- الإعلانات -
ذاكرة إعلامية هي نافذة يطل من خلالها قراء موقع “µ” على أعمال صحفية ذات قيمة فكرية، أدبية، فنية و سياسية سبق للصحفي المصطفى روض أن أنجزها و نشرها في مجلتي “الحرية” و “الفكر الديمقراطي” الفلسطينيتين و منابر أخرى بالمشرق و صحيفة أنوال بالمغرب. و ستكون البداية مع الحوارات في محور السينما ستتلوه محاور الشعر، المسرح، النقد الأدبي والسياسة و الفكر.
أحمد دحبور صوت إبداعي شعري فلسطيني منقوش في الذاكرة الثقافية العربية إلى جانب أصوات أخرى بعضها يقيم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو مناطق الحكم الذاتي، و بعضها الآخر يعيش التهجير القسري خارج الوطن المحتل.
عاش الشاعر دحبور ما يقرب من ثلاث حقب مهجرا، هو الآخر، ضمن كوكبة الفلسطينيين الذين أرغموا على الشتات، ليعود بعد ذلك، إلى مناطق الحكم الذاتي و هو يحمل معه ذاكرة ممزقة، و حلما كبيرا في أن يصحو من كل وصاية إسرائيلية.
تردد على المغرب في أكثر من مناسبة، و اقترب من الجمهور المغربي إلى جانب شعراء آخرين أمثال محمود درويش، سميح القاسم… الخ. وحين شارك في ملتقى: “قضايا الإبداع و الهوية في الثقافة العربية” الذي عقد بأغادير في أواخر الثمانينيات، كان حضوره متميزا إلى جانب شعراء آخرين مغاربة و عربا.
للشاعر دحبور آراء خاصة في الشعر، و علاقة الثقافي بالسياسي، و تجربة المنفى، و واقع العودة التي ما زالت دون مستوى الحلم..
و عندما التقيناه تحدث لنا عن هذه القضايا.. و عن أشياء أخري.. ننقلها للقارئ المغربي، من خلال هذا الحوار الذي أجريته معه، بمشاركة زميلي الصحفي عبد اللطيف الجعفري لفائدة صحيفة “أنوال” و المنشور في ثلاثة أجزاء عام 1996.
- س: العديد من المثقفين العرب اعتبروا أن إعلان الشاعر محمود درويش لاستقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أثناء إبرام اتفاقية “أوسلو” بين القيادة الفلسطينية و القيادة الإسرائيلية، بمثابة الشرارة التي أدت إلى الشرخ في علاقة السياسي بالثقافي في الساحة الفلسطينية. ما هي وجهة نظركم في هذا الموضوع؟
أحمد دحبور: أولا، أحب أن أسجل أن المثقفين الفلسطينيين ليسوا حزبا سياسيا، بمعنى أنه ما من حادثة معينة، أو ما من رمز ثقافي مهما كانت أهميته، لا يمكن اعتباره العنوان العام للمشهد الثقافي الفلسطيني. الحياة الثقافية الفلسطينية هي جزء من المشروع الثقافي العربي الكبير. و باستمرار كانت هناك خطوة متقدمة للثقافي على السياسي، بمعنى أن المثقف هو ذو رؤية، و رؤيته شمولية بطبيعة الحال. أما السياسي، و إن كان لا يخلو من امتلاك رؤية، فإن رؤيته محكومة بشروط تكتيكية و بتفصيلات تتعلق بقضايا إجرائية قابلة للتبديل و التغيير. إذا كان هذا كلاما عاما، فيمكن الاقتراب من السؤال بملاحظة أساسية، و هي أنه باستمرار كان هناك طموح للسياسي الفلسطيني في أن يضع فلسطين على خريطة المعادلة الدولية، و أن يحقق نوعا من الكيانية الفلسطينية، فكان المثقف يلتقي معه من حيث الإيمان بفلسطين بوصفها رمزا من رموز العدالة في هذا العصر. و لكنه كان يختلف معه باستمرار في الكثير من القضايا التي تتعلق أحيانا بالديمقراطية و أحيانا أخرى بانقياد السياسي الفلسطيني لضغوط عربية.
الشعر الفلسطيني يمشي على سكتين
و من يرجع إلى الشعر الفلسطيني منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، يجد أن هذا الشعر، يمشي على سكتين: سكة السؤال الكبير المتعلق بالرؤية الوطنية و تحقيق الكيانية الفلسطينية العربية و بموازاتها كان هناك انتقاد مر لخطوات السياسي الفلسطيني، يعني، ليس منذ 31 غشت 1993، و إنما قبل ذلك.
