صحافة البحث

سعد الدين العثماني: إسلامي نصف علماني؟

- الإعلانات -

 مع تزايد أسلمة النقاش العمومي في البلدان العربية، كثر استخدام سيرة الرسول كوسيلة جدال للدفاع عن مواقف متباينة، على الصعيد السياسي خاصة. 

 أمام هذه الفوضى، وضع سعد الدين العثماني – الأمين العام  لحزب العدالة والتنمية المغربي – كتيبا عنوانه “تصرفات الرسول بالإمامة” بغرض إغناء ثقافة المشتغلين بالدعوة والنهضة الإسلاميتين ودرء – ما سماه – تزايد مخاطر سوء فهم الدين وتجاوز الجمود والحرفية في التعامل مع النصوص لرفع الحرج عن المسلمين.

يقول العثماني إن تصرفات الرسول القولية والفعلية والتقريرية ليست واحدة بسبب اختلاف دواعي التصرف وأسبابه. ومن تلك الدواعي العادة والخبرة والمشورة و والحجة وكون الرسول بشرا. 

وقد فضل العثماني لفظ “التصرفات” على “السنة” لأن الأول أدق وهو يعني “عموم ما صدر منه صلى الله عليه وسلم من تدابير [وأمور عملية] من قول أو فعل أو تقرير سواء كانت للإقتداء أو لم تكن وسواء كانت من أمور الدين أو الدنيا”  واختار المؤلف التركيز على ما صدر عن الرسول بحكم الإمامة لأنه “على الرغم من أن وظيفة الرسول الأساس هي تبليغ الرسالة، إلا أنه مارس في الوقت نفسه قيادة المسلمين وإمامتهم السياسية، فاقتضى ذلك أن تكون له من مقام الإمامة تصرفات تختلف عن تصرفاته الصادرة عنه بحكم النبوة والرسالة”.

يركز العثماني على الجانب السياسي إذن. وقد قسم التصرفات من حيث إلزاميتها التشريعية إلى تصرفات بالتشريع العام وتصرفات بالتشريع الخاص.

  1. التصرفات العامة بالتشريع

وهي تشمل من جهة أولى تبليغ النص القرآني وما يليه في منزلة الوحي. وتشمل من جهة ثانية التصرفات بالفتيا وفيها يترجم الرسول عن الله فيما وجده في الأدلة، ورغم أن الفتوى حالات خاصة فإنها تعمم “لأن حكم الشريعة يثبت بقول الشارع لا بسؤال السائل” ص25.

وهذه تصرفات ملزمة لا تناقش وهي من عند الله ولا دخل للرسول في محتواها.

  • التصرفات بالتشريع الخاص

والأساسي فيها حسب العثماني هو أنها غير قابلة للتعميم، ومنها:

  • تصرفات بالقضاء وهي تخضع للقاعدة القانونية المطبقة ولثبات الوقائع المعروضة.
  • تصرفات خاصة تجاه حالات لا تقبل التعميم مثل إجازة لبس الحرير لمن به علة.
  • تصرفات غير تشريعية ويدخل فيها الأصوليون هواجس النفس والحركات البشرية كتصرف الأعضاء، وفيها الأكل والشرب والتجارة والزواج والصناعة وهي تخضع لتجارب الناس ومعارفهم وهم أعلم بأمور دنياهم…
  • التصرفات بالإمامة، وهي بيت القصيد في الكتيب ككل، يقول العثماني “وهي تصرفات منه صلى الله عليه وسلم بوصفه إماما للمسلمين ورئيسا للدولة، يدبر شؤونها بما يحقق المصالح، ويدرأ المفاسد، ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية في المجتمع” ص29 وقد أورد الزعيم الإسلامي هذه التصرفات في باب ما هو غير ملزم في السنة.

وهذا مدخل عظيم يرفع الحرج ويوفر للإسلاميين المعتدلين باب مناورة ممتاز في وجه الاتجاهات المشددة التي هاجمها العثماني قائلا “لقد أصاب التعامل مع الأحاديث النبوية لدى بعض الاتجاهات نوع من عمى الألوان. فلم تكن تفهم أقواله وأفعاله إلا على طريقة واحدة… ولم تعتبر كون كثير من التصرفات النبوية تستجد بحسب النوازل والظروف… كما أنها لا تهتم بمقاصد التصرفات النبوية… وعندما يغيب كل هذا، تصبح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبادئ وأحكاما مجردة، لا علاقة لها بواقع يتحرك، ولا ببشر يتدافع، ولا بطوارئ تستجد” ص43.  

واضح أن لهذا المبحث الذي يناقشه العثماني أهمية كبيرة، وستكون له تطبيقات سياسية مهمة، لأن الكثير من الأحاديث النبوية، تستخدم كقواعد تشريع عامة في قضايا هامشية، وتترتب عنها معارك ضخمة،  يقول العثماني “أدت قلة العناية بموضوع تنوع التصرفات النبوية إلى تكريس نوع من الحرفية والظاهرية في التعامل مع السنة” ص46

