- الإعلانات -
ذاكرة إعلامية هي نافذة يطل من خلالها قراء موقع “موبريس” على أعمال صحفية ذات قيمة فكرية، أدبية، فنية و سياسية سبق للصحفي المصطفى روض أن أنجزها و نشرها في مجلتي “الحرية” و “الفكر الديمقراطي” الفلسطينيتين و منابر أخرى بالمشرق و صحيفة أنوال بالمغرب. و ستكون البداية مع الحوارات في محور السينما ستتلوه محاور الشعر، المسرح، النقد الأدبي والسياسة و الفكر.
استكملت ملامح الوضع العربي بعد أزمة الخليج و انهيار المنظومة الاشتراكية و خضوع الأنظمة العربية للإرادة الدولية – بما فيها إرادة أميركا – التي تدرجت في خطوات جادة نحو تشكيل نظامها العالمي الجديد و الذي يعلو، بقوانينه المجحفة و إجراءاته الزجرية، فوق الجميع.
والقضايا الكبرى التي أصبح يطرحها الوضع العربي الراهن، بقدر ما تؤرق الفكر العربي، تتطلب منه أن يتمثلها نقديا بالقدر الكافي و المطلوب.
حول هذه القضايا الإشكالية الكبرى، حاورنا المفكر المصري حسن حنفي خلال زيارته للمغرب للمشاركة في المهرجان الثقافي بأصيلة. و معلوم أن حنفي قد اشتهر بدعوته العريبة لإقامة ما يسمى “اليسار الإسلامي”. الحوار تم نشره في صحيفة “أنوال” المغربية و مجلة “راية الاستقلال” الفلسطينية سنة 1992.
- كيف تبدو لك الآن وضعية الفكر العربي و بماذا يتميز راهنا من خصائص؟
حسن حنفي: الفكر العربي الذي بدأ منذ مائتي عام – و نحن الجيل الخامس أو السادس منه – في حالة من التوقف التام. منذ أكثر من مائتي عام، كانت هناك روافد واضحة: الإصلاح الديني عند الأفغاني، و الليبرالية عند الطهطاوي و خير الدين التونسي، و الفكر العلمي عند شبلي شميل و فرح أنطون في مصر و الشام. و كانت الاختيارات واضحة، البعض يقول: الواقع يتغير لو أعدنا النظر في فهمنا للدين كما تفعل الحركة الإصلاحية. و فريق ثاني يقول: لا بد من إعادة بناء الدولة و التفكير في الدولة و الفصل بين السلطات كما فعل الطهطاوي و خير الدين التونسي. و فريق ثالث يرى أن لا حل لنا إلا بالعلم و التفكير العلمي و إقامة المجتمع المدني و الدولة العصرية، و التجربة الأوروبية هي النموذج. كانت بدايات واضحة و اختيارات واضحة. و كل تيار أنتج مفكرين يدعمون هذا التيار. الذي حدث هو أن كل جيل أتى بعد ذلك دفع هذه التيارات للوراء و ليس للأمام. محمد عبده أقل من الأفغاني بعد فشل الثورة العرابية عام 1882، رشيد رضى أقل من محمد عبده بعد الثورة الكمالية في تركيا عام 1924، الجماعات الإسلامية الحالية أقل بكثير من رشيد رضى لأنها لم يعد لها من الفكر شيء.
نفس الشيء حدث للتيار الليبرالي. قارن مثلا، بين خير الدين التونسي و حزب الدستور الجديد في تونس، بين الطهطاوي في مصر و تلاه: لطفي السيد و طه حسين و العقاد و حزب الوفد الجديد. و إذا أخذنا التيار العلماني و قارنا بين شبلي شميل و سلامة موسى و فرح أنوطون و إسماعيل مظهر لوجدنا، أيضا، بداية التراجع عن الفكر العلمي و مزاوجة بين الفكر العلمي و الفكر الديني كما حدث لإسماعيل مظهر الذي يكتب في أصل الأنواع، و في نفس الوقت، يكتب في الإسلام، مثل زكي نجيب محمود الذي يكتب في الوضعية المنطقية، و في نفس الوقت، يحاول أن يعيد النظر في قيم التراث على أساس أن الفكر الوضعي تحليلي.