وأستطيع أن أحيل هذا السؤال إلى قصيدة مبكرة نسبيا للشاعر محمود درويش نفسه عام 1979 بعنوان “رحيل المتنبي عن مصر”، و كانت تلك القصيدة إيذانا برحيل الشاعر عن اللحظة السياسية الراهنة، و فيها يقول الشاعر بما لا لبس فيه، و بكل وضوح: “لكن أحبابي أضاعوني و ضاعوا”؛ و في سطر آخر يقول: “و تشابه الأسماء فوق السلم الملكي، إلا أن كافورا خلاع”. يعني هو ينفض يديه من السلطة سواء أكان المرموز إليه هو السلطة العربية أو السلطة الفلسطينية.
إذن، من الظلم أن نعتبر أن المثقف الفلسطيني مجرد مستجيب لحادثة سياسية معينة. مجرد وقوع الحدث (اتفاق أوسلو) علق عليه بهذا الموقف (الاستقالة). لا ينبغي أن يفهم الأمر بهذه التبسيطية، و إنما هناك رؤية عامة تتعلق بالثوابت المرجعية الحضارية و الحق التاريخي في الوطن، و الحق التاريخي في الحياة على ظهر الكوكب. و هناك التفاصيل التي يمكن أن يتعاطى معها المثقف بصفته مواطنا له علاقة بالسياسة أيضا. أنا عندما تحدثت عن الثقافي و السياسي، لم أكن أقصد، و لم يخطر على بالي أن أقصد، و لست من الحماقة بحيث أقصد، أن المثقف يجب أن يجلس في برج عال بعيدا عن أحداث بلاده بدعوى أنه مثقف و عليه ألا يتأمل و يفكر، بينما على السياسي أن يجتهد و يناضل في الحياة اليومية. لم أقصد هذا الكلام نهائيا.
قلت إن في الثقافي جانب سياسي و أن في السياسي جانب ثقافي، و لكن من حيث الأداء لا بد من التمييز بين الأداء الثقافي و الأداء السياسي.
العدل هو أن يكون لي وطن
- س: تحدثتم عن علاقة الثقافي بالسياسي بالنسبة للمثقف الفلسطيني، و ذكرتم في هذا السياق ببعض المقاطع الشعرية لمحمود درويش في مناسبة معينة.. و إذا حاولنا أن نقيس الشاعر درويش بالشاعر دحبور، نستحضر ما قلته في أمسية شعرية بأغادير عام 1988 في المقطع التالي:
“لماذا الأرض تعتذر
لأنا لم نجد فيها مكانا
و قد وسع المكان على سوانا
فهذا فضاء الله يسكن في
خطانا”
فأي زمن يؤطر مثل هذا الكلام بالنسبة للشاعر دحبور، سواء راهنا أو على مستوى التطورات التي جرت لزعزعة سؤال الإبداع الفلسطيني منذ تلك الفترة إلى الآن؟
أحمد دحبور: لو كان ما قلته في قصيدة “العودة إلى شاي الصباح” التي تشير إليها، مجرد تعليق سياسي على حدث معين، لكان في ذلك خيانة شعرية. و أنا لم يخطر على بالي إطلاقا، أن أعقب على حدث معين بقصيدة شعرية. و لكنها شهادة على لحظة انكسار حضارية عربية و إنسانية بحيث ينقسم العالم إلى أناس وسعت لهم الأرض و إلى آخرين لا أرض لهم؛ هذا السؤال يتعلق بالعدل بمعناه الشامل، و اعتقادي هو أنه حتى شعوبا أخرى وجدت نفسها بلا أرض و لا مكان، فيما أقليات ترتع في الرفاهية و البحبوحة..
إذن، ليس الأمر هو التسجيل في الرزنامة على أن في اليوم الفلاني صحوت، و وجدت نفسي بلا وطن و الآخرين في أراض واسعة.. إن السؤال – كما أذكر – يتعلق بالعدل، و هذا ما قصدته بالحديث عن السؤال الثقافي الكبير بأبعاده الإنسانية و ظلاله الحضارية، أما التفاصيل حول ما جرى في المفاوضات..؟ و لماذا احتج الوزير الفلاني..؟ و لماذا استقالت المتفاوضة الفلانية..؟ هذه أمور يمكن أن نناقشها من خلال حديث سياسي بالمعنى الإجرائي بالمتناول الضيق الذي لن يكون له أية قيمة سياسية بعد ثلاثة أشهر عندما تكون هذه التفصيلات قد مضى عليها الوقت. أما السؤال الثقافي، فإن العدل هو أن يكون لي وطن. هذا سؤال قائم و له استحقاق، سواء كنت أتحدث عن فلسطين أو عن “كوستا ريكا”.. طبعا هناك بصمتي الفلسطينية.. لوعتي.. لهجتي… هذا طبيعي، لأن الفن فيه جانب ذاتي و يتلقى بصمات الواقع و تفصيلاته. و لكنه لا ينقاد إليها بحيث يقتصر على مناسبة ضيقة.
