- الإعلانات -
ذاكرة إعلامية هي نافذة يطل من خلالها قراء موقع “µ” على أعمال صحفية ذات قيمة فكرية، أدبية، فنية و سياسية سبق للصحفي المصطفى روض أن أنجزها و نشرها في مجلتي الحرية و الفكر الديمقراطي الفلسطينيتين و منابر أخرى بالمشرق و صحيفة أنوال بالمغرب. و ستكون البداية مع الحوارات في محور السينما ستتلوه محاور الشعر، المسرح، النقد الأدبي والسياسة و الفكر.
الخطاب النقدي في مجال الأدب المغربي بات وضعه يستأثر باهتمام العديد من المثقفين و الباحثين و المفكرين في الوطن العربي، و كذلك على المستوى العالمي، نظرا للزخم و التراكم الحاصل في النصوص النقدية من جهة، و نظرا للانعطافات و التباينات في مسيرته، و نظرا، كذلك، لما يضفيه، بشكل قوي من خصوصية على وضع الثقافة المغربية بحكم المناهج الجديدة، حتى أن العديد من المثقفين العرب في المشرق ينعتون الثقافة المغربية بثقافة البنيويات كنتاج لنظريات و أفكار فرانكفونية فيما بعضهم الآخر يرى فيها تأصيلا لوعي نقدي و لمناهج نقدية استطاعت أن تنفلت بها من مصاعب الثقافة العربية في المشرق.
ولتسليط الضوء على وضعية الخطاب النقدي في المغرب و على أبرز اتجاهاته الرئيسية، حاورنا الناقد المغربي إدريس الناقوري باعتباره قيدوم ممارسة الخطاب النقدي في مجالات الشعر و القصة و الرواية منذ الستينيات, و تنويرا لقاريء مجلة “الفكر الديمقراطي” الفلسطينية التي نشرت الحوار عام 1989 ضمن ملف الثقافة المغربية، انصب حوارنا مع الناقد الناقوري على وضعية الخطاب النقدي المغربي و نشأته و اتجاهات حركته النقدية و موقعه داخل هده الاتجاهات و علاقة الإيديولوجي بالإبداع إلى غير ذلك من الموضوعات الإشكالية المطروحة على الثقافة المغربية في جوانبها المتعلقة بالظاهرة الأدبية و الإبداعية و النقدية.
- س: أول سؤال نباشر به حوارنا يتعلق بالخطاب النقدي الأدبي في المغرب، وضعيته الراهنة، سماته، مميزاته، نشأته و أبرز الاتجاهات النظرية النقدية في هذا الخطاب؟
إدريس الناقوري: لا بد من الإشارة إلى أن الخطاب النقدي في المغرب تأسس، مثل كثير من الخطابات، انطلاقا من محاولات تجريبية أولى، بدأت ساذجة ثم تطورت و بلغت حدا من النضج خلال المراحل التي قطعها هذا النقد في العقود الثلاثة الأخيرة. و هذا يعني أن تحديد الملامح العامة لهذا النقد يقتضي، بمعنى ما، الحديث عن تاريخه، و لو كان هذا التاريخ قصيرا و مستمرا. فلا بد من أن نتذكر الكتابات النقدية التي كانت عبارة عن مقالات و دراسات قصيرة تتناول جنسا من الأجناس الأدبية، مثل القصة القصيرة أو المسرحية أو الرواية، إضافة إلى الشعر الذي حظي بالاهتمام الأكبر، منذ بدأت الحركة الشعرية المعاصرة في المغرب تتبلور في نصوص، ثم في اتجاهات، كما هو الشأن في الستينيات، و خاصة في السبعينيات و الثمانينيات.
