صحافة البحث

اليسار المغربي: أزمة تنظيم وإيديولوجيا؟

غرافيتي من مصر (السفير العربي)
4٬811

- الإعلانات -

كيف انتقل التنسيق بين تيارات اليسار الراديكالي والتيار الاسلامي الاحتجاجي (العدل والإحسان) من المستوى الاجتماعي الذي يخص مسائل الخدمات العامة، إلى المستوى السياسي الذي يتعلق بإسقاط الاستبداد وبطبيعة النظام: دور ظاهرة “حركة 20 فبراير” في ذلك.

لم يستعد اليسار المغربي الواجهة في الساحة السياسية المغربية، منذ سنوات الثمانينات من القرن الفائت وإلى حين بروز حركات الربيع العربي – الديمقراطي، ومنها “حركة 20 فبراير” التي خرجت إلى الشارع في سياق الانتفاضات ضد الفساد والاستبداد السياسي.

فبظهور حركة الشباب “الاحتجاجية” في 20 فبراير 2011، انتعشت أحزاب اليسار “الراديكالي” (حزب النهج الديمقراطي، حزب الطليعة الاشتراكي الديمقراطي، حزب الاشتراكي الموحد، المؤتمر الاتحادي، وأيضاً بعض التيارات الطلابية اليسارية الراديكالية)، لتشكل حركة موحّدة مع تيار إسلامي احتجاجي بدوره، “جماعة العدل والإحسان”.

أما فيما يخص باقي أحزاب اليسار التي دخلت منذ سنوات التسعينيات (1997) في تجربة “الانتقال الديمقراطي”، المجهض في سنواته الأولى، فقد بقيت أحزاب مؤسساتية تبتعد عن “القوى الشعبية” أكثر فأكثر، حتى أصبحت أحزاب “يسارية” الإيديولوجيا و”ليبرالية” الممارسة الى حد “النفعية الضيقة” المتمثلة في جلب أعيان بإمكانهم الحصول على مقاعد انتخابية توسع تمثيلية الحزب داخل المؤسسات الرسمية داخل الدولة. ولم تكن مشاركتهم في زمن الحراك الاحتجاجي سنة 2011 إلا “باهتة”، من خلال حضور بعض الأعضاء من شبيبة الحزبين – الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية الذي كان حزباً شيوعياً في ماضيه النضالي – في مسيرات واجتماعات “حركة 20 فبراير”.

اليسار وحراك 2011

مباشرة بعد دعوات التظاهر التي أطلقتها الشباب “الفبرايري” على وسائل التواصل الاجتماعي، أصدرت مجموعات من التيارات السياسية اليسارية وأيضا من “العدل والإحسان”، بلاغات تعلن فيها دعمها وانخراطها في الاحتجاجات التي دعا لها هؤلاء الشباب.

من أول  التي أعلنت عن دعمها لهذا الاحتجاج، كان “تحالف اليسار الديمقراطي” المكون من حزب الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الاتحادي، الذي أعلن في بلاغ له (13 فبراير 2011) عن تأكيده على “وقوف التحالف إلى جانب كل المبادرات الجماهيرية والشعبية المطالبة بالديمقراطية الحقة ومن ضمنها حركة 20 فبراير”.

وبعد ذلك بثلاثة أيام، وجهت أيضا اللجنة الوطنية لحزب النهج الديمقراطي نداءً إلى الشعب المغربي معنوناً بـ”لنناضل جميعاً من أجل الحياة الكريمة والقضاء على الاستبداد المخزني” يدعو فيه جميع “مناضلات ومناضلي الحزب للانخراط بحماس في كل النضالات الشعبية، ومن ضمنها تلك التي دعت لها حركة 20 فبراير”.

بظهور حركة الشباب “الاحتجاجية” في 20 فبراير 2011، انتعشت أحزاب اليسار “الراديكالي” (حزب النهج الديمقراطي، حزب الطليعة الاشتراكي الديمقراطي، حزب الاشتراكي الموحد، المؤتمر الاتحادي، وأيضاً بعض التيارات الطلابية اليسارية الراديكالية)، لتشكل حركة موحّدة مع تيار إسلامي احتجاجي بدوره، “جماعة العدل والإحسان”.

وفي اليوم نفسه أصدر “المكتب القطري لشباب جماعة العدل والإحسان” بياناً يؤكد فيه على “دعم كل المبادرات الداعية إلى بناء دولة الحرية والكرامة والعدل، بما فيها احتجاجات 20 فبراير”، مشدداً على الطابع السلمي لمشاركته، وداعياً “الجميع إلى اليقظة اللازمة ضد أي استفزازات محتملة”، وهو ما أعادت الدائرة السياسية للجماعة التأكيد عليه في بلاغ لها بعد يوم، حين أعلنت عن دعم احتجاجات “20 فبراير” مركزة على “سلمية الوقفات واحترام الاختلاف والتنوع في الشعارات والمطالب والحرص على سلامة الممتلكات”.