الأرض هي المعادل الموضوعي للحرية
- س: هناك كتاب فلسطينيون يتطرقون لمسألة الأٍرض. الشاعر درويش قال في إحدى أشعاره، “من لا أٍرض له، لا بحر له”. و في “أخطية” إميل حبيبي هناك حضور لمسألة الأرض، فماذا تعني الأرض بالنسبة للشاعر دحبور؟
أحمد دحبور: لا أعتقد أن الأرض لغز، الأرض هي الأرض، و الأمان، و البيت، و هي المعادل الموضوعي للحرية.. و في اعتقادي أن الاستشهادات التي ذكرتها لشعراء آخرين، تؤكد هذا المعنى. فعلا، “من لا أٍرض له، لا بحر له”، و بالتالي و أنا أتحدث عن القيم المطلقة للعدالة و الحق، لا أجنح إلى التجريد. قلت إن بصمتي و لوعتي و لهفتي على هذه الأٍرض و هي موجودة. و لكنني أميز أن تكون القصيدة بيانا سياسيا، يعني تترجم حال أناس مجتمعين في قاعة، و أخرج أنا لأقول: لقد اتفقوا على ما يلي: و أقرأ القصيدة. هذا اغتيال للشعر و استخفاف بعقل المتلقي و إلغاء لكل ما هو جميل في الإبداع؛ و بين أن أؤكد قصيدتي بشروطي التي يتماهى فيها الذاتي و الموضوعي، بمعنى لما قررت أن أكتب قصيدتي الفلسطينية لم أكن قد جمعت العناصر المرجحة لعدالة قضيتي و العناصر المبطلة لدعوة المحتل، و أجريت بينهما مفاضلة و لو كان الأمر كذلك، لكتبت مقالا سياسيا ناجحا، و ربما كان على الصعيد الميداني أكثر جدوى من قصيدتي. و أما إذا أردت أن أتحدث عن الفن، فعلي أن أتحدث عن شجني الشخصي و عن مشكلتي الشخصية، و بمصادفة أنني عربي فلسطيني، فإن هذا الشخص سيتماهى مع المسألة العامة، و يظهر في شعري على النحو الذي ظهر فيه.
و الشعر الفلسطيني هو بين مطرقة الالتزامين – إذا جاز هذا التعبير بالمعنى الضيق – أي ذلك جدانوفي (نسبة إلى جدانوف) الذي يسألك أين هي قصيدتك؟ لماذا لا تكتب عن الجلاء؟ و لماذا لم تكتب عن الشهيد الفلاني؟
تسخيف الشعر و ابتزاز المتلقي
خلال الندوة، هناك من سألني، لماذا لم أعلق في شعري على اعتقال حنان عشرواي؟ هذا السؤال مسخرة بالنسبة للشعر.. الشعر الفلسطيني محاصر بهذه المطرقة التي ذكرت.. و بين سندان أولئك المثقفين المتبرمين من أي شكل من أشكال الالتزام، بحيث يرى أن شبهة الوطن في القصيدة هو بمثابة تسخيف للشعر و ابتزاز للقارئ أو المتلقي. و بالنسبة لي أنا لا أصنف لا مع هذا الطرف أو ذاك، و كل ما في الأمر أصدر عن مشاعري الطبيعية.. بمعنى لما جئت إلى المغرب ذات يوم، و كان هناك أصدقاء عرب آخرون، و عندما ودعنا أهل المغرب المضيفين، كل ضيف ذهب إلى بلده، بينما أنا ذهبت إلى منفى آخر، لأنه لم يكن لي وطني. إذا كتبت هذا في قصيدة، فإنني لا أعلق عن تلك الرحلة و عن طائرة “جامبوار” التي ركبتها و كيف وضعت الحزام.. هذه تفاصيل قد لا تفيد الشعر، و قد تفيده إذا ما وظف، أيضا، بطريقة إبداعية، و لا أريد أن أقترح شكلا من أشكال التعبير لأن الاحتكام أخيرا للنص. و لكن لحظة المفارقة، أن يعود الضيوف إلى بلدانهم، و أنا لا أعود، من شأن ذلك أن يفجر سؤالا شعريا، بهذا المعنى، أقول أن الأرض، في مستوى منها هي كل ما أجبت عنه في هذا السؤال، و لكنها في مستوى آخر، هي المطلق، أي الفضاء الذي يتحداني من أجل اكتشافه، و من أجل ترتيب معادلتي الإنسانية عليه.