يظهر من هذا الطرح، الفصل بين الجانب العقدي الثابت والجانب السياسي النسبي، باعتباره أمر اجتهادي مرتبط بالمصلحة العامة وقابل للمراجعة ص57 والدليل على ذلك أن الصحابة راجعوا أو اقترحوا أو أوّلوا بعض تصرفات الرسول، بل إن الخلفاء الراشدين غيروا بعض تصرفاته بعد وفاته، سرد الكاتب بعض الأمثلة واستخلص “أن الخلفاء فهموا أن هناك ارتباطا بين التصرف النبوي وظروف المجتمع الإسلامي، فغيروا التصرف لتغير المعاني التي أملته. ولا شك أنهم اعتبروه تصرفا منه صلى الله عليه وسلم بالإمامة وليس حكما شرعيا عاما مؤبدا” ص59 وبناء عليه فالتصرفات السياسية للرسول، باعتباره قائدا سياسيا، ليست تشريعا عاما مطلقا، بل هي “ترجع إلى الإمام حسب المصلحة” وقد فسر العثماني موقف من يخالف هذا الحكم بأنه ناتج عن لبس في الاصطلاح، حين يعتبر الأمر بالتنفيذ تشريعا، وليس الأمر كذلك، ويعزز الكاتب خلاصته بإعادة الاستشهاد بقول الرسول “إن كان من أمر دينكم فإلي، وإن كان من أمر دنياكم فشأنكم” وبتوظيف هذا التمييز يصل العثماني إلى أن الدين وحي والدنيا رأي واجتهاد محض للرسول، بدليل أنه كان يشاور صحابته في الأمور السياسية، ولو كانت شرعا لما تشاور فيها، ومعلوم أن الاجتهاد غير ملزم، وعليه فتصرفات الرسول بالإمامة غير ملزمة لأي جهة تشريعية أو تنفيذية بعده. وهذا التمييز ممتاز لمعالجة الانحرافات التي تحْدث لدى الإسلاميين الذين يستغلون أحاديث الرسول للتضييق على نمط الحياة المتبرجز، يقول العثماني “ومن الأخطاء الشائعة في فهم النصوص النبوية اعتبار تصرفات جزئية بحكم الإمامة شرعا عاما للأمة، وهذا باب واسع للجمود والغلو في فهم الدين” ص73. ومصدر خطورة أصحاب الجمود أنهم يقصرون الممارسة الإسلامية الحقة على أنفسهم ويطردون كل من لا “يجمد” معهم عن دائرة الإسلاميين، وهذا يضعف الإسلاميين المعتدلين الذين يحتاجون قراءة جديدة للنص الديني لتوسيع هامش التصرف أمامهم.

 والواضح أن كتيب العثماني جاء لفتح باب الاعتدال وتسبيق المقاصد على المظاهر. يقول إن تصرفات الرسول بالإمامة، مرتبطة بمقاصد ظرفية، فهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها، لذا “على الأئمة وولاة الأمور بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يجمدوا عليها” ص65، لأن أوضاع شبه الجزيرة العربية في القرن السابع مختلفة عن أوضاع العالم الإسلامي في القرن الواحد والعشرين.

والفائدة من تقسيم تصرفات الرسول هي بلورة منهج سليم لفقه السنة “لمنع اختزال الدين في صورة تطبيقه الأولى… وفي المقابل فإنها تمكن من إغناء التجربة الإسلامية بأشكال متجددة من للتدين في مختلف الجوانب البشرية” ص85 وسيشمل هذا التجديد الفقه السياسي، إذ سيتوفر على أساس منهجي وصلب للعديد من القضايا المطروحة على الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، منها:

  1. إن التفرقة بين أنواع تصرفات الرسول يعتبر أساسا للفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
  2. تُبين سمات التصرفات النبوية بالإمامة أيضا أن الدولة الإسلامية دولة مدنية وليست دولة دينية، وهذا ينزع كل عصمة أو قداسة عن ممارسات الحكام وقراراتهم. فإذا لم يكن الرسول معصوما بصفته السياسية فكيف يكون الحكام المسلمين من بعده؟ ص96.
  3. تأكيد تاريخية التجربة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، والنظر إليها كنتاج بشري نسبي ولا يجب أن تتحول إلى جزء من الدين. 

بهذا التقسيم المنهجي بين الديني {المقدس} والنسبي {الدنيوي} في تصرفات الرسول، يكون سعد الدين العثماني قد أعاد قراءة السنة لزيادة هامش الممارسة السياسية للإسلاميين، صحيح أنه لم يصل إلى قاعدة “ما لله لله وما لقيصر لقيصر”، لكنه بات قريبا منها بحس براغماتي يمهد لتحقيق مكاسب مختلفة:

  1. جعل العثماني تصرفات الرسول البشرية غير تشريعية وبالتالي غير ملزمة، ومن الآن فصاعدا لن تقتصر “الإسلاموية” على من قلد لباس الرسول ولحيته وصار أفغانيا، أي يمكن للإنسان أن يكون إسلاميا بربطة عنق وبذلة مصممة في باريس.
  2. سيتمكن المسلمون الأصوليون من الاستفادة من ثمار العصر بفضل التجديد الديني، سينتقدون الحكام دون أن يتهموا بعصيان أولي الأمر.
  3. سيتمكن الإسلاميون من الرد على خصومهم العلمانيين الذين يتهمونهم بالجمود والتحجر ومعاداة الديمقراطية. فحسب العثماني دولة الإسلام ليست دينية وفيها فصل للسلطات…
  4. بجعل العثماني ممارسة الرسول للقيادة السياسية أمرا نسبيا، وهذا ما يفتح الباب واسعا أمام الإسلاميين المعتدلين، لتبني أشكال الحكم الحديثة وليكونوا إسلاميين وديمقراطيين.  

تخريجة زعيم حزب العدالة والتنمية لحل أزمة الفكر السياسي الإسلامي مفيدة، بقي عليه أولا أن يقنع إخوانه في الحركة الإسلامية بأن التصرفات السياسية للرسول غير تشريعية. وعليه ثانيا أن يقنع خصومه بأن الإسلاميين لا يعتبرون السياسة جزءا من المقدس، وبالتالي يمكن أن يصيروا نصف علمانيين.