الستينيات: بداية النقد الأدبي
لا نستطيع أن نتحدث عن منهج نقدي بالمعنى الدقيق في تلك الكتابات الأولى، التي يمكن اعتبارها كتابات تأسيسية، سواء تلك التي نشرت في مجلات مثل “دعوة الحق” و غيرها من المجلات التراثية، أو تلك التي كانت تخصصها جريدة “العلم” في صفحة ثقافية في بداية الستينيات للأدب و الثقافة. إذن، كان لا بد من ظهور هذه المقالات الأولى و كان لا بد، كذلك، من تطور الحركة الأدبية بأجناسها المختلفة و خاصة الشعر و القصة و الرواية و المقالة لتظهر حركة نقدية تواكب هذه الانجازات الأدبية. و لذلك يصعب تحديد نقطة انطلاق هذا النقد الأدبي، و لكن يمكن القول، بنوع من التعسف، أن الستينيات كانت نقطة أساسية في انطلاق الحركة الأدبية المختلفة، و كانت، من ثم، بداية أساسية، أيضا، لظهور الخطاب النقدي الذي تبلور خصوصا في العقد السابع و الثامن. إذن، يمكن الحديث إجمالا عن مرحلة تأسيس ثم عن مرحلة أخرى تلت التأسيس. و يمكن إدماج المرحلتين في مرحلة واحدة إدا شئنا. و لكن، نظرا لوفرة النصوص في السبعينيات و الثمانينيات يمكن، الآن، الحديث عن حركة نقدية، و عن خطاب نقدي أدبي متميز داخل الأدب المغربي المعاصر. لماذا؟ لأننا في العقدين الأخيرين بالخصوص، شاهدنا، أولا، تراكما كميا مهما في النصوص النقدية، أي في الدراسات و التحليلات أو المقالات الأدبية التي تعالج نصا إبداعيا معينا، سواء كان قصة أو مسرحية أو قصيدة أو رواية. ثم لأن هذه النصوص بدأت تصطنع لها مناهج علمية، و تحاول استخدام مجموعة من المفاهيم و المصطلحات التي تنتمي إلى الخطاب النقدي، و بالطبع، إلى العلوم التي يستفيد منها الناقد، و يستطيع أن يبرر بها مقاييسه، سواء في التحليل أو التقييم.
لا بد من التذكير بأن النقد الإيديولوجي ظهر في السبعينات من خلال كتابات مجموعة من النقاد الذين خاضوا معركة التطوير و التجديد بأدوات منهجية اتكأت على بالخصوص على الماركسية، و أحيانا على اللغة و أحيانا أخرى على بعض العلوم و استفادت من الدراسات النقدية التي ظهرت في فرنسا من خلال النقد الجديد عند “رولان بارت” و “لوسيان غولدمان” و من خلال المؤلفات التي اطلع عليها المغاربة كمؤلفات “جورج لوكاتش” بالخصوص في “نظرية الرواية”. إذن، يمكن القول إن السبعينات تميزت بطغيان النقد الإيديولوجي، الذي كان في حينه نقدا فعالا و مؤثرا رغم بعض السلبيات، التي تحدث عنها النقاد و الباحثون و المؤرخون فيما بعد، و هي سلبيات ارتبطت بطبيعة المرحلة: مرحلة الصراع التي خاضها النقاد المغاربة، و التي كانت تدخل في نطاق الخلاف أو الحوار الفكري و العلمي بين تيارات تنطلق من مواقع و مواقف سياسية. و في جميع الحالات فإن هذا التيار – تيار النقد الإيديولوجي – قد أخصب الحركة الأدبية، و أضفى عليها طابع الحيوية بخصائصه السجالية، و برغبته في تجاوز النصوص الإبداعية، التي شكلت، في نظره، مرحلة متخلفة، أو هي كانت تنطلق من مواقف لم يسلم بها هذا النقد، أو لم يتفق مع أصحابها في التحليل و في الرؤيا سواء تعلق ذلك بالمبدعات الأدبية أو بالمشكلات الاجتماعية التي كان يعالجها الأدباء من خلال رواياتهم و نصوصهم الإبداعية و الشعرية…الخ.
بعد هذا التيار ظهر تيار آخر أفاد، هو الآخر، من معطيات التجربة النقدية في أوروبا، خاصة في فرنسا و انجلترا. و أفاد بالخصوص من الحركة البنيوية التي تسربت من خلال الكتب المترجمة و المجلات و الصحف. و حين اطلع كتابنا و نقادنا المغاربة على الحركة البنيوية حاولوا أن يفدوا منها و أن يطبقوا منهاجها على النصوص الأدبية المغربية التي كان أصحابها يرتبطون، بصفة أو بأخرى، بالواقع الاجتماعي المحلي، و يحاولون من جهتهم، الإفادة من الحركة الأدبية العربية في مجال الشعر و مجال القصة و الرواية أو من الانجازات الأدبية العالمية. إذن، ظهر الاتجاه البنيوي في النقد الأدبي في المغرب من خلال رمزين مهمين هما: “جورج لوكاتش” و “لوسيان غولدمان”، الذي حظي باهتمام كبير من قبل مجموعة نقادنا، الذين استعاروا منه منهجيته في التحاليل المعتمدة، و بالخصوص علم اجتماع الأدب ببعده الفلسفي و الإيديولوجي الواضح.
