديدة انطلاقا من الإنسان العربي و الذي ليس مستلبا على مستوى فكره فقط و لكنه مستلب على مستوى إحساسه و إدراكه و شعوره. و من هنا وجب على هذا المسرح أن يكسر هذا النوع من الإحساس عن طريق الديكور و الإنارة و عن طريق الأشكال المسرحية الأخرى لتأسيس إحساس و حساسية جديدة.
بالإضافة إلى أنه مسرح نقدي كما ذكرت، فهو مسرح الشهادة و المسرح هو الذي يشهد على واقعه و على إنسانه و على ذاته. و حين أدعو إلى مسرح الشهادة ليس ذلك بالمعنى التسجيلي، و إنما بمعنى البحث في الواقع و في الوثائق من أجل صياغتها إبداعيا.
و هنا يمكن تقديم مجموعة من النماذج، الآن في فرنسا نجد مسرح الشمس، و هو من أهم التجارب المسرحية تقريبا في العالم، نجد آخر أعماله المسرحية، و هي فرقة تجريبية، حول الأمير سيهانوك الكمبودي. و جميل جدا أن تكون فرقة تتعامل مسرحيا مع التاريخ المعاصر و تحاول أن تعيد تأسيس تاريخ هذا الشخص الذي هو سيهانوك و من خلاله كمبوديا ككل. هذا هو مسرح الشهادة بحكم أنه غير منفصل عن الوقائع و الأحداث الفاعلة في تاريخ الإنسان. من هنا أرى شخصيا آفاق التصور الذي أحاول أن أعمقه و هو مسرح النقد و الشهادة. و لا يمكن أن أدعي بأنه مسرح جديد كل الجدة و لكنني لا أستطيع أن أقول بأنه مسرح تقليدي بل على العكس هو مسرح يريد أن يستفيد من التجارب و أن يرتبط بالمشروع الثقافي العربي و الإنسان العربي، و في هذا المجال هناك حوار مع المسرح الاحتفالي لضبط العلاقة التي يمكن أن توجد بين هذين النوعين من المسرح (الاحتفالي و مسرح النقد و الشهادة).