صحافة البحث

ذاكرة إعلامية.. عبد الكريم برشيد: الاحتفالية ليست اتجاها، و كل مسرح أساسا احتفال

- الإعلانات -

   ذاكرة إعلامية هي نافذة يطل من خلالها قراء موقع “µ” على أعمال صحفية ذات قيمة فكرية، أدبية، فنية و سياسية سبق للصحفي المصطفى روض أن أنجزها و نشرها في مجلتي الحرية و الفكر الديمقراطي الفلسطينيتين و منابر أخرى بالمشرق وصحيفة أنوال بالمغرب. و ستكون البداية مع الحوارات في محور السينما ستتلوه محاور الشعر، المسرح، النقد الأدبي والسياسة و الفكر.

من بين الأسماء النقدية الهامة في عالم المسرح المغربي و العربي، يندرج اسم عبد الكريم برشيد في الصدارة، فهو كاتب و باحث و ناقد دؤوب يتميز بقدرته على جعل “الاجتهاد” سبيلا للوصول إلى أ فكار متنوعة عن العملية الإبداعية في ميدان المسرح. ربما كان برشيد من بين القلائل الذين هتفوا مبكرا باسم “الاحتفالية” و لئن كانت ما تزال فكرة، فإنها تتردد بصدى واسع فوق خشبة المسرح العربي اليوم.

مع عبد الكريم برشيد، أجرينا حوارين متباعدين زمنيا، الأول نشر ضمن ملف خاص بالمسرح العربي أعده الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف و نشر بمجلة “الحرية” الفلسطينية سنة 1987 بمناسبة يوم العالمي للمسرح؛ و الثاني نشر بمجلة “الفكر الديمقراطي” الفلسطينية سنة 1989 ضمن ملف الثقافة المغربية. و استحضارا لذاكرتنا الإعلامية نعيد نشر حوار برشيد مع مجلة الحرية فيما يلي:   

  • س:  من المفيد أن نبدأ محاورتنا برؤيتك لواقع الحركة المسرحية المغربية، اتجاهاتها و خصائصها و بالتالي موقع عبد الكريم برشيد داخل هذه الاتجاهات؟

عبد الكريم برشيد:  الحركة المسرحية في المغرب، مثل كل الحركة المسرحية في العالم العربي، تعيش مرحلة تأسيس و مرحلة تجريب في نفس الوقت. و المعروف أننا ندخل فنا جديدا و أن المسرح لا يمكن أن يكون جنسا أدبيا و فنيا فقط على اعتبار أن المسرح هو أساسا ظاهرة حضارية، إنه لقاء عام في مكان عام، من يجادل في هذا؟ إن المسرح حوار و بالتالي هو صراع. و لا يمكن لهذا الفن/الظاهرة أن يعيش إلا في مجتمعات تؤمن بالصوت الآخر، و بالفكر الآخر و بالتالي تؤمن بالحوار و بالمسرح كلقاء عام في مكان عام من أجل طرح و تطارح القضايا العامة.

فالمجتمع العربي ما زال مجتمعا عشائريا، بمعنى أن المسرح يلتصق بالمدينة كفضاء للتساكن و التعايش و الحوار و الجدل، هذه المدينة بهذه الخصائص هل لها وجود في المجتمع العربي؟

ماذا يمكن أن نقول عن المدن التي يتواجد فيها الإنسان بأصوله العشائرية و بحواره الدموي الذي يغيب أو يغيب فيه العقل، و بذلك نكون بعيدين جدا عن روح المسرح، و إن كنا نتبنى المسرح كشكل و كمظهر نحاول أن نخدع به أنفسنا، لنقول بأننا مثل كل شعوب العالم نتوفر على المسرح. و كذلك فالمسرح هو خطاب فكري و بالتالي فكل مسرح لا بد أن يعكس فلسفة معينة. بالنسبة للإنسان العربي ما هي فلسفته؟ يمكن القول إننا نعيش بؤسا سواء على مستوى المدينة أو على مستوى الفكر أو الديمقراطية. و يمكن القول بأن المسرح اليوناني يجسد من خلال الملموس كل الفكر اليوناني، كذلك، بالنسبة للفلسفة الألمانية و الفرنسية…

