لقد أدى اعتماد السياسات الزراعية النيوليبرالية بعدد من الدول العربية منذ الثمانينيات من القرن الماضي إلى انتشار الزراعة الصناعية الكثيفة (زيادة عدد المحاصيل التي تزرع في نفس المساحة في السنة، أو زراعة أكثر من محصول في نفس المساحة وفي نفس الوقت على التوازي)، وتشجيع الإنتاج من أجل التصدير وهيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على سلاسل القيمة العالمية وإشاعة نظام غذائي عالمي مبني على البروتينات الحيوانية على حساب البروتينات النباتية. وقد نجم عن هذا التوجه تفاقم التبعية الغذائية وتهميش الزراعة الأسرية، علما بأن تعميم هذا النموذج النيوليبرالي الانتاجوي مستحيل بالوطن العربي نظرا لضعف الموارد من أراضي ومياه واعتبارا كذلك لتكلفته الاجتماعية والبيئية. لهذا، يتعين نظام زراعي وغذائي بديل يعتمد على السيادة الغذائية كمدخل أساسي لضمان الأمن الغذائي والحق في الغذاء للجميع.
قامت الحركة العالمية “طريق الفلاحين” سنة 1996 بتعريف السيادة الغذائية بكونها ” حق الشعوب في الغذاء الصحي والملائم ثقافيا من خلال أساليب سليمة بيئيا ومستدامة، وحقها في تحديد طعامها والنظم الزراعية المناسب للظروف بها”.
تشمل السيادة الغذائية ما يلي:
- الأولوية للزراعة المحلية لتغذية الشعب وإمكانية وصول الفلاحين\ات وغير المالكين للأرض: للماء والأرض والبذور والاقتراض، ولذا وجب ضرورة الإصلاح الزراعي للنضال ضد الكائنات المعدلة جينيا من أجل الحصول المجاني على البذور والحفاظ على المياه…
- حق المزارعين\ات في إنتاج الأغذية وحق المستهلكين\ات في تحديد نوعية ما يريدون أن يستهلكوا\ن وممن وكيفية انتاجه.
- حق الدول في حماية نفسها من الواردات الزراعية والغذائية المنخفضة الأثمان.
- ضرورة ربط الأسعار الزراعية بتكاليف الإنتاج: بحيث يكون للدول الحق في فرض الضرائب على الواردات المنخفضة الأسعار، والتزامها نفسها بإنتاج فلاحي مستدام للفلاحين ومراقبة الإنتاج في السوق الداخلي لتجنب الفوائض.
- مشاركة الشعوب في اختيارات السياسة الزراعية.
- الاعتراف بحقوق الفلاحين\ات الذين يلعبون دورا رئيسيا في الإنتاج الزراعي والغذائي.
ويجب التأكيد على الطابع السياسي للسيادة الغذائية كمشروع للديمقراطية المحلية القائمة على المشاركة في صنع القرارات المتعلقة بالأغذية والزراعة (أطاك المغرب، ما هي السيادة الغذائية؟، ديسمبر 2017).
إن إعطاء الأولوية للسيادة الغذائية لتأمين الحق في الغذاء يستجيب لهاجسين أساسين: أولا، ضرورة توفير حيز سياساتي وهامش للمناورة من أجل تبني سياسات زراعية تستجيب أولا وقبل كل أي لحاجيات المواطن(ة) بعيدا عن إملاءات المؤسسات الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية) الداعية إلى تحرير التجارة الزراعية والتخصص حسب الميزة النسبية. ثانيا، تقليص التبعية للخارج والتركيز على الزراعة الموجه إلى السوق الداخلية والإقليمية.
يبقى أن الرهان الحقيقي يدور حول شروط أجرأة مفهوم السيادة الغذائية وجعله حقيقة في الواقع العربي. وأول الرهانات يتعلق بإدماج السيادة الغذائية ضمن مشروع تنموي يتمحور حول التنمية البشرية المستدامة. بالإضافة إلى هذا، يجب العمل على مأسسة هذا التوجه من خلال دسترته وانشاء المؤسسات الحاملة له وبلورة السيادة الغذائية من خلال السياسة الزراعية والبرامج. إن دسترة السيادة الغذائية لا تكفي كما يدل على ذلك المثال المصري حيث لم يواكب هذا الإجراء تغيير في السياسة الزراعية والنموذج التنموي الذي لا يزال مطبوعا بهيمنة الإيديولوجيا النيوليبرالية.
من جهة أخرى، يطرح مفهوم السيادة الغذائية إشكالية الفاعلين المنوط بهم تفعيله على الأرض الواقع، خاصة وأن السيادة الغذائية تركز على المشاركة المباشرة للمنتجين\ات في صناعة السياسات والبرامج. لهذا، لا يمكن إنجاح هذه المقاربة الجديدة دون تفاعل إيجابي بين الدولة والمجتمع المدني والحركات الاجتماعية وتبني الدولة لتوجه تنموي واضح ولامركزية حقيقية تمكن التازر بين جمعيات المنتجين والمؤسسات المحلية المنتخبة والسلطات المحلية .
في هذا المجال، على الدولة أن تلعب دورا محوريا لبلورة سياسة زراعية واضحة وطموحة لدعم المنتجين الصغار والزراعة الأسرية والبيئية وتقوية الاقتصاد الشعبي والتضامني، خاصة على المستوى المالي والتقني والتسويقي. كما يقتضي تبني سياسة تجارية تحمي هذه الزراعة من المنافسة غير المتكافئة للسلع الزراعية والغذائية الأساسية، خاصة السلع المدعومة من طرف الدول الرأسمالية المتقدمة. وهذا يقتضي تأطير المبادلات التجارية الزراعية والتنسيق على الصعيد الدولي من أجل تثبيت أسعار المواد الزراعية لتجنب الارتفاع المحسوس والمفاجئ في الأسعار وتفادي المنافسة المخلة باستقرار المبادلات الزراعية العالمية، مما يفرض إصلاحا عميقا للنظام التجاري المتعدد الأطراف.