- س: نعرف أن الشاعر أحمد دحبور، على غرار مجموعة من المثقفين الفلسطينيين الذين عادوا إلى مدنهم في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1948، فكيف تنظر إلى حالة الاغتراب التي تعيشها مع باقي المثقفين في ظل سلطة الكيان الإسرائيلي و ليس الكيان الفلسطيني؟
أحمد دحبور: أعتقد أن هناك التباسا صغيرا يتعلق بشخصي لا بد من الإشارة إليه للانتقال إلى الإجابة عن هذا السؤال الذي أراه هاما. فأنا فعلا من الأرض التي احتلت عام 1948 و لكنني لاجئ بمعنى أني لم أعش في ظروف الاحتلال منذ هذا التاريخ، بل هاجر بي أهلي من حيفا بعد أن سقطت في يد الاحتلال الصهيوني و عشنا في سورية، و تنقلت في عدد من الأقطار العربية منها عشر سنوات في تونس، و عندما عدت إلى الوطن، عدت في ظروف قيام السلطة الوطنية الفلسطينية و أقمت في غزة، بمعنى أن حيفا التي هي مدينتي و مسقط رأسي، لا أستطيع أن أدخلها إلا زائرا و بصعوبة، و هي حسب خريطة المشهد الراهن، يعتبرها الصهاينة مدينتهم، و يطلقون عليها اسم “كياني”، و إلى أن يتزحزح الميزان – إذا جاز التعبير – و يتحقق العدل، و يترابط الحق مع الحقيقة، فأنا سأكون لاجئا في وطني، لأن غزة هي مدينة فلسطينية، و الضفة الغربية هي أرض فلسطينية، و إذا قمت هنا و هناك، فانا في وطني، و لكن الجزء الآخر من وطني الذي ولدت فيه هو جزء محتل و بالتالي أنا في غزة لاجئ في وطني.
المثقف و السياسي في معركة البناء و التنمية الثقافية
و الآن، أنتقل إلى سؤالك.. و لأجيبك أقول: و أنا في هذا الوطن أجد نفسي إنسان معني بالثقافة، في مواجهة نوع من التحدي الباهض و الصعب، لأن قطاع غزة الذي يعيش فيه حوالي مليون إنسان فلسطيني، يفتقد إلى جميع الاحتياجات التي تشكل البنية التحتية لمجتمع ما. في غزة لا يوجد مركز ثقافي واحد، و لا قاعة سينما واحدة، و لا مكتبة عامة.. هناك أشكال من التعبير الثقافي كالمعهد الموسيقي لا يعرفه المواطن الفلسطيني في القطاع، و بالتالي علينا أن نبدأ من الصفر لا بالمعنى المجازي، بل بالمعنى الإجرائي. هنا يضع المثقف يده بيد السياسي من أجل التنمية الثقافية و إحداث البنى التحتية.
و الأمر في الضفة الغربية قد لا يختلف كثيرا، و قد يختلف بالدرجة لا بالنوع، بمعنى أنه ممكن العثور على مركز ثقافي و لكن الاحتياجات الأولية ما تزال بهذا الحجم من الفداحة و الفاجعة، أما ما يتعلق بأرضنا المحتلة في عام 1948، و أحسب أن هذا السؤال الذي التبس في اعتقادي في أني مقيم هناك، لعلك تعرف أن الرموز الثقافية التي توجد هناك هي أسماء معروفة كان آخرها إميل حبيبي، و قبله الراحل توفيق زياد، و هناك رفاق أمد الله في أعمارهم و في عطائهم، سميح القاسم، محمد علي طه، رياض بيديس، شكيب جهشان، حنا أبو حنا.. و القائمة طويلة، هؤلاء المثقفون الفلسطينيون يشكلون امتدادا لما اصطلحنا عليه بأدب المقاومة من حيث تركيز الهوية الفلسطينية و من حيث مواجهة الآخر، لأنهم يواجهون الصهيوني يوميا، يقارعون الحجة بالحجة، يكتبون أدبهم، يتعرضون أحيانا للتنكيل و للإقامة الجبرية.. و إلى ما هو معروف من آليات الاحتلال، و إن كانت الظروف بالمعنى السطحي هي أفضل حاليا. من حيث الجوهر ما زالوا يعانون من الاحتلال و لكن أدوات الاحتلال هي أكثر ذكاء من مرحلة القمع المباشر و السجن و المصادرة.