“يسار” منفصل عن الشارع

أحزاب “اليسار الحكومي” (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية)، لم تعد في المجمل تنخرط في دعوات التغيير المجتمعي المنبعثة من الشارع. فالأول سكت عن دعم أو رفض الدعوات الاحتجاجية في زمن الحراك في 2011، إلى أن أصدر بياناً رسمياً بعد مسيرات حركة 20 فبراير. لكن، في الوقت نفسه، خرج ما سمي بـ”اتحاديو 20 فبراير”، وهم أعضاء في “شبيبة الحزب” وأصدروا بلاغا في 18 فبراير 2011 يعلن عن ظهور تيار داخل حزب الاتحاد الاشتراكي يتبنى “الانخراط الكلي في حركة 20 فبراير، إعمالا لمبدأ الحق في التظاهر السلمي، ونبذ كل الأشكال التعبيرية الفوضوية، والتشبث بالوحدة الترابية ومطلب الملكية البرلمانية وحقوق الإنسان الكونية”.

بقيت أحزاب اليسار التي دخلت منذ 1997 في تجربة “الانتقال الديمقراطي” – المجهَض في سنواته الأولى – مؤسساتية، تبتعد عن “القوى الشعبية” أكثر فأكثر، حتى أصبحت “يسارية” الإيديولوجيا و”ليبرالية” الممارسة.. الى حد “النفعية الضيقة” المتمثلة بجلب أعيان بإمكانهم الحصول على مقاعد انتخابية توسِّع تمثيلية الحزب داخل المؤسسات الرسمية للدولة.

أما بخصوص حزب التقدم والاشتراكية، فقد أعلن رسمياً في 15 فبراير 2011 في بلاغ صادر عن الديوان السياسي أن “الحزب لا يمكن أن ينخرط إلا في الحركات السياسية والاجتماعية المنظَّمة والمسؤولة، الهادفة إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتي توظف آليات وأساليب الصراع الديمقراطي السلمي من داخل المؤسسات، وتنبذ الفوضى وتحفظ الاستقرار الضروري لتحقيق التقدم”! لكن، في يوم 20 فبراير، صدر بلاغ موقع باسم “مناضلات ومناضلي حزب التقدم والاشتراكية المشاركين في تظاهرات 20 فبراير”، مؤكدين فيه “مساندتهم اللامشروطة لمطالب الشعوب العربية في الديمقراطية الحقة والعيش الكريم ضداً على أنظمة القمع والاستبداد”، معتبرا أن “المغرب، وعلى غرار باقي بلدان العالم العربي، في حاجة ماسة إلى ديمقراطية حقيقية قوامها دستور حداثي يضمن فصل السلطات واستقلال القضاء”.

اليسار والإسلاميون

منذ سنة 2011، أعاد النظام المغربي تشكيل المسرح السياسي “الرسمي” على مستوى “السماح” بوصول حزب إسلامي إلى الحكومة لتدبير مرحلة حركة 20 فبراير. وهو ما فعله سنة 1997، في ترتيب مع أحزاب اليسار – المعارض آنذاك – حين عيّن الملك الحسن الثاني الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي كرئيس لحكومة تشكلت من الأحزاب الوطنية التي كانت تتموقع لعقود في المعارضة. ولذا، فتفاصيل التحالفات أو الصراعات بين أحزاب “اليسار الحكومي” وحزب العدالة والتنمية الإسلامي تخضع إلى منطق التحالف الحكومي، أي لاعتبارات عدد المقاعد النيابية وكيفية جمع الأغلبية النيابية، وأيضا للتشاور مع القصر الملكي. وهذه الاعتبارات تتفوق على التحالف أو الصراع الإيديولوجي. وهو ما يفسر التنافر والتجاذب في علاقة حزب العدالة والتنمية مع الاتحاد الاشتراكي، بشكل غير منطقي ولا هو مبني سياسياً وإيديولوجياً، كما حدث في الصراع على تشكيل حكومة 2016، ويفسر أيضا التحالف المستمر مع حزب “التقدم والاشتراكية” منذ حكومة 2012 إلى الآن.مقالات ذات صلة

أما فيما يخص تحالف تيارات اليسار التي كانت وما زالت تتموقع في المعارضة، خارج المؤسسات (إلا “فدرالية اليسار الديمقراطي” التي تضم أحزاب الاشتراكي الموحد، الطليعة، والمؤتمر الاتحادي، وتشارك في المؤسسات المحلية المنتخبة وفي البرلمان بعدد مقاعد ضعيف)، فموقفها من الإسلاميين كان طوال الحياة السياسية هو رفض التنسيق والتحالف. بل يصل حد الصراع السياسي إلى العنف المادي، خصوصا في الجامعات التي عرفت تاريخاً من الصراع في الساحة الطلابية بين طلبة “العدل والإحسان” أساساً، و”تيار الطلبة القاعديين” وتيارات يسارية أخرى.