و يمكن القول بكل تواضع، إنني كنت، إن لم أقل، أول من طرح “الرؤيا المأساوية” في الشعر المغربي، فأنا، على الأقل، من الأوائل الذين ايستخدموا هذا الاصطلاح في الدراسات التي قدمتها عن الشعر المغربي، ثم ظهرت دراسات أخرى، فيما بعد، كانت أكثر تفصيلا و إحكاما مثل ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب لمحمد بنيس. و لا بد من ذكر الدراسة التي قدمها إدريس بلمليح عن “الرؤيا البيانية في أدب الجاحظ”، و هي تستوحي بشكل مباشر البنيوية – التكوينية. بعد ذلك ظهر تيار آخر يحاول أن يتجاوز ما حققه اتجاه النقد الإيديولوجي أولا، ثم البنيوي ثانيا، و أن يضفي على النقد طابعا أكثر علمية، و هو الاتجاه الذي تبلور في كتابات الأستاذ محمد مفتاح و الذي استفاد من السيميائيات و من علوم اللغة و علوم أخرى مختلفة. و هو اتجاه يطمح لكي يكون علميا بالفعل، و لكي يربط النقد الأدبي و الممارسة الأدبية بالمناهج العلمية الدقيقة، و أن يتجاوز، بالخصوص، سلبيات النقد الإيديولوجي، و كذلك بعض الثغرات التي ظهرت في الاتجاه البنيوي – التكويني. هذه التيارات الثلاثة هي التي تلخص، بصفة إجمالية، الحركة النقدية المعاصرة في المغرب و تظهر إلى أي حد استطاع هدا النقد، في فترة وجيزة، أن يقفز قفزات نوعية و أن يرتبط بالمناهج العلمية، رغم ما في هذا الارتباط من صعوبة و متاعب بالنسبة للناقد و للنقد التطبيقي بالخصوص، إذ ليس بمكنة كل النقاد أن يكتبوا نقدا علميا تتوافر فيه الشروط العلمية، فهذا يقتضي إلماما واسعا و دقيقا بعلوم مختلفة. و حتى و إن كان الطموح هو أن يرتبط النقد بالعلم و بالمناهج العلمية، فثمة صعوبات تبدو كثيرة في نطاق الممارسة حيث يصطدم الناقد بمجموعة من العقبات تبدأ بطبيعة النصوص التي يعالجها و بالتساؤلات التي تطرحها على الناقد: هل تستجيب هذه النصوص للمناهج المصطنعة، هل بإمكانها أن تغني هذه المناهج، أم أن المنهج يمكن أن يكون مجرد إسقاط على نصوص لا ترقى إلى المستوى الفني المطلوب؟ لذلك نلاحظ الانتقائية، أحيانا، في اختيار النصوص، إذ لا يستطيع الناقد أن يتناول جميع النصوص المنشورة و إنما يلجأ إلى الاختيار و يحاول، ما أمكن، أن يقرأ النصوص التي تستجيب لمنهجه، و بالتالي فهو سيلجأ لأحد الأمرين: فإما أن يلجأ إلى الانتقاد، و إما أن يهمل نصوصا كثيرة قد لا تكون، في نظره، في المستوى المطلوب. و هذا يجر كثيرا من المشكلات على الناقد و يطرح مسألة النص الأدبي و قيمة هذا النص و مدى استجابته للمنهج. ثم أن تطبيق المنهج، في حد ذاته، يشكل صعوبة كبيرة. هل هذه المناهج المستوحاة من مناخات علمية، و أجواء ثقافية مغايرة، قادرة على استكناه نصوص محلية ذات طابع خصوصي ترتبط ببيئة مختلفة كل الاختلاف عن البيئات الأجنبية؟ هل هذه المناهج صالحة لتحليل و تقييم هذه النصوص التي تعبر عن واقع اجتماعي مختلف و ترتبط بتراث ثقافي و أدبي يختلف عن التراث الغربي و العالمي؟ مثل هذه الأسئلة تشير إلى العقبات التي قد تواجه ناقد الأدب في المغرب.