حسرة حيفا علي أم حسرتي عليها.. وصلتها و لم أعد إليها
- س: كيف أحسست كشاعر و أنت تعود إلى مدينتك حيفا لمعانقة الوطن و الأهل و الأصدقاء بعد غربة طويلة جدا؟
أحمد دحبور: الواقع أنني عندما وصلت إلى غزة، و كان ذلك في 24 غشت 1994، يومها كنت في حالة انعدام التوازن،، لأن الإحساس وقتها كان يجعلني أتساءل إن كانت هذه هي فلسطين التي كانت مجرد فكرة في رؤوسنا؟
و من حسن الحظ بعد مرور أقل من أسبوع على إقامتي و أنا داخل الفندق لا أعرف كيف أتجول في الشارع، رتب لي إخوتي و أصدقائي الأدباء في الناصرة دعوة إلى الجليل، و كانت تلك مناسبة لرؤية مدينة حيفا، ربما كان الحديث يتعلق الآن بالإشارات العضوية، بمعنى كنت في خوف حقيقي من قلبي، و صمدت لرؤية الوطن، و زاد الأمر من الصعوبة المختلطة بالبكاء و الفرح، أن البيت الذي ولدت فيه ما يزال قائما. أنا ولدت في أحد أشهر أحياء مدينة حيفا القديمة و هو وادي النسناس. و كانت أمي و جدتي تحكيان لي باستمرار عن ملامح هذا البيت. هناك في حوش ذلك البيت توجد خمس شجرات “كنية”، و ثمة جار لنا حلاق متدين، البيت ينتهي بفرن صغير هو الفرن الأول في وادي النسناس. هذه الأشياء كنت أكتبها و كان أهلنا في حيفا يسجلونها. لقد أخبرني المرحوم الروائي إميل حبيبي أن الفرن الذي أتحدث عنه، عادة، موجود في إحدى قصصه، تحديدا قصة النورية. و عندما وصلت إلى حيفا، اقتادوني إلى وادي النسناس، و قالوا لي: هذا هو بيت أهلك! كان شعوري محايدا في البداية. قلت أن حيفا مدينة كبيرة، و ليس من الضروري أن يكون هذا هو الفرن الذي يشكل العلامة الفارقة. و إذا بعامل اسمه حنا نصر الله، في مطبعة الاتحاد المجاورة لبيتنا، ينبهني إلى وجود فرنين واحد للأرمن و واحد للذين هاجروا، و بما أن أهلك هاجروا، فهذا هو بيتك. رأيت أن الأمر قابل للتصديق، و قلت له و ماذا عن شجرات “كينة” الخمس، فقال لي: فعلا توجد خمس شجرات “كينة” و ما عليك إلا أن تلتف على السور لترى. التففنا على السور فوجدت أربع شجرات فقط، و اعتبرت أن نقص شجرة واحدة دليل على أن هذا ليس بيتنا. و أنا أتأمل في الشجرات الأربع، فإذا بصديق ينبهني إلى أنني أضع قدمي على جدع الشجرة الخامسة المقطوعة. و هنا تيقنت من أنه بيتي. و أيضا أبا جورج الحلاق الذي كان جارا لنا و كان يناشد أبي ألا يغادر و يقول له: “يا شيخ لو غادرتها فلن تعود إليها!”؛ أخبروني إنه ما زال على قيد الحياة و تمكنت من رؤيته في اليوم الموالي، و تعرف بصعوبة على أسرتي.. و سمحت لنفسي في تلك اللحظة أن أدخل إلى بيتي.. و الشباب الذين كانوا يشغلون الفرن هم فلسطينيون اقتلعهم الاحتلال من القرية التي كانوا يعيشون فيها، و وضعوهم في بيتنا.. تقدموا لي بشهامة بكائية، و سلموني مفتاح البيت، و قلت: بارك الله فيكم، فأنا جئت فقط للبحث عن ذاكرتي، و قد وجدتها كما وصفتها لي أمي و كما وصفها لي أبي! و كان أن تجولت في البيت و سرعان ما نشأت علاقة بيني و بين التراب حيث شعرت أن سنوات 48 التي مضت هي لحظة في الزمن، و أنني في بيت أهلي فعلا، و كنت على وشك أن أقول للناس، أهلا و سهلا في بيتي! تلك لحظة عاطفية سرعان ما بددها الأمر الواقع، لأن الترخيص بمجيئي سينتهي، و إنني سأعود إلى غزة، و سأظل أحن إلى حيفا التي هي مدينتي بحق و حقيقي، هي مدينتي بالممكن، و لكنها في الراهن هي مدينة محتلة، و لذلك كتبت عددا من القصائد، و مما كتبته قلت: “حسرتها علي، أم يا حسرتي عليها، وصلتها و لم أعد إليها”. المسألة هنا ليست تشخيصا بحيث الذي غادرها في سنة كذا، دخلها في سنة كذا. هذا كلام يكتب في اليوميات، الشعر من شأنه أن يشق سكة من نوع مغاير.