التقارب بين التيار اليساري المغربي المعارض، وإسلاميو معارضة الشارع (“جماعة العدل والإحسان”)، ظهر بداية سنة 2008، من خلال تأسيس تنسيقيات مناهَضة غلاء المعيشة وتدهور الخدمات العمومية في مجموعة من المدن، وهي التي تؤرخ لأول تنسيق من نوعه، بين التيارات المعارضة من الجانبين اليساري والإسلاموي، حيث تم التركيز في جميع مبادرات هذه التنسيقيات وخطواتها الاحتجاجية على البعد الاجتماعي المتعلق بغلاء الأسعار وتدهور الخدمات العمومية، مثل الربط بالماء والكهرباء، والنظافة العمومية. وقد بدأت هذه التنسيقيات بالخفوت في بدايات 2011، وذلك بسبب انفراد تحالف الإسلاميين وأحزاب اليسار الراديكالي بالقرار من خلال “نواة صلبة”، وإبعاد باقي التيارات اليسارية وحتى الأفراد عن التأثير في قرارات تنسيقيات غلاء المعيشة.

وبالتزامن مع خفوت التنسيق بين الإسلاميين واليساريين في البعد الاجتماعي ، ظهرت حركات “الربيع العربي” التي خرجت للاحتجاج على حكامها والمطالبة بإسقاط أنظمتها الاستبدادية، وظهر أيضا شباب 20 فبراير الذين دعوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى الاحتجاج على الفساد والاستبداد السياسيين، ليبدأ بذلك تنسيق “سياسي” بين تيارات وأحزاب اليسار الجذري وجماعة “العدل والإحسان” بشكل أوسع عبر الخروج – لأول مرة بشكل علني يعبر عن مواقف سياسية – للاحتجاج على الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشارع المغربي، بعدما كان اللقاء بين هذه التيارات في السابق لا يكون إلا لنصرة القضية الفلسطينية أو تنديدا بالحرب على العراق..

يسار ليبرالي

بعد خفوت الاحتجاج في الشارع المغربي من جديد، وصعود الإسلاميين إلى الحكم، اختار جزء من اليسار “الراديكالي” الذي أصبحت أغلبية قيادته تنحو نحو التوجه الليبرالي في اختياراتها السياسية، أن تتقاطب في “فدرالية حزبية”، من أجل خوض الانتخابات والدخول في اللعبة السياسية. أظهر هذا القرار الذي اتخذته الأحزاب التي كانت داعمة للحراك الشبابي المطالب بالتغيير الديمقراطي “الشامل”، أن هذه الأحزاب مستعدة للدخول في رهانات الحقل السياسي الرسمي وما يتطلبه من “إشارات” سياسية للحكم.مقالات ذات صلة

بدأت قيادات “اليسار” ذاك، مباشرة قبل الانتخابات التشريعية لسنة 2016 التي شاركت فيها أحزابها، بفك أي ارتباط أو حوار مع قيادات “جماعة العدل والإحسان”، لتصل حد الهجوم في تصريحات “إعلامية” (من قبل نبيلة منيب منسِّقة الفدرالية والأمينة العام للحزب الاشتراكي الموحد). توقف أي تنسيق مع هذه الجماعة في الشارع بما في ذلك بخصوص الوقفات والاحتجاجات المنددة باعتقال نشطاء “حراك الريف” أو المطالبة بإلغاء الأحكام الصادرة بحقهم. وقد وصل الأمر الى حد تنظيم تيار “يساري” لمسيرة منددة بالأحكام دون مشاركة “العدل والإحسان”، الذي دعا بدروه فيما بعد إلى مسيرة تضامنية أخرى.

‫‬يسار بمهمة “حقوقية”

في مرحلة مبكرة من تاريخ المغرب المستقل، اختار التيار الراديكالي داخل اليسار الجذري (“النهج الديمقراطي”، الذي ما زالت هناك أصوات بداخله تنادي بالتنسيق التكتيكي مع الإسلاميين من أجل التغيير الديمقراطي ومواجهة الاستبداد السياسي)، أن يتجه إلى العمل الحقوقي، من خلال الدخول في هياكل “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، التي تتشكل منهم بالإضافة إلى أعضاء كانوا على يسار حزب الاتحاد الاشتراكي: “رفاق الشهداء”

أصبح التعبير عن الرهانات السياسية للتيارات اليسارية الراديكالية يتم في الفضاء العام عبر الواجهة الحقوقية، وعبر الاشتغال على ملفات حقوق الإنسان. لكن بموازاة ذلك، لم يستطع اليسار الراديكالي في جميع المراحل التي تهيأت فيها الشروط السياسية داخلياً وعلى مستوى السياق الدولي، أن يستقطب اعداداً كبيرة من الفئات الشعبية المغربية.. حتى أصبحت أغلب هذه الأحزاب اليسارية (الراديكالية والإصلاحية على السواء) تتشكل من قيادات ليس لها أي امتداد شعبي.

ينشر هذا المقال بالاتفاق مع جريدة السفير العربي