وكل فلسفة تجد لها تجسيدا في مسرح من المسارح. بالنسبة للمسرح العربي نجد هذا التذبذب و هذا التسكع في دروب المدارس الفكرية و الفلسفية المختلفة، و بذلك، تحضر الوجودية في مسرحنا من خلال عبد الرحمان بدوي، و يحضر اللامعقول كما يحضر بريخت و تحضر الملحمية في مسارحنا. و لكن يبقى أن هذه التبعية هي تبعية شكلية يترتب عنها تبعية في المضمون. من هنا، أقول إن المسرح المغربي، مثله مثل كل المسرح العربي، مازال يبحث عن ذاته و هو لا يعيش بؤسا فنيا بقدر ما يعيش بؤسا حضاريا عاما. و كمؤلف و مسرحي، داخل هذا الإطار العام، أقول إنني أبحث عن ذاتي و أبحث عن لغة مسرحية، و لكن هل يكفي أن نوجد مسرحية مكتوبة؟ هل يكفي بأن نقوم بإخراج مسرحية ما؟ بالنسبة للشعر يمكن أن تقول من القصائد ما تشاء، و لكن الأمر بالنسبة للمسرح مختلف. المسرح يحتاج إلى لقاء عام. و هل حكوماتنا يتسع صدرها لهذا الحشد الذي يضمه مكان واحد و زمان واحد من أجل الاحتجاج و الرفض و تطارح القضايا العامة؟ من هنا تكون تجاربنا رهينة و مشروطة بالتغيرات التي تعرفها المجتمعات العربية و تحولاتها المستمرة.

كتاباتنا تطغى عليها الخطابة و الغنائية و الثرثرة

  • س: في إطار المسرح المغربي، دائما يطرح مشكل الكتابة المسرحية. بالنسبة لك ما هو المفهوم الذي اعتمدته في ضوء تجربتك للكتابة المسرحية؟