نحو مشروع نقدي متكامل
- س: نعرف بأن إدريس الناقوري يعتبر من الأوائل الذين خاضوا في هذا المجال و مارسوا الخطاب النقدي منذ نشأته. أين هو موقعك النقدي داخل الاتجاهات النقدية الثلاثة التي ذكرت، و أين تكمن بالضبط إسهاماتك في تأسيس و تطوير الخطاب النقدي بالمغرب؟
إدريس الناقوري: الجهود الفردية مهما كانت كبيرة و ضخمة تبقى، دائما، قاصرة و محدودة، سواء في نوعيتها أو رؤيتها الشاملة، لذلك كنت قد فكرت، من خلال اللقاءات مع بعض الزملاء، في صياغة مشروع نقدي متكامل يحاول أن يستجيب لطبيعة المرحلة، و أن ينسجم مع النصوص المدروسة. و أذكر أنه عندما أجرت مجلة “الثقافة الجديدة” حوارات مع مجموعة من النقاد المغاربة تكلم كل منهم عن ضرورة التعاون في هذا المجال، و عن ضرورة تضافر الجهود الفردية لصياغة المشروع النقدي المتكامل في الأدب المغربي المعاصر. و من هؤلاء النقاد، على وجه الخصوص، الزميل إبراهيم الخطيب و نجيب العوفي. و ثمة أسماء أخرى لو أتيحت لها فرصة المشاركة في المشروع لتبلور بكيفية أكثر نضجا. و لا بد أن أذكر مساهمات عبد القادر الشاوي، الذي تميز بوضوحه النظري و بإسهاماته الجادة في هذا المجال، بالإضافة إلى الأساتذة الذين كان لهم فضل الريادة مثل أحمد اليابوري، محمد برادة، حسن المنيعي و أسماء أخرى، أسهمت، بكيفية مباشرة أو غير مباشرة، في هذا المشروع. فالحديث عن تجربة كل ناقد على حدة، ينبغي أن ينصب في هذا التيار العام الذي – كما قلت – بدأ يتطور منذ الستينات، و أخد يتبلور في المراحل المتعاقبة. و مثل الزملاء الذين مارسوا الكتابة النقدية في نهاية الستينات و بداية السبعينات، تأثرت إلى حد كبير بمصدرين أساسيين هما: التراث العربي الإسلامي، أي النقد العربي القديم ببلاغته و مصطلحاته، و بالثقافة العربية الأصيلة، ثم بمصدر آخر و هو المصدر الغربي. و قيد لي أن أقرأ لنقاد معاصرين كبار أمثال “رولان بارت” و “جورج لوكاتش” و “لوسيان غولدمان” و “روني جيرار”. و كان تأثير هؤلاء في كتاباتي الأولى التي جمعت في مؤلف “المصطلح المشترك”، حيث كنت أمتح من البنيوية – التكوينية، من نظريات “لوكاتش” و “غولدمان” و من أفكار “رولان بارت”. و إن لم أتقيد تقيدا مطلقا و كاملا بمناهج هؤلاء، و إنما كنت أحاول أن استفيد من قراءاتي و أن أعود إلى النصوص لأرى إلى أي حد يمكن لهذه المناهج أن تستجيب للنصوص المدروسة، أي للنص الروائي و الشعري و القصصي. و قد أوضحت هذه الأشياء في مقدمة “المصطلح المشترك” الذي اعتبره كثير من الباحثين و الدارسين المؤلف الذي يمثل النقد الإيديولوجي في مرحلة السبعينات و -ربما – في مسيرتي النقدية. لقد تأرجحت في الواقع بين المصدرين المذكورين. و يبرز هذا التأرجح في المؤلفات التي استطعت أن أكتبها حتى الآن و هي “المصطلح المشترك”، “قضية الإسلام و الشعر”، “المصطلح النقدي” و “الضحك كالبكاء”. فهذه المؤلفات الأربعة تعطي صورة عن ارتباطي بالتراث العربي من جهة و بانفتاحي – إذا صح التعبير – على معطيات الثقافة الغربية بشقيها البورجوازي و الاشتراكي. فأنا أحاول، من خلال قراءتي و جهودي المتواضعة، أن أفيد من هذين المصدرين لأكتب نقدا يجمع بين معطيات التراث العربي و بين منجزات الفكر العالمي المعاصر. و كان اهتمامي في مؤلف “المصطلح المشترك” بالمضمون منطلقا من النظرية الماركسية في تلك المرحلة، و اعتبار المضمون هو الموقف الفكري الذي يعبر فيه الأدب عن حقيقته و اتجاهه الفكري و الحياتي، و عن ارتباطه و التزامه بمشكلات واقعه. و كنت من خلال المضمون أحكم على النصوص الأدبية، و أقيمها تقييما يستند أساسا إلى الموقف الإيديولوجي. و