كبوة الإصلاح
هذه إذن، ظاهرة أسميها ظاهرة كبوة الإصلاح: إن البدايات غير النهايات، ما يعني أن النهايات قد انقلبت نهائيا على البدايات، الأحداث تشتد و الفكر يضعف، و حتى أحداث الخليج الأخيرة – هذا الزلزال الذي هز الكيان العربي- أتى و الفكر العربي في أضعف حالاته، و النظم العربية المعاصرة في أضعف حالاتها، فلم تستطع احتواء الحدث.
الناصرية أجهضت من داخلها بعد اختفاء عبد الناصر. الفكر القومي أجهض من داخله بالانشقاق بين سورية و العراق، و ثم اجتياح العراق للكويت. الفكر الليبرالي أجهض من داخله لأن البنية السياسية و الاجتماعية و الثقافية في العالم العربي، في رافدها الأساسي، غير ليبرالية. إذن، الفكر العربي المعاصر، راهنا، تجاوزته الأحداث، التي يترتب لها بدون العرب. لماذا هذان الخطان متعارضان: فكر عربي يتهاوى و واقع يتأزم و يشتد؟
وصلنا إلى حالتنا الراهنة، لأننا نتعامل مع الواقع بمفاهيم غير مطابقة له، أدواتنا الفكرية التحليلية، التي من خلالها نرى العالم، ليست بنفس الدرجة من التحدي و الأهمية و الفاعلية للواقع الذي نحاول أن نفهمه، أعطي نموذجا في قضيتنا الرئيسية و هي قضية فلسطين، مازالت الأرض بالنسبة لنا، ليست مفهومة نظريا. يوجد مفهوم الجهاد، لكن مفهوم الجهاد مفهوم واسع و فضفاض يطبق على كل شيء و على لا شيء، و هو مجرد تحميس للناس. لكن هل يوجد في فكرنا مفهوم الأرض كما هو الشأن في الفكر الصهيوني الذي لديه مفهوم واضح للأرض؟ “إن الله أعطاهم الأرض…” و “أرض الميعاد” إلخ.
في قضية الحريات العامة، سجوننا ملأى، و نعاني جميعا، من غياب الحريات و الديمقراطية… فهل بحثنا في الفكر العربي المعاصر عن مفهوم للحرية؟ ليس الذي يقيد الحرية هو القوانين المحددة للحرية و التي تمنع حرية الصحف و تحد من حرية التعبير، و إنما هي أشياء ظاهرية أصدرتها و قدرتها النظم الحاكمة اعتمادا على موروث ثقافي ضخم يقلل من حرية الإنسان. وجد الإنسان عاجزا في أن يقرر بنفسه: “القضاء و القدر”، “الحاكم هو الذي يقرر”، و أن “الحق واحد و ليس متعددا”، و أن “العقل قاصر يحتاج إلى هداية خارجية”، و أن “الإنسان ضعيف زائل”. فكيف تستطيع أن تقاوم القهر و أن تدخل معارك الحرية، و مفهوم الحرية نفسه، لم يتبلور في الفكر العربي؟ نفس الشيء، بالنسبة للعقل العربي. مثلا، نحن ندافع عن العقلانية، و ندعو إلى العقلانية و الاستنارة، نأسى من تغلغل الخرافة في حياتنا، لكن هل العقل موجود لدينا؟ الذي يحلل الثقافة العربية يجد أن فكرة الوحي هي الموجودة: التقبل من معطى خارجي، الهداية، الوصايا. نحن ننتظر باستمرار الهداية، النور الرباني و الفرح الإلهي، و الكشف الصوفي. إن قضية رئيسية، كقضية التنمية فشلنا فيها، الغذاء في مصر يعتمد 70 في المائة منه على الخارج. لماذا لم نستطع أن ننمي الموارد؟ لماذا نعتمد في كسائنا و غذائنا و سلامنا و ثقافتنا على الآخر و ليس على الذات؟ و طالما أنك تعتمد على الآخر فإرادتك مرتهنة، و ليست مستقلة! هل استعان الفكر العربي المعاصر بمفهوم التنمية المستقلة، بمفهوم الطبيعة التي تخضع للقانون، بمفهوم أن الإنسان سيد الطبيعة، بمفهوم القدرة على التعامل مع الطبيعة و التنبؤ بقوانينها؟ مازال الإنسان غير مرتبط بالطبيعة؛ مازالت الطبيعة فانية، أتت من لا شيء و تنتهي إلى لا شيء. كيف تنشأ تنمية مستقلة في تصور للعالم يجعل الظواهر و الموجودات و كل شيء في العالم يعتمد على إرادة خارجية؟ أقول إذن: هذه هي القضية الرئيسية. إننا نواجه تحديات رئيسية، والفكر العربي المعاصر ذهنيا وثقافيا ومفاهيميا لم يستعد لكي يواكب الواقع و يدخل الأحداث، فيحاول أن يقطع جبلا بشفرة، يحاول أن يجفف محيطا بكوز ماء، يحاول أن يدخل جملا من ثقب إبرة و ذلك مستحيل!