عبد الكريم برشيد:  في الواقع إن مفهوم الكتابة المسرحية كفعل و ممارسة جديدة تنضاف إلى الكتابة الشعرية لها خصائصها، و من جملة هذه الخصائص أنها كتابة متوترة و يغيب فيها الكاتب، كيف ذلك؟ بالنسبة للشعر تجد صوت الشاعر، و بالنسبة للقصة تجد صوت القاص، و لكن بالنسبة للمسرح أين هو الكاتب في المسرحيات، أين يمكن أن نجد موقف شكسبير داخل مسرحياته؟ إنه غير موجود لأنه يتحدث بلسان الآخرين. و على هذا الأساس يمكن أن أرجع إلى الاسم الذي كان يطلقه اليونانيون على المسرح (L’ Hipocrite) و (L’ Hipocrithese)، أي المنافق، على اعتبار أن هذا الممثل يتحدث بغير لغته و يظهر على غير حقيقته. و لذلك، كان المسرح هو هذا الفن أو هذه الكتابة الموضوعية التي يختفي فيها الكاتب ليظهر من خلال ما نسميه المعادل المسرحي أو المعادل الموضوعي. هناك إذن إحساس، هنا قضية تجد لها قصة تتمحور حول موقف معين، حول حوادث أو أحداث لتعطي هذا المعادل المسرحي. و كتابتنا ما زالت تغطي عليها الخطابية من جهة و الغنائية من جهة أخرى، كما تطغى عليها الثرثرة، و هذا شيء طبيعي بالنسبة للمجتمع العربي الذي له تاريخ أدبي كبير يتمثل أساسا في الشعر. فالشعر هو لغة قوم لم يكن لهم علم أصح منه. و يقول بشار بن برد: و “الأذن تعشق قبل العين أحيانا”. و إذا كان المسرح بالنسبة لليونان مشتق من كلمة (Theatran) او (Theatre) الذي يفيد الرؤية، فإن المسرح بالنسبة للإنسان العربي هو خطاب للأذن أساسا. و لذلك فكتابتنا العربية  ما تزال مرتبطة بالكلمة و بالصوت، و مرتبطة بما يمكن أن يحمله الحوار و كأن المسرح هو الحوار. و هذا ما جعل مجموعة من الباحثين المسرحيين يدافعون عن فكرة وجود أو معرفة  الإنسان العربي بالمسرح، و يستدلون على ذلك بوجود أشعار عربية، سواء في العصر الجاهلي أو في العصر الإسلامي، يحضر فيها الحوار و كأن المسرح هو الحوار بالدرجة الأولى، لأن هناك مسرحيات فردية قد تكون مناجاة و قد تكون حوارا داخليا، و لكن مع ذلك لا يمكن أن ننفي عنها صفة المسرح. هذه الكتابة تحاول الآن أن تدخل مرحلة جديدة من خلال إيجاد تقنيات مغايرة، تقنيات لا تخضع بالضرورة للتعاليم التي جاء بها أرسطو و المتمثلة في احترام الوحدات الثلاث: وحدة المكان، وحدة الزمان و وحدة الموضوع؛ و المتمثلة، أيضا، في هذا التمييز التعسفي ما بين الكوميديا و التراجيديا؛ و تتمثل، أيضا، في الخط أو الحدث التصاعدي الذي يبدأ من نقطة ليصل إلى نقطة صاعدة إلى نقطة الحل، الانفراج أو التعقد. فالكتابة العربية تدخل الآن مرحلة التجريب بحثا عن ذاتها. و من هذا المنطلق وجدنا مجموعة من المسرحيين الذين يحاولون الاستفادة من النثر العربي، و لماذا لا؟ مادام لا يمكن فصل هذه الكتابة عن الأدب العربي بصفة عامة، و بالتالي يمكن أن تستفيد من البنية الحكائية لألف ليلة و ليلة، يمكن أن تستفيد من استطراد الجاحظ، و تستفيد من شخصيات أدبية مهمة، كما يمكن أن تستفيد من المقامات كجنس أدبي له مواصفاته و له تقنياته الخاصة. و هذا ما نجده عند مجموعة كبيرة من الكتاب المسرحيين العرب الذين استفادوا من التراث، ليس من أجل تكريسه كما هو في سكونيته و إنما لمحاولة تفجيره و تغييره و بالتالي إعطاء موقف منه من أجل صياغة كتابة جديدة تكون قريبة من ذهنية الإنسان العربي و قريبة من اللحظة التاريخية و قريبة، أيضا، من التعبير عن الحقائق و عن وجدان و ذاكرة الشعب الجماعية.

أعتبر سعد الله ونوس احتفاليا

  • س: الاحتفالية على ما يبدو هو اتجاهك المسرحي. نريد معرفة خصائص هذا الاتجاه و بالتالي هل هو تجاوز أو بديل لما هو سائد في ساحة المسرح المغربي؟