اعتبرت الشكل مجرد مظهر من مظاهر هذا الموقف الفكري الذي يتبلور في مضمون الرواية أو في مضمون القصة القصيرة أو في مضمون القصيدة. و لا زلت أرى أنه لا يمكن إطلاقا تجاهل المضمون، و أن أي تحليل للنصوص الأدبية تحليلا يعتمد التقييم و التقويم لا بد و أن ينطلق من المضمون و أن يحلل الشكل باعتباره مدخلا للمضمون و ليس العكس، و إن كانت هذه المسألة خلافية أو إشكالية لأننا يمكن أن نعكس الآية و نقول دراسة الشكل هي الأخرى تفيد في تحليل المضمون. و رغم العلاقة الجدلية بين الاثنين، ففي اعتقادي أن المضمون هو نقطة الانطلاق و نقطة النهاية في آن واحد. لأن ما يهمني في نهاية الأمر، باعتباري قارئا و ليس ناقدا، ما يقوله الكاتب في نصوصه و مبدعاته. بطبيعة الحال لا أحتقر و لا أقلل من قيمة الشكل، بوصفه تقنية و صنعة، فهو شيء أساسي في العمل الأدبي و الفني. و لكن في المحصلة لا بد أن أعرف و أفهم الموقف الفكري الذي تؤول إليه النصوص، و تدور حوله، و تحاول أن تبلوره من خلال الشخصيات، أو من خلال، الصور الشعرية، أو من خلال كل الحيل و الحذلقات الأدبية. هذا هو ما يهمني بالدرجة الأولى و لذلك ركزت في “المصطلح المشترك” على مسألة المضمون. في “قضية الإسلام و الشعر” حاولت أن أراجع مسألة قديمة تتعلق بعلاقة الإسلام بالشعر. و قد طرحت علي تساؤلات تتصل بوقعنا العربي المعاصر هي علاقة الإيديولوجي بالأدب، أي تأثير السلطة السياسية (سواء في مظهرها الديني أو السياسي أو في مظاهرها الأخرى) بالفن و الإبداع. و بطبيعة الحال لم أحاول في هذا البحث القصير أن أحلل كل أبعاد هذه القضية المعقدة، لذلك اقتصرت على مرحلة تاريخية معينة هي مرحلة “صدر الإسلام” عصر الرسول و خلفائه الراشدين، و إن كنت أفكر في مشروعي أن أحلل هذه الإشكالية عبر المراحل التاريخية اللاحقة، في العصر الأموي و في العصور العباسية ثم في المرحلة الراهنة. و لكن المشروع لم يكتمل و صدر البحث في جزئه الأول و اقتصر على رصد الظاهرة في صدر الإسلام رغم أن القضية الأساسية هي علاقة المثقف بالسلطة، كما ظهر “المصطلح النقدي” فيما بعد، و هو دراسة اصطلاحية في كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر، ظهر ليؤكد من جديد ارتباطي بالتراث العربي الإسلامي و اهتمامي بالنقد العربي. و الكتاب هذا من مؤلفاتي الأساسية لأنه يعتبر خطوة نقدية أكثر علمية في مسيرتي النقدية. و هو في ما أذكر ثالث كتاب ظهر في العالم العربي يهتم بموضوع المصطلح النقدي و المصطلحية بعد رسالة السعداني العراقي و بعد كتاب الأستاذ البوشيخي، ذلك أن مؤلف “المصطلحات النقدية و البلاغية” في كتاب “التبيين” للجاحظ – و هو رسالة للبوشيخي – و كتاب “المصطلح النقدي” في نقد الشعر، هما مؤلفان يدخلان في نطاق مشروع كان أستاذنا أمجد الطرابلسي يزمع انجازه من خلال الأبحاث الجامعية و الرسائل العلمية، التي تقدم في الجامعة المغربية. فقد كان يرى أن دراسة المصطلح المصطلح النقدي العربي القديم، لا يمكن أن تتحقق و تنجز بطريقة علمية دقيقة، إلا من خلال دراسة مفصلة و مدققة للمصطلحات النقدية و البلاغية لكل ناقد على حدة. و كان ينوي أن تنجز دراسات عن المصطلح النقدي من خلال أشهر ممثلي النقد العربي القديم مثل الأصمعي و ابن سلام و الجاحظ و ابن قتيبة و ابن المعتز و قدامة و الأمدي و الجرجاني و ابن رشيق و غير هؤلاء. و قد بدأت التجربة بهاتين الرسالتين، و مع الأسف لم تتواصل جهود الباحثين المغاربة في هذا الإطار لانجاز هذا المشروع النقدي الهام. و كتابي “المصطلح النقدي” عبارة عن دراسة اصطلاحية تختص بدراسة المصطلحات النقدية و البلاغية، إما