الأزمة في الواقع أم في الفكر؟
- هناك من يقول بأن الأزمة موجودة أصلا في الواقع و ليست في الفكر، إلى أي حد يصح أو لا يصح مثل هذا الكلام؟
حسن حنفي: الواقع ليست به أزمات. الواقع واقع، يحتاج إلى تشخيص، و التشخيص هو الذي يقوم به الذهن. الواقع مادة خام، معطى أمامك، الذهن هو الذي يصف و يشخص و يدرك و يفهم مكونات الواقع. إن الحلول و تشخيص الأزمات إنما هي رؤى ذهنية، و بالتالي إذا ما شعر العربي أنه عاجز عن فهم الأحداث، فإن ذلك لا يرجع إلى الواقع، بل يرجع إلى الذهن، ربما تقول هذه مثالية، و لكنها مثالية أقرب إلى ما يحدث في الواقع منها إلى المثالية المجردة.
- فيما ذكرته من ترتيب البيت العربي من الخارج، و يبدو ذلك جليا بعد أزمة الخليج، كيف للفكر العربي أن يواجه هذا الترتيب و أن يواجه ما ترتب عن أزمة الخليج ككل؟
حسن حنفي: أظن أن الخطأ الرئيسي كان في أن الفكر العربي بدأ بوضع ما ينبغي أن يكون دون أن يبحث و يحلل ويصف و يعرف ما هو كائن. و هذا، يدل على العجز، لأنه ما أسهل أن تعطي مواعظ و خطبا و إرشادات، و ما أصعب أن تعطي خطابات تقريرية.
إذا أتاك مريض ما أسهل أن تقول له بالشفاء إن شاء الله، و ما أصعب أن تقول له: “أي داء لديه و أي علاج تقترحه”. العبارات الإنشائية لدينا منها بالأطنان، و العبارات الخبرية ليس لدينا منها أي شيء.