عبد الكريم برشيد:  في الواقع المسرح الاحتفالي لا يمكن القول إنه اتجاه، و لو قلنا ذلك لما جعلنا المسرح العربي و كأنه موجود بالفعل، و أن وجوده يمكن أن تتفرع عنه اتجاهات و مدارس و تيارات مختلفة، نحن الآن في مرحلة التأسيس، و التأسيس يفرض بالضرورة تحديد خصائص هذا المسرح، إثبات وجوده و إعطائه شهادة الحياة و الحضور، و المسرح الاحتفالي، كما أرى، ليس مسرحا شخصيا بقدر ما هو مسرح أمة تبحث عن لغتها المسرحية و عن وجودها، و بذلك، كان هدا المسرح محاولة للرد على مجموعة من الأسئلة الجوهرية و الأساسية التي ينبغي أن ننطلق منها. لقد قيل إن المسرح الذي نحياه و نعيشه هو مسرح غربي، و أجيب هل يعقل أن نستعير لغة مسرحية؟ إن هذا الإنسان يفجر لغته اللفظية انطلاقا من: نحن الآن هنا! نفس هذا الإنسان  يحاول أن يفجر لغته المسرحية، أيضا، انطلاقا من: نحن الآن هنا! فهذا الإنسان إن لم يكن له تاريخ مسرحي فهو بالتأكيد له تاريخ، و أن هذا التاريخ يضرب عميقا في جذور التربة، و بذلك هل يمكن أن نكتب قفزا على هذا التاريخ؟ طبعا لا! هل يمكن أن ننشئ مسرحا بالتنكر للذاكرة الشعبية و للوجدان الشعبي؟ كل هذا الركام الثقافي و الحضاري هو ما يشكل أساس البحث عن مسرح عربي أسميته المسرح الاحتفالي. لماذا الاحتفالي؟ إنه نتيجة للتشبث بالعنصر الأساسي في الخطاب المسرحي. فكل مسرح هو أساسا احتفال، و لأنه كذلك، فهو لغة جماعية. و كل الشعوب تلتقي عند هذا العنصر الأساس: الاحتفال هو تعبير جماعي، هو الفرح، هو الحزن. في العرس تعبر الجماعة بالجسد بكل ما يختزنه هذا الجسد من حسي جماعي، الذي هو الفرح. المسرح إذن هو هذا الاحتفال الذي يجتمع فيه الكل من أجل التعبير عن حس جماعي أو عن قضية جماعية. عندما ندخل المسرح فنحن لا نقصد بذلك أن نعبر كما كان يعبر الشاعر العربي عن غزل أو تغزل بحبيبته أو رثاء القريبة. و لكن لنطرح قضايا عامة. و لكن من هذا المنطلق كان المسرح الاحتفالي هو مسرحنا، نحن الآن هنا! لم يسبق أبدا أن قلت إن هذا المسرح هو اجتهاد أو اختراع أو اكتشاف، لأن دراساتي الأولى قامت بناء على مجموعة من الأبحاث و المعطيات المسرحية المتواجدة في الساحة العربية، و لذلك اعتبرت سعد الله ونوس احتفاليا في تشبثه بالتراث و استنطاقه للذاكرة العربية و في محاورته للوجدان الشعبي و في محاولته خلق لغة مسرحية تنطلق من ألوان الفرجة التي عرفتها هذه الأمة من خلال  “خيال الظل” و “الأراجوز” و “ألف ليلة و ليلة” و “الحكواتي” و “الحلقة” و “سلطان الطلبة” و “السامر في مصر”. كل هذه الأشكال التي سماها بعض المستشرقين ما قبل المسرحية هي ما يشكل البذرة الأساس للمسرح العربي، بذرة، قد نقول بأنها لم تتطور بما يكفي و لكنها تختزن المسرح في جوهرها، و بذلكن فتفجير هذا المخزون هو ما يعطي المسرح العربي، و تفجير البذرة هو الذي يعطي السنابل. الاحتفالية تريد أن تركز و تستنطق هذا المخزون الفكري و الفني و الحضاري.

معظم المخرجين في المغرب أقرب إلى التقنية من الإخراج

  • س:  تبقى من بين القضايا المطروحة بحدة على المسرح المغربي قضية الإخراج. و هناك من يحاول بلورة بعض المفاهيم  لتأسيس السينوغرافية. و نعرف بأن السينوغرافية هي كتابة في تصور معين للإخراج المسرحي. كيف يرى عبد الكريم برشيد آفاق تحقيق هذا النوع من الكتابة في إطار الجهود المبذولة على مستوى المسرح المغربي؟