من الوجهة اللغوية ، أو من الوجهة التاريخية، أو من الوجهة النقدية. و قد كانت دراستي ذات ثلاث شعب حيث درست كل مصطلح نقدي – من المصطلحات المائة و العشرين التي استخلصتها و استخرجتها من كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر، من زاوية لغوية أولا ثم تاريخية و نقدية، و إن كنت لم أتمكن من دراسة هذا الجانب الأخير دراسة معمقة، نظرا لعدم وجود مصادر و ضياع كثير من المؤلفات التي كتبت على هامش نقد الشعر لقدامة بن جعفر، أو ردا على أفكار هذا الناقد الكبير و التي قد طواها النسيان أو ضاعت في زحمة الحياة، أو بسبب الكوارث التي أصابت الثقافة العربية خاصة في العصور العباسية. أما الكتاب الأخير “الضحك كالبكاء” فيعيدني إلى الأدب الحديث، فإذا كان كتابا “قضية الإسلام و الشعر” و “المصطلح النقدي” يمتان بصلة عضوية و كبيرة للنقد العربي القديم و التراث العربي القديم، فإن “المصطلح المشترك” و “الضحك كالبكاء” يهتمان، بالدرجة الأولى، بالأدب الحديث و خاصة بالقصة و الرواية في المغرب، أي أنهما كتابان في الأدب المغربي المعاصر. و قد يلاحظ القارئ أن ثمة فرقا كبيرا بين “المصطلح المشترك” و “الضحك كالبكاء” نظرا لأن الكتاب الثاني – و هو الرابع في مسيرتي النقدية – ظهر بعد الكتب الثلاثة الأولى. و قد حاولت فيه أن أكتب عن مجموعة من الدراسات حول القصة و الرواية. خصصت حيزا مهما لقصص أحمد بوزفور التي تعبر – في نظري – عن مرحلة ناضجة من مراحل تطور القصة القصيرة في المغرب، و هذا الكتاب هو أكثر تواضعا و أميل إلى الموضوعية و الدقة العلمية، بحيث لم يطغ عليه الحماس الذي طفح على “المصطلح المشترك” ، و حاولت فيه، أيضا، أن استفيد من بعض المناهج الحديثة، و إن بقيت مشدودا إلى المنطلقات الأساسية التي تبلورت في “المصطلح المشترك”. و بطبيعة الحال هناك دراسات أخرى لم تشملها هذه المؤلفات الأربعة و انصبت بالخصوص على الرواية المغربية. و هناك دراسة أخرى اهتمت بالمصطلحية – أي علم المصطلحات – نشر جزء منها في مجلة “آفاق” و هي مشروع لكتاب جديد يحاول – لا أقول أن ينظر لعلم المصطلحات – و إنما أن يقدم مجموعة من التوضيحات و الأفكار الأساسية حول هذا العلم، الذي أصبح الآن معروفا في الغرب لكن لم تكتب عنه دراسات متخصصة في العالم العربي باستثناء بعض الجهود التي بذلها الدكتور أحمد مطلوب في العراق، و التي بذلها، كذلك، الدكتور القاسمي في دراساته عن المصطلحية.
الفن و الإيديولوجيا
- س: من الملاحظ أن علاقة الإيديولوجي بالإبداع الأدبي كانت دائما تتسم بتوتر شديد، و أثارت نقاشا عنيفا في الساحة الثقافية المغربية لفترة طويلة، و رغم ظهور بعض المناهج النقدية الجديدة التي تحاول ردع الإيديولوجي لحساب الإبداعي، فإن النقاش حول هذه المسألة لم يحسم بعد و لا زال على أشده. من جانبكم كيف تمثلت هذه العلاقة بين الإيديولوجي و الإبداعي داخل المتن الروائي و القصصي المغربي و كيف عالجتم التوتر السائد فيها؟
إدريس الناقوري: لا يخلو أي عمل أدبي أو فني من الإيديولوجيا، سواء أكان ذلك بوعي من الكاتب أو دونه، و بالخصوص في مجال الرواية. ذلك أن المؤلف – كاتب الرواية – له فسحة و يستطيع أن يتقنع بأقنعة مختلفة و أن يستغل الشخصيات المتعددة و الأصوات الكثيرة التي تعج بها الرواية. و في الرواية بالخصوص تطرح هذه الإشكالية: هل تعبر الشخصيات عن رأي المؤلف، أم أنها يمكن أن تكون شخصيات موضوعية لا علاقة لها بإيديولوجية الكاتب؟ من المعروف أن الشخصيات الروائية الواقعية كثيرا ما تنفلت من مؤلفيها، و تعبر بطريقتها الخاصة عن أنماط الناس الذين تمثلهم. أعتقد أن هذه المرحلة لا يمكن أن يبلغها مؤلف الرواية إلا بعد جهد جهيد، و بعد معاناة و نضج فكري و فني متطور، و بمعنى أنها مرحلة تتجاوز دائما مرحلة السيرة الذاتية أو الكتابة التي يكتفي فيها المؤلف بالتعبير عن نفسه، و أحيانا بطرق ملتوية. و لكن في الروايات الواقعية الكبيرة و من خلال الشخصيات المتميزة يمكن القول إن المؤلف يستطيع أن يقف على مبعدة من هذه الشخصيات و أن يترك لها الحرية، أو أنها هي التي تتحرر من قبضته لتعبر عن أفكارها الخاصة و عن الفئات الشعبية التي تمثلها. و مع ذلك لا بد من القول إن كاتب الرواية غالبا ما يلجأ إلى تعدد الشخصيات، ليعبر عن زوايا النظر المختلفة التي ينظر هو من خلالها إلى قضية الواحدة، حتى تحديد الشخصيات يمكن أن يكون، في نهاية المطاف، تعبيرا عن موقف المؤلف نفسه. لذلك، فالناقد هو الذي يستطيع، بذكائه و فطنته و ببعد نظره، أن يميز بين الموقفين: الموقف الذي يعبر فيه المؤلف بكيفية غير مباشرة من خلال الشخصيات، و الموقف الثاني، الذي يعبر فيه، بطريقة مباشرة، عن أفكاره و مواقفه و آرائه. و مع ذلك لا بد من التأكيد على أن الإيديولوجيا تتسرب في جميع الحالات إلى الرواية، إما من خلال الشخصيات أو من خلال الحديث أو من خلال اللغة. نعلم بأن كاتب الرواية في النهاية هو المعبر بلسانها عن أفكاره و تطلعاته و بطبيعة الحال، أيضا، عن أفكار و تطلعات الآخرين، أي عن تطلعات و أفكار الشخصيات الموظفة في النص الروائي. إذن تبقى هذه العلاقة بين الإيديولوجي و الإبداعي و الفني علاقة معقدة و يصعب حسمها بطريقة آلية. و قد عانيت بالخصوص من نفس المسألة في بعض التحليلات النقدية التي كتبتها حول الرواية المغربية، و إن كنت أميل في هذه الدراسات إلى أن كتاب الرواية في المغرب غالبا ما يلجأون إلى الموقف الأول، أي أنهم يعبرون عن آرائهم من خلال شخصية من الشخصيات – البطل في أكثر الحالات – حتى أنه يمكن القول إن كثيرا من النصوص الروائية المغربية هي في جوهرها سير ذاتية، رغم السعة الواقعية و رغم الطابع الموضوعي التي تكتسيه هذه النصوص أو التي قد يخيل للقارئ، غير العارف بأسرار هذه النصوص و بعلاقات أصحابها و بحياتهم الشخصية، أنها نصوص روائية موضوعية و واقعية. و هناك أمثلة كثيرة، فرواية “الغربة” لعبد الله العروي و رواية “المرأة و الوردة” لمحمد زفزاف و غيرها، هي روايات في حقيقتها سير ذاتية، رغم ما يطبعها من موضوعية، و ما نقرأ فيها من علاقات و بوضوح في هذه الروايات، بالمعنى الذاتي، و بالمعنى الموضوعي، الذي يجعل من هذه الروايات نصوصا تقدم صراعا اجتماعيا لأطراف متعددة، سواء كان الصراع ثنائيا؛ مثل العلاقة بين الوطني و المستعمر في رواية عبد الكريم غلاب، أو كان صراعا حضاريا كما طرح في رواية “جيل الظمأ” لمحمد الحبابي، أو كان صراعا داخليا كما هو الشأن في روايات أخرى حاولت أن تحلل الواقع الاجتماعي من منظور الصراع الطبقي، آو الصراع بين قوى التقدم و قوى التخلف، كما هو الحال في واقعنا المغربي. ذلك أن المسألة تحتاج إلى إعادة نظر و إلى تحليل يستطيع أن يبرز خصائص الإيديواوجيا و خصائص الفن بحيث يصعب أحيانا أن نميز بينهما؟
- س: المناهج البنيوية رغم طغيانها في الواقع الثقافي بالمغرب ثمة من يرى فيها خطورة ما معتبرا إياها إيديولوجيا، و ثمة من يتقبلها على علاتها، و هذا ما نلحظه بشكل ملموس. بالنسبة لكم هل ثمة ما يبرر تبنيها في استقراء و تحليل ظواهر الأدب المغربي بشكل عام؟ و هل في هذه المناهج البنيوية، سواء منها البنيوية – التكوينية أو السيميولوجيا او الدينامية، ما أفادت منه الثقافة المغربية و الأدب المغربي بشكل خاص.