المطبعون وضعوا أنفسهم في حل من حالة الصراع مع العدو
- س: بالنسبة لموضوع التطبيع الثقافي مع إسرائيل، هل يعود سببه الرئيسي إلى غياب إستراتيجية للثقافة العربية أم إلى أسباب أخرى؟
أحمد دحبور: التطبيع بمعناه الإجرائي المتمثل في التعامل مع العدو الصهيوني، أعتقد أن الذين مارسوه، فإنهم زاولوا اختيارا سياسيا، بمعنى أن هناك أنظمة وجدت أنها في حل من حالة الصراع مع العدو الصهيوني، و كان من المشرف للشارع العربي أن لا يستجيب لهذا الاختيار بدليل أن المغريات كبيرة جدا، و أذكر المثال المصري، فالمثقفون المصريون و كذلك المواطنون العاديون تقدم لهم مغريات لزيارة تل أبيب و حيفا ويافا… و لكن ليست هناك استجابات تذكر، بل إن المثقف علي سالم عندما ارتكب فعلته بزيارته للعدو الصهيوني، حكم على نفسه بالإعدام المعنوي، و هو لا يجد من يتكلم معه في مصر، علمنا أن النظام المصري يعترف بدولة الكيان الصهيوني، مع ذلك، فالوجدان العام، الرقابة العامة، ضمير الناس و هذا ما أسميه بالحارس الثقافي.. رفض هذا التطبيع. من هنا أنظر بحذر شديد إلى من يريدون التعامل معنا في السلطة الفلسطينية كمعبر لهم. و هناك من لديه نزعة لممارسة هذا التطبيع. و لكن بسبب الضغط الثقافي و ضمير الشعب الذي يمنع مثل هذه الإجراءات، نرى هؤلاء يختارون أسلوبا غير مباشر، بحيث يقولون إنهم ذاهبون إلى فلسطين للتضامن مع إخوتهم في السلطة الوطنية الفلسطينية، و في حقيقة الأمر، فإنهم يذهبون إلى تل أبيب، و يقابلون الصهاينة و يعقدون معهم اتفاقات ثم يحاولون المرور بنا و هم في طريقهم إلى أقطارهم، ليقولوا لنا إنهم كانوا في زيارة للسلطة الوطنية.. هذا الكلام مردود و مرذول و مرفوض. نحن نقول لكل عربي يتعاطف معنا، أهلا بكم غدا عندما يكون الشرط الفلسطيني مستوفيا، بحيث تكون لنا السيادة كاملة على الأرض.. و الآن إذا تمكنا من إدخال المثقف العربي عبر قناتنا الضيقة و الصعبة، بحيث ألا يكون اللقاء بالسلطة الفلسطينية معبرا للقاء المحتلين، فهذا ليس تطبيعا.
التطبيع تكسير للمشروع العربي القومي برمته
و التطبيع معروف أنه قبول لرؤية الآخر، و الآخر لا يراك أصلا، و عندما تزاول التطبيع الثقافي كأنما تقدم على انتحار ثقافي، لأن هذا العدو لا يعتبرني كفلسطيني موجود في وطني، بل يعتبرني لاجئا و امتدادا لأقلية عربية.. و هو أيضا، لو طبع معي و قبل رؤيتي، لكان ألغى نفسه، لأننا نعتبره غاصبا و محتلا، و ليس مستعدا لتقديم تنازل في هذا الشأن لأن المسألة ليست عنادا و إنما إحقاق حقيقة، و بالتالي جوهر التطبيع الثقافي لا يمكن أن يتم. يستطيع السياسي أن يقدم التنازل و يستبيح المحرمات و يفعل ما يشاء. و لكنني أعتبر ذلك انكسار للمشروع العربي القومي كله، و سأظل رافضا للتطبيع بكل معنى الكلمة، طبعا لدينا في السلطة الفلسطينية مشكل من نوع آخر، و يجب أن تكون لدينا الشجاعة حتى لا نكذب على أنفسنا و على الآخرين. إن السلطة الفلسطينية، حتى الآن، لم تحقق سيادتها كاملة، بمعنى أننا، بشكل أو بآخر، نعيش تحت الاحتلال.
صحيح أنني لا أرى جنود الاحتلال مباشرة كما كان يراه الناس قبل عام 1994، و لكن رائحة الاحتلال موجودة في كل مكان، لأنه ما زال يستولي على المعابر، فهو يحكمني بالسلعة أشتريها بالنقد الذي أتداوله، و العملة الفلسطينية عبارة عن سلة فيها “الشيكل”، عملة العدو الصهيوني، و فيها الجنيه المصري و الدينار الأردني و الدولار الأمريكي.. و ما تزال المعركة طويلة باتجاه إنجاز الاستقلال النقدي، أيضا، المعابر ما تزال من الناحية الجوهرية في يد الاحتلال، و لا يجوز أن تحاسبني لماذا اشتريت، مثلا، هذا القميص أو هذه الزجاجة أو أي شيء من المحتلين ما دمت أنا موجود تحت الاحتلال. و لهذا لا يجوز لمن يأتي من خارج فلسطين بحجة التضامن معي ليشتري بضاعة المحتل، لأنه بذلك يكون قد تعامل مع أدوات الاحتلال و مارس التطبيع بمعناه التجاري.