عبد الكريم برشيد:  الكتابة المسرحية ككتابة على الورق لا تكتمل إلا حين نجد حقيقتها ركحيا. و المسرح أو النص المسرحي، بالنسبة للفرنسيين، مثلا، يطلقون على الإخراج الأول لأية مسرحية بـ (La creation)، بمعنى الخلق، كأن النص لا يخلق إلا بعد أن يصعد إلى خشبة المسرح. عملية الخلق هذه مشروطة بمجموعة من الشروط، و لعل أولها وجود المخرج، و المخرج الحقيقي، بالنسبة لي، مثله مثل الكاتب له رؤية معينة، و من غير وجود هذه الرؤية يكون مجرد تقني، بمعنى أنه يجب أن يعرف كيف يحرك الممثلين و كيف يضيء الخشبة و يضع الملابس الملائمة. و لكن هذه الأمور التقنية، لماذا و كيف؟ من غير الإجابة عن لماذا، فإن الإخراج لا يكون إخراجا. من هنا نجد أن الكتابة السينوغرافية ترتبط بوجود رؤية فكرية متكاملة مع رؤية الكاتب المسرحي من أجل إعطاء تلك الرؤية الشاملة و الموحدة. و بالنسبة للإخراج المغربي أعتبر أن جل المخرجين هم رجال تقنية أكثر مما هم رجال إخراج أو أصحاب رؤية و موقف من  الوجود و المجتمع و العلاقات. و عندما أكتب أريد قول شيء ما، و المخرج عندما يغامر في الكتابة الركحية، ماذا يريد أن يقول؟ ذلك هو السؤال. و من غير طرح مجموعة من الأسئلة فالإشكالية هي أن الإخراج لا يكون إخراجا و بالتالي يتحول إلى مجموعة من الألعاب، تلعب بالضوء و بالممثلين فوق الخشبة و بالأشكال و الأحجام من غير سند فكري و لا سند مضموني. و المسرح المغربي عرف مجموعة مدارس مختلفة و هو لم يعش داخلها و لكن عاشها من الخارج منبهرا بها تابعا لتعاليمها، و بذلك، وجدنا المسرح التجريبي له مريدوه في المسرح المغربي و هم  مجموعة من المخرجين يلهثون خلف التجريب المخبري المعتمد على التقنيات، كما وجدنا الإخراج وفق المفهوم البريختي الملحمي، وجدنا كذلك الإخراج وفق مفهوم غروتوفسكي المعتمد على الممثل كعنصر أساسي في العملية المسرحية. يبقى أن الكتابة السينوغرافية في الحقيقة تفترض وجود بحث أو أبحاث مختلفة، هذه الأبحاث من وجهة نظري يمكن تقسيمها إلى الأقسام التالية:

1-البحث في الكتابة العربية (Caligraphique)، ألا يمكن الاستفادة من الخط العربي ركحيا؟

2-الاستفادة من الوشم على اعتبار أن له بعد جمالي و بعد سحري، و الوشم هو مجموعة من الرموز يمكن أن توظف مسرحيا و التي لحد الآن لم يقع توظيفها.

3-كذلك، يمكن الاستفادة من العمارة الإسلامية و ذلك بإيجاد الديكور المسرحي، لماذا نجد أنفسنا دائما أمام البانوهات التي هي عبارة عن لوحات زيتية و هي الوجه الذي يقابل الجمهور، ألا يمكن أن نبحث في كل العمارة التي يمثلها المسجد و تمثلها الأضرحة و البيوت و القصور و لها ألوانها المتميزة و نسبيتها في القياسات المختلفة.

