البابوان (2019)، إخراج فرناندو ميريليس، وبطولة أنتوني هوبكينز وجونثان بريس، فيلم مناقبي Hagiographique عن كاهنين مختلفين يجمعهما معا هدف نبيل هو مجد الكنيسة الكاثوليكية.
الفيلم تحفة بصرية تستثمر سينمائيا أولا عظمة معمار كنيسة سيستينا، ثانيا جداريات خالدة، ثالثا طقوس تدين عريقة ذات تجلي بصري دقيق يبعث الدهشة والرهبة في جل المشاهد، في لباس البابا والكرادلة وطريقة تنظيمهم وتنقلهم… يعيش البابا في بفخامة ورفاهية… في أداء أنتوني هوبكنز المتعالي لمسة مركزية أوروبية رهيبة… وفي أداء جونثان بريس العفوي لمسة من تقاليد لاهوت التحرير الأمريكولاتيني التي يفقهها المخرج البرازيلي.
على صعيد الموضوع مات البابا عاش البابا. اجتمع الكرادلة لانتخاب بابا جديد من بين متنافسين تجري بينهما مناظرة شرسة.
على صعيد الأسلوب الفيلم مناظرة مسرحية بين شخصيتين. وقد نبع الأسلوب من إشكالية الفيلم وهي اختلاف الكاهنين الكبيرين. شمالي وجنوبي، فمن يستحق المنصب؟
كنائس أوروبا فخمة جميلة. كنائس أمريكا اللاتينية خربة ولكن مملوءة. هل يجب انتخاب بابا أوروبي حيث الكنائس فارغة؟
الكنيسة في أزمة.
الناس يهجرون الكاثوليكية لأنها محافظة أكثر مما ينبغي. هكذا بُني السيناريو على ملاحظة ظاهرة سوسيولوجية. الحل؟ الخطوة الأولى للقيام بالإصلاح، هي أن يكون القائم به سياسيا.
وهنا ينفتح الفيلم على تحولات نمط التدين الغربي. لقد فقد الدين موقعه في الغرب بسبب خوف الليبراليين من تسييس الدين (حسب كتاب خوسيه كازانوفا “الأديان العامة في العالم الحديث” – الصادر عن جامعة شيكاغو والمعرّب من طرف المنظمة العربية للترجمة). حينها أضعفت البروتستانتية الكاثوليكيةَ وفتحت الباب للحداثة. ومحركا الحداثة هما السوق الرأسمالية والدولة الإدارية.
بسبب هذا التغيير خرج الراهب من الدير وخضع لغواية الحياة فصار “زمنيا” ومن هنا علمانيا. فالعلمنة تعني “الممر”، أي الانتقال. نقل الأشياء والوظائف والمعاني من حيز ديني إلى حيز زمني دنيوي (الأديان العامة ص27). من الملكوت المقدس إلى الدنيوي. ويشرح كازانوفا أن هناك أربعة عوامل قوضت النظام التصنيفي الديني في القرون الوسطى وهي أولا الإصلاح البروتستانتي. ثانيا نشأة الدولة الحديثة. ثالثا نمو الرأسمالية الحديثة. ورابعا بداية الثورة العلمية الحديثة. لقد كان التنوير النيوتوني (نسبة إلى إسحاق نيوتن مكتشف الجاذبية) مناهضا للدين. لقد أكد العلم على النسبية. ولا تستطيع الكنيسة القبول بالنسبية أي أن فكرة الخطأ والصواب واردان بالدرجة نفسها.
يعرض الفيلم جدلا بين البابوان رقم 265 و266 في تاريخ الكنيسة. تنطلق المناظرة بين الكاهنين من الموقف من النسبية. هذا يعطي فكرة عن مدى دراية كاتب السيناريو بتحولات تاريخ التدين في الغرب.
بالنسبة للكاهن المحافظ الكاثوليكية صالحة لكل زمان ومكان، عابرة للعصور، والسبب حسب البابا المحافظ على 2000 عام من التقاليد: “من يتزوج روح عصره يجد نفسه أرملا في العصر الموالي”. للإشارة تسرد سيرة القديسين في الأدبيات المسيحية دون ربطها بزمن تاريخي. وحسب كارل ماركس “يتجاهل سرد القديس الحياة الفيزيولوجية والاجتماعية للفرد للتخلص من التاريخ والقوميات والطبقات” كتاب الأيديولوجية الألمانية ص 125.
حسب الكاهن الكبير يجب أن تتعالى التقاليد الدينية المطلقة عن الزمن. ويشرح برتراند راسل أن هذا هو معنى الكاثوليكية. الكنيسة كاثوليكية أي الشاملة للعالمين (حكمة الغرب ج1 ص 224).