مطلوب من المثقف العربي إيجاد آلية لمقاومة التطبيع
- س: في الجلسة الأولى لأيام الثقافة المغربية الفلسطينية المخصصة للقراءات الشعرية، تضمنت كلمة وكيل وزارة الإعلام الفلسطينية مقترحا يدعو إلى قيام لجن عربية في كافة الأقطار لمناهضة التطبيع مع إسرائيل. كيف إذن تلقيتم عدم استجابة المثقفين المغاربة خلال المناقشات لروح هذا المقترح؟
أحمد دحبور: أنا لا أعتقد أنهم لم يستجيبوا، و إنما كان هناك استمرار لحالة العجز العربية. و المثقف المغربي كان متطرفا في المطالبة بشكل غامض من أشكال رفض التطبيع، ليس واضحا في ذهنه، بحيث أربكنا و أربك نفسه. أنا أتحدث عن معظم من كان في القاعة، و كما قلت خارج جلسات النقاش إنهم كانوا يتعاملون معنا كما لو كنا زعماء منظمة التحرير الفلسطينية و الناطقين باسمها، و بالتالي كان حوار طرشان. المسألة، هي أننا نحن مثقفون عرب يبدو لنا التطبيع بمعنى التعامل مع العدو و كأنه أمر واقع مرفوض، و لكن السؤال هو كيف نجد آلية لمقاومة هذا التطبيع، أما أن أهرب من الأسئلة الموكولة إلي كمثقف مغربي في بلدي لألوم الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي، و أقول له لماذا اشتريت قميصك من ضمن البضائع الإسرائيلية، ففي هذا الكثير من المفارقة و الكاريكاتورية، أنا أعيش تحت الاحتلال، فماذا تتوقع مني؟ هل تتوقع مني أن أصوم؟ فأنا لست راهبا بوذيا حتى أحرق نفسي في الشارع و بذلك أؤكد أنني أرفض الاحتلال و أقاومه.. أنا أقاوم الاحتلال بأدواتي الخاصة و أطورها و أحاول أن أبني البنية التحتية معتمدا في ذلك على الأمة العربية و على الدعم العالمي، و في ذات الوقت مطلوب من شقيقي، المثقف العربي من المغرب إلى الخليج و ما بينهما، أن تكون له أدواته و آلية رفضه و مقاومته للتطبيع، و أنا لست حكيما حتى أصرف “الروشيت” التي أنصح بها حول ما هو ممكن و ما ليس ممكنا، إننا كلنا مطالبين بإيجاد الجواب على هذا السؤال، لذلك اعتبرت أن الطرح الفلسطيني الذي طرح في القاعة، هو طرح مبدئي و عام، و ليس المطلوب تنفيذه بعد الانتهاء من النقاش. فذلك فيه نوع من المغالاة فيما اعتقد. و لكنني آمل أن هذه الحماسة المغربية الشعبية الثقافية في رفض التطبيع أن تترجم إلى آلية لمقاومته. و هذا ما عبرت عنه في كلمتي من أجل البحث عن برنامج عمل ليفرز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، يحدد المحرمات و ما يمكن التعامل معه، و إقامة أو دراسة جدوى ما شبيهة بوضع مشروع اقتصادي الذي تكون أهدافه واضحة، حتى لما نريد الإقدام على خطوة نكون على علم مسبق إن كانت تطبيعا أم هي أمر مفيد للقضية الفلسطينية و القضية العربية العامة. عندما تحدثت عن هذه الجدوى، جاء من قام بتأويل كلامي ليقول إن السيد دحبور يطلب دراسة جدوى التطبيع.. ما هكذا يكون الحوار!
أنا قلت أي إجراء يجب أن نتخذه، من شأنه أن نقيم عليه دراسة جدوى، و في ضوئها نقرر ما إذا كانت هذه الخطوة أو تلك، تصب في مصب التطبيع، لا بد من رفضها؛ و إذا كانت تصب في خدمة القضية الفلسطينية، فهي المطلوبة.
- س: تجربة الشعراء الشباب الفلسطينيين مثل راسم المدهون، غسان زقفطان و زكريا محمد غير معروفة بالمرة في الساحة الثقافة العربية. كيف تفسرون هذه الحالة إذن؟
أحمد دحبور: هذه مشكلة عربية عامة. لا تظن أن الشعراء المغاربة معروفون، أيضا، في المشرق العربي. هذا جزء من الكسل الثقافي العربي نتحمل مسؤوليته جميعا. و منذ فتحنا أعيننا على المشهد الثقافي العربي و نحن ننادي في المشرق و المغرب، بهدم الجسور و بمد التواصل و لتتم المثاقفة الذاتية… و لكن مع الأسف، تعترض هذه المثاقفة عوائق سياسية. و عندما بدأت النهضة الثقافية العربية في نهاية الأربعينات، بعد اختبار السؤال الفلسطيني و انبثاق ثورة يوليوز في مصر، كانت هناك عواصم ثقافية من شأنها أن تضخ الثقافة و توزعها على مختلف الأقطار العربية.
و كانت هناك رموز لهذه المضخات الثقافية: مجلة الآداب اللبنانية مثلا، كان يكفي شاعرا مثل أمل دنقل أن يكتب قصيدة واحدة “البكاء بين يدي اليمامة الزرقاء” حتى يصبح نجما شعريا على امتداد الوطن العربي.