4-كذلك، ألا يمكن أن نستفيد من الرسوم الشعبية كما نجده في الأسواق التي تمثل سيدنا علي و رأس الغول و سفينة نوح و سيدي رحال و الأسد و البراق و غير ذلك من الرسوم التي تعكس العقلية الشعبية؟ ألا يمكن استنطاق تلك الرسوم من خلال ألوانها و شخوصها و من خلال أحجام تلك الرسومات و بعض الأحيان نجد دائما (بروفيل) جانبية لماذا؟ نجد أن الرأس، مثلا، متساوية لكل الجسد. فشخصيا رأيت مسرحية و هي “الجازية الهلالية” سنة 1974 في مهرجان مناستير بتونس، و هي من تأليف سمير العيادي و إخراج رجاء فرحات، حاول فيها استنطاق الرسومات الشعبية المتعلقة بالسيرة الهلالية، كذلك من حيث الملابس و الحلي يمكن البحث فيها كما هو الشأن بالنسبة للإضاءة و ألوانها  و ما تعنيه تلك الألوان. هذه أيضا نماذج يمكن البحث فيها من أجل قيام اللغة الركحية أو السينوغرافية كي تكون منسجمة مع طبيعة هذا الإنسان، و طبيعة هذا المكان و طبيعة هذا الزمان، و كل ذلك مع ربط الشكل بالمضمون، و ربط هذه الأدوات بمفاهيم أو بجهاز مفاهيمي معين.

المسرح لا يزدهر إلا في المراحل الانتقالية

  • س: في السنوات الأخيرة لوحظ ثمة إحباط و تراجع و تخلف في الإبداع المسرحي العربي، و هناك الكثير من فسر هذا التخلف بدعوى أنه يعود لتخلف عام في إطار تخلف اقتصادي و اجتماعي و سياسي و بالتالي ضروري – من وجهة نظرهم – أن ينعكس على عملية الإبداع. و هناك مقولة شهيرة للسينمائي البرازيلي “غلوبير روشا” تخالف هذا الرأي تماما حيث تؤكد على أنه “ليس لزاما على بلد متخلف أن يكون فنه متخلفا”. كيف نظر عبد الكريم برشيد لهكذا رأي يبرر التخلف الإبداعي على مستوى المسرح العربي؟

عبد الكريم برشيد: في الواقع إن تخلف الإبداع لا يتم إلا عندما يكون إحساسنا باللحظة التاريخية مغلوطا و عندما، كذلك، لا تتمثل هذه اللحظة التاريخية بكل تنوعاتها و قضاياها المختلفة. من هنا نجد ذلك الربط التعسفي بين التخلف في الميدان السياسي و الميدان الإبداعي. و في الواقع أن القرون و عصور الانحطاط العربية أعطت ابن خلدون و أن الكثير من المبدعين عاشوا في مراحل و فترات انتقالية تزخر بالحركة. و الواقع أن المسرح لا يزدهر إلا في المراحل الانتقالية، لأن المسرح هو هدم لمفاهيم و و تبشير بمفاهيم و مبادئ جديدة، و لذلك قيل إن المسرح لا يصنع ثورة، و لكن الثورة هي التي تصنع المسرح. بمعنى عندما يكون المجتمع في طور الحركة و التغير يكون هناك فكر يموت و آخر يشيد، و في ذلك الوقت يزدهر المسرح. أما عندما تكون الحياة راكدة و جامدة في ذلك الوقت المسرح لا يعطينا شيئا، لأن المسرح صراع و صراع أفكار بالأساس. و على هذا الأساس فهو لا يمكن أن يعيش إلا داخل المجتمعات الحية و المنفعلة بقضاياها. في الواقع لا يمكن أن نقول بأن الإنسان العربي يعيش مع غياب الإبداع، و لكن بمكن القول إن هناك بؤس شامل في كل المجالات و الذي ينعكس أساس على المسرح، لأن المسرح دائما  يفترض وجود فرقة و وجود مسرح، إنه مؤسسة تعليمية و كل المؤسسات المختلفة، و بالتالي لا يمكن أن يقوم بمفرده في غياب تمويل معين. و لذلك نجد المسرح دائما يتفرع إلى المؤسسات التالية:

1-فهو إما أن يكون مؤسسة إعلامية تابعة للدولة و في هذا الوقت يقوم مقام أجهزة الإعلام من إذاعة و تلفزيون و غيرها و بالتالي يتحول المسرحي إلى وعاء أو قناة إعلامية تمرر من خلالها الدولة ما تريد من سياساتها و فلسفتها و مبادئها.