الكاثوليكية عالمية، هكذا يعتقد الكاهن الدوغمائي الواثق أنه وحده على حق ودائما، كاهن محافظ يصر على أن يقبل الأساقفة يده، ويزعم أن الاعتراف الكنسي يلغي الجريمة.
التوبة والاستغفار يمحوان الذنب؟
هذا جنون بالنسبة للدولة الحديثة. الجريمة جريمة.
يغضب الكاهن الآخر ويردّ بحدة: “الاعتراف والمسامحة لا ترجع البندول للصفر”.
كاهن يسوعي أرجنتيني فقير، يحب كرة القدم فقير يبارك المطلقين راهب نسبي لا يدعي امتلاك الحقيقة ولو قال هذا الكلام منذ قرون لاتهمته الكنيسة بالهرطقة ولأعدم حرقا حيا. ودفاعا عن النسبية يذكر واقعة تاريخية مزلزلة: حتى القرن الخامس كان الرهبان يتزوجون ولم يكن هناك ذكر للملائكة في الأدبيات الدينية الكاثوليكية. بعدها تغير الوضع.يعرف الكاهن الدوغمائي هذا لكن يكتمه عن الشعب.
فجأة يستخدم المخرج الزوم (تقريب وجه الممثل بإدارة الفوكيس) ليعكس لحظة تراجع.
حينها لجأ الكاهن الآخر للسخرية، حكى نكتة:
اختلف راهبان حول مسألة التدخين والصلاة، قصد الراهب الأول الاسقف وسأله:
ـ هل التدخين مسموح أثناء الصلاة؟
جاء الجواب: لا.
فورا توجه الراهب الآخر – وكان يسوعيا مثقفا – ليطرح السؤال مع تغيير الصيغة إلى:
ـ هل الصلاة مسموح بها أثناء التدخين؟
أجاب الأسقف: نعم.
تعكس هذه الفتوى المرنة اختلاف قديسين يتجادلان وهذا منهي عنه لأن المناظرة السقراطية تقليد فلسفي مسموم كما يقول يعقوب الفورواجيني في سيرة سان فرانسوا داسيز ضمن سير “الأسطورة الذهبية”.
وبينما هما يتجادلان يكتشف الكاهن المحافظ أن لدى خصمه طاقة وعظية هائلة… هنا يرى فرصة لدى بديله. هل التغيّر هو تنازل؟
لتحقيق مصالحة يشاهد الكاهنان نهاية كأس العالم بين منتخبي الأرجنتين والمانيا، ماذا لو كانت كرة القدم وقواعدها هي الديانة الأكثر انتشارا في العالم اليوم؟
يستشهد كاهن بسان فرانسوا الذي كان يبني الكنائس، بينما يذكر الكاهن الثاني ان سان فرانسوا (وهو نموذج للكمال المسيحي) كان يحب الرقص. هكذا ينتقي كل كاهن الجانب الذي يلائمه من سيرة زعيم حركة التفقر الأوروبية في القرن الثالث عشر. وهو قرن عرف وجود باباوان أيضا. من فرط مصادفتي لشخصية سان فرانسوا في نصوص ولوحات وأفلام كثيرة تتحدث عن الرسم قررت ان أزور منطقة توسكان في إيطاليا لمشاهدة الجداريات. للإشارة كتب الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس رواية عن زوربا الثائر ورواية عن القديس فرانسوا الفقير.
أسوء نقد يمكن أن يوجه للبابا هو نسيان الفقراء. الرد: تخلى عن الصليب الذهبي. وندد بعولمة اللامبالاة. لكن لا يدعي احتقار المال باعتباره روث الشيطان أو “خنز الدنيا”.
والرد على تدبير المال بالمشهد الأخير هو تتمة للمشهد الأول. وهو مشهد يعرض حدثا صغيرا يوجز شخصية البابا الجنوبي.
تعكس وجهتي نظر الكاهنين الكبيرين اختلافا بين تدين إنساني منفتح وتدين دوغمائي يقوم على اليقين. و”اليقين ليس تنويريا” حسب موسوعة لالاند ص163. المشكل أنه يستحيل أن يكون الكاهنان معا على حق. لابد أن واحدا منهما على خطأ.
المزعج هو أن يكتشف المتفرج في منطقة شمال أفريقيا وشرق المتوسط أنه يشبه الكاهن أحادي الرأي. لذلك لا توجد حركة إصلاح ديني في المنطقة حيث الرب الواحد والحقيقة الواحدة والطريق الواحد والقائد الأوحد.