الآن هناك شعراء ممتازون في المغرب و تونس، لا يسمع بهم زملاؤهم في دمشق و بيروت و القاهرة، و هناك شعراء فلسطينيون و مصريون ممتازون لا تسمع إلا القليل عن إنتاجهم، و بالتالي لو تحدثنا عن مزايا هذا الجيل من الشعراء غير المعروفين، لما كان في الأمر أكثر من عناوين، و لا يكفي أن أقول إن فلانا شاعر جيد ما دام كتابه غير متوفر.. و السؤال يحمل حرقة في الدعوة إلى المزيد من التعرف و ابتكار أشكال من المثاقفة تتغلب على الحاجز السياسي و الجمركي. و هذا في اعتقادي، أكثر جدوى من أن نقول أن لديكم شعراء جيدين..!
- س: مرت تجربتك الشعرية من مراحل كثيرة ضمن سياق عام للتجربة الشعرية الفلسطينية بشكل خاص و التجربة الشعرية العربية بشكل عام. أي شيء بقي ثابتا في هذه التجربة؛ و أي شيء تغير..؟
أحمد دحبور: الشاعر حريص باستمرار على تطوير أدواته و آفاقه.. و الخروج من الضيق إلى المطلق. و هذا هم عام لدى أي مبدع. و لكن ما هي درجة إنجازه؟ ربما الناقد هو الذي يستطيع أن يرى ذلك أكثر. و يمكن القول على المستوى الشخصي، منذ فتحت أعيني على الشعر، و أنا مشغول بالثروة الإيقاعية التي ورثناها نحن العرب، بحيث أننا لم نستنفذ أشكال التعبير الموزونة حتى الآن. هذا لا يعني التنكر لقصيدة النثر، فأنا أومن بالتعددية إيمانا مطلقا، و لكنني أرى أن الشاعر التقليدي الذي لا يرى في الشعر إلا ذلك الموزون بالنظام البيتي هو توأم الشاب المتطرف الذي لا يرى في الشعري إلا قصيدة الموقف. أشكال التعبير بمختلف صيغها مفتوحة أمام الشاعر.
منذ بدايتي الأولى، ضبطت نفسي على الحرص في استخدام أوزان مركبة غير مألوفة في الشعر، و استمر معي ذلك حتى كتاباتي الأخيرة.
هناك أيضا، و هي ملاحظة أكاد أراها بعين الناقد، نزعة سردية لدي في قصيدتي. ربما يكون هذا بسبب شغفي بالجانب الدرامي في الشعر. و أيضا هناك مسافة متنقلة باستمرار بين ما هو جواني: غابة الرموز التي يشتغل عليها الشاعر و يستضئ بها؛ و بين الأساس الذي لا يكون مباشرا، و لكنه قد يوحي بالمباشر. بين هاتين المسافتين أرى قصيدتي قائمة التجوال، و لكن هذا يظل كلاما عاما لأن الاحتكام أخيرا إلى النص في شكله الأخير بعد طبعه و نشره و بعد أن يصبح ملكا للآخر (المتلقي/القارئ)، الذي له الحق في أن يكتشف و يحكم إن كان هناك تطور أو قضايا ثابتة أو تغيرات نوعية.
العقل النقدي العربي مستقيل عن ممارسة وظيفته
- س: هل سبق للنقد، حسب ما قاله ذات يوم الشاعر محمود درويش، أن ظلم الشعر فعلا؟
أحمد دحبور: توجد مفارقة قائمة بين النقد و الإبداع، خاصة في بلادنا حيث أن نقطة ضعف الكتابة الثقافية العربية هي النقد التطبيقي. ربما المغاربة هم أفضل من يكتبون في النقد و على المستوى التطبيقي، بمعنى أن تمسك برواية أو قصيدة، و تستنطق و تفكك عناصرها و تستخلص أحد مستويات وجودها.. فلا تزال المكتبة العربية فقيرة في هذا المجال، و لذلك غالبا ما يميل الناقد إلى إعادة إنتاج نفسه.. أذكر عندما صدر ديواني في مجلد سبع مجموعات عام 1988، أتى شاعر مفروض أنه حديث و متطور، و قال أن هذه القصائد تبتز بكلمة فلسطين من الغلاف إلى الغلاف، علما أن هناك مجموعتين من سبع مجموعات على الأقل، لم تكن ترد فيها كلمة فلسطين و لو مرة واحدة، و لكن مرة أخرى عندما كانت ترد فلسطين، لم تكن ترد لأسباب ابتزازية.. و لما أقول أنا فلسطيني، كأنما أقول أنا إنسان لي علاقة بالشيء الحميمي الخاص بي، و لذلك، مع الأسف، العقل النقدي مستقيل أو هو مضرب عن ممارسة دوره، و أحيانا يشعر بعض الشعراء الكبار الذين رسخت تجربتهم الشعرية و تعممت قصائدهم، بأنهم غير معروفين.. و يمكن أن يكون هناك من طبل و زمر لهذا الشاعر حتى أضجر الناس، و لكنك عندما تبحث في هذا التطبيل و الزمير، تجده لم يلامس جوهر السؤال الشعري، و هذه مشكلة عامة تمس، بهذا القدر أو ذاك، أشكال الإبداع العربي.