2-هناك المسرح في إطار المؤسسة التجارية، بمعنى أن يكون المتفرج هو الذي يمول هذا المسرح و في هذه الحال سنعتمد على شباك التذاكر، و سنعمل على استرضاء الجمهور بكل الوسائل، و هذا يجرنا طبعا إلى الشعار المصري المعروف “الجمهور عايز كده” و بالتالي هذه الجمهور المتهور و العريض هو في حاجة إلى فرح و لحظة سعادة ينسى فيها همومه اليومية و بالتالي يبحث عن مسرح استهلاكي بسيط سهل الفهم، و من هنا يصبح المسرحي خادما لشباك التذاكر.

3-هناك المؤسسة الثالثة  و هي مؤسسة المسرح الهاوي (مسرح الهواة) هؤلاء لا يرتبطون بجهاز حكومي و لا بجهاز تجاري. و لكن الإبداع لديهم يقوم على التطوع انطلاقا من الإيمان بقضايا معينة للدفاع عنها و لإبلاغها للآخرين. و من هنا يكون المسرح، مسرح الهواة في المغرب، على الأقل، هو المسرح الأكثر نصاعة و الأكثر تقدمية لأن لا الإدارة و لا شباك التذاكر استطاعوا أن يمسخوه، و لأنه، كذلك، يضمن أغلي ما يعكس روح المسرح و هو حرية المبدع. من غير هذه الحرية يصبح المسرحي موظفا في جهاز كما كان المسرحيون في فرقة المعمورة مجرد موظفين يصنعون المسرحية بأمر إداري و يشتغلون فيها سواء أحسوا بها أم لم يحسوا. المهم أن يؤدوا عملا فقط. لذلك فالمسرح الحقيقي لا يمكن أن يزدهر إلا مع وجود الهواية كعشق و المسرح لا يمكن أن يقوم بدون وجود هذا العشق. المسرح عقيدة، و لا يجوز القول إن المؤذن و الإمام في المسجد يمكن أن يحترف هذا العمل من غير أن يكون مؤمنا بالضرورة. فالمسرح إيمان بما يمثله و ما يقدمه من رسالة، و مع ذلك يبقى مستقبل هذه المسرح مرتبط بالعناصر الشابة المؤمنة به و بمستقبله.

  • س:  في السنوات الأخيرة عرفت الساحة المسرحية في المغرب ركودا و هذا ما انسحب على كل المستويات، سواء في الكتابة المسرحية أو الإخراج أو العروض. و هذا الركود تم في إطار ركود عام شمل الحركة الثقافية و السياسية في المغرب، فكيف تعللون ظاهرة الركود هذه؟

عبد الكريم برشيد:  في الواقع إن الركود تم على مستوى المسرح الرسمي و المسرح التجاري. أما بالنسبة للفرق الشابة ما زالت تعطي، و عطاؤها محدود من حيث الإمكانيات المادية و لكنه من حيث المؤهلات البشرية فهو ما زال يعطي، و الدليل على ذلك أن المسرح المغربي أعطى و يعطي الكثير من الأسماء سنويا، سواء على مستوى التأليف أو الإخراج أو على مستوى النقد و النشر. و في السنوات الأخيرة انتعش سوق الكتاب المسرحي بشكل كبير، كذلك، بفضل الجامعات المغربية ازدهر البحث الأكاديمي، و ازدهرت الندوات، و كثر الأخذ و الرد و كل ذلك يبشر بأن ثمة هم مسرحي يتنامى و أن الكل يعي حقيقة هذا الهم. يبقى أن الدولة هي التي لا تريد أن تعطي لهذا المسرح أبعاده و لا تريد أن تضعه في سياستها الخاصة، و بذلك هو يعيش بأدواته الخاصة.