إدريس الناقوري: تعودنا في الفكر العربي منذ فجر النهضة إلى الآن أن نستعير من الغرب و من أدواته ما يمكن أن يسهم في تطوير حركتنا الأدبية و الفنية. و أعتقد أن هذا ينسحب على المجال الفكري كذلك. و نحن في دراستنا عن الفكر العربي نحاول أن نطعم تحليلاتنا بما يرد علينا من العرب من مناهج و أفكار و نظريات. يكفي أن نستعرض المراحل التي قطعها الفكر العربي المعاصر منذ الخمسينات و بداية الستينات إلى الآن لندرك أننا كنا، دائما، نتعلق بالهبات الإيديولوجية و الفلسفية، التي تهب علينا من الغرب، عندما ظهرت الوجودية ترجمنا مجموعة من المؤلفات الأساسية التي تمثل هذه الفلسفة و هذا الاتجاه الفكري بشقيه: الإيديولوجية الملحدة و الإيديولوجية المؤمنة. و ظهرت الظاهراتية و أطلعنا على أصول هذه الفلسفة و على كتب أصحابها، ثم ظهرت البنيوية أخيرا، فتعلقنا بها و قرأنا لأصحابها و ترجمنا مجموعة من الدراسات و المؤلفات، و افدنا منها في تحليلاتنا. هذه الأمثلة تظهر إلى حد كبير تعلقنا بالتراث الغربي بشقيه الرأسمالي و الماركسي لأننا، أيضا، استفدنا من الماركسية في الخمسينيات و الستينيات. و عندما أصبحت البنيوية هي الموضة السائدة في الغرب كان احتكاكنا بتياراتها و مناهجها متنوعا و متفاوتا، سواء في مجال النظرية أو في مجال التطبيق. و اعتقد أننا ما زلنا الآن في مرحلة التلقي و الاستيعاب، و إذا أردنا أن نتحدث بجرأة عن حركتنا النقدية المعاصرة و عن الكتابات النقدية التي عالجت الشعر و الرواية و القصة و المسرحية فإن معظمها عبارة عن مترجمات. و باستثناء الدراسات الجيدة التي استطاع الدكتور محمد مفتاح أن يكتبها باقتدار و كفاءة، فإن كثيرا من الأبحاث هي مجرد ترجمات لكتابات غربية يبرز فيها المصطلح و المنهج كما هو سائد في الثقافة الغربية. هذا لا يعني أنني لا أعترف بالجهود الجبارة التي بذلها النقاد المغاربة في مجال التطبيق، سواء من حيث الاستفادة من اللسانيات أو السيميائيات أو البنيوية – التكوينية، و لكن النظرة الإجمالية قد تثبت أننا نترجم أكثر مما نؤصل. و ربما كانت مرحلة الترجمة و التلقي و الاستيعاب خطوة لتأصيل نقد مغربي متقدم و متبلور. من الطبيعي أن ننفتح على البنيوية في تياراتها المختلفة و أن نفيد من معطياتها و أن ننفتح عليها، و لكن الخطورة هي أن ننساق مع الآراء و النظريات التي يطرحها أصحاب هذه المناهج و المدارس الفكرية و النقدية. و هناك دراسات كتبت عن البنيوية تحاول أن تعكس مدى ارتباطها بالمرحلة الحضارية التي يجتازها الغرب، الآن، و بالخصوص علاقتها بالتكنولوجيا أو الثابت و الجامد في المرحلة الغربية الرأسمالية. و إذا كانت هذه الحركة البنيوية تعبر عن مرحلة من مراحل تطور الرأسمال و تطور المجتمعات البورجوازية الغربية، فهي قد لا تصلح لأن تكون أداة تحليل بالنسبة لمجتمعات تختلف عن تلك المجتمعات البورجوازية. و هذه التحفظات هي التي أدت ببعض الباحثين و النقاد و المفكرين العرب إلى رفض هذه الحركة البنيوية باعتبارها نتاج واقع مغاير لواقعنا. هذا إضافة إلى أن كثيرا من هؤلاء الباحثين و المفكرين رأوا فيها حركة – لا أقول رجعية – ساكنة لا تعبر عن تطلعات المفكر و الناقد العربي. تضاف لهذه المساوئ تحفظات أخرى متعلقة بمسألة تطبيق هذه المناهج على النصوص الأدبية. فهناك رأي سائد يقول إن البنيوية لا تقدم جديدا للنصوص الإبداعية، و إنما هي حركة شكلية – أو شكلانية – لا تستطيع أن تنفذ إلى عمق النص الإبداعي باعتبار أنها، تعنى فقط، بالبنية و الشكل، في حين أن الشكل ليس إلا مظهرا لمضمون متطور و ديناميكي. مع كل هذه التحفظات هناك دون شك جوانب إيجابية يمكن أن تكون مفيدة في دراسة و تحليل هذه المناهج البنيوية، و يمكن أن تكون مقيدة في مسألة التطبيق. و كتابات الدكتور محمد مفتاح تعبر عن هذا الجانب المضيء من حيث استفادتها من البنيوية و السيميائيات و علوم اللسان. و يمكن القول إجمالا إن هذه الجوانب المضيئة و المفيدة قابلة للاستغلال و التطبيق على نصوص إبداعية، و لكن شريطة أن تتوافر للناقد ثقافة واسعة و قدرة على الجمع بين معطيات المنهج، من جهة، و الإخلاص لروح النصوص الأدبية و الفنية، من جهة أخرى. و هذا لا يتأتى لكل النقاد الذين يحاولون أن يتعاملوا مع النصوص بطريقة جدية و جادة.