دخلنا العصر بالإنشائيات، تتراكم الأزمات و الخطابات لا تفعل شيئا. خذ مثلا، الإيديولوجيات السياسية الرئيسية، كلها “ما ينبغي أن تكون”، القومية: حرية، وحدة، اشتراكية؛ الليبيرالية: الحريات العامة و الفصل بين السلطات و الدستور و الأحزاب و حرية الصحافة و حرية التعليم… الماركسية: تكوين المجتمع اللاطبقي، الملكية العامة لوسائل الإنتاج… الإسلامية: الحكم لله، حكم الشريعة، حكم القانون، تكوين الدولة الإسلامية. كل هذه شعارات و إنشاءات و أمنيات، كل هذه “ما يجب أن يكون”. متى يستطيع الفكر العربي المعاصر أن يبدأ بالواقع و يحلله لكي يكشف طبيعة تكوينه، المرحلة التاريخية التي يعيشها، المكونات الرئيسية فيه، مساره…؟ الفكر ينزل إلى الواقع و ليس الواقع هو الذي يصعد إلى الفكر. لقد دخلنا حرب الخليج – فرضت علينا – في إطار من الشعارات الإسلامية و الليبرالية و القومية و الماركسية و بالتالي انتهت المرجعية الرئيسية خاصة بعد انقسام الإسلاميين فيما بينهم. البعض يرى أن الوقوف بجانب العراق باعتباره هدفا للاستعمار الأمريكي للقضاء على قوته العسكرية بهدف تحقيق حلم إسرائيل و أن الغرب هدفه من “تحرير الكويت” مجرد ذريعة لذلك، مع أن الغرب هو الذي أبدع و مارس الغزو في بناما و غرانادا و في قبرص…إلخ. و البعض الآن، الذي تربى في الكويت و عمل بها، رأى أن العراق يستحق هذا العقاب، فلا يجوز لدولة أن تحتل دولة أخرى، فانقسم الإسلاميون. أين النظرية الموحدة؟ أين الإطار المرجعي؟ أين الإسلام؟
و معلوم أن الإسلام تقسم على حافة الواقع و المصالح و الاختيارات. نفس الشيء بالنسبة للقوميين: كيف باسم القوميين، يهاجم بلد عربي بلدا عربيا آخر؟ انقسم القوميون فيما بينهم بالرغم من الغزو الأمريكي للعراق، و انقسم الإسلاميون فيما بينهم: البعض يرى وقوفه إلى جانب العراق هو الموقف الإسلامي، و البعض الآخر يقول بأن الإسلام يقف بجانب المعتدي. و بالتالي تبين أن هناك واقعة تتجاوز حدود و قدرات و إيديولوجيات الفكر العربي. لم يعد هناك شيء مرجعي في الذهن قادر على أن يحلل لك الأشياء. الناصرية انتهت، الأصولية تشرذمت، القومية وقعت في بعضها البعض (سوريا و العراق)، الليبرالية أيضا، البعض يدافع عن حرية الكويت و البعض الآخر يدافع عن حرية العراق.
أقول إذن، إن أحد الأسباب الرئيسية هو أن الفكر العربي المعاصر لم يحاول أن يحلل الواقع لمعرفة مكوناته؛ لم يحاول أن يجد ما هو موجود قبل أن يبني الجديد. الكل حاول أن يبني على أسس موروثة قديمة دون أن ينظف القواعد أولا. القوميون يريدونها دولة قومية واحدة دون أن يقضوا أولا على التجزئة. الإسلاميون يحاولون إقامة دولة إسلامية دون أن يقضوا أولا على الفقر و على المعوقات التي تمنع بناء دولة إسلامية. الماركسيون أيضا يحولون إقامة دولة بروليتارية دون أن يتمكنوا من القضاء على الطائفية و العشائرية و الطبقية و القبلية. الفكر العربي لم يبدأ بالفكر السالب، أي السلب الذي ينفي قبل أن يثبت، و الذي يصدم قبل أن يبني، و الذي ينقد قبل أن يضع و يصف. الغرب باستمرار يزهو علينا بأنه صاحب العقلية الناقدة. كانت لدينا عقلية ناقدة في السابق. أما الآن، نظرا للعجز العام، نسرع و نعطي و نصف ما يجب أن يكون. إذن الفكر العربي لا يستطيع أن يحلل و يصف ما هو كائن، و يستطيع الفكر السالب أن يقضي على المعوقات. فإذا ما تم الهدم، و إذا ما تم التنظيف، بعد ذلك فليبن من يشاء، بالضبط كالجراح التي قبل أن يبرأ الجرح لا بد أن ينظف مكان الجراثيم أولا لأنه إذا خاط الجرح و الميكروبات موجودة داخله لما بريء المريض.
نحن لا نريد أن نبني بيوتا من ورق، حاولنا ذلك فقامت الناصرية و انهارت، قام الحكم الإسلامي و انهار، قام الماركسيون في اليمن و اقتتلوا على حدود القبيلة، لأنه لم يحاول أحد تغيير و تنظيف البيت من الداخل حتى يستطيع العالم العربي الجديد أن ينشأ.
إن مهمة الفكر العربي هي تثبيت البيت من الداخل و نزع الجذور الفاسدة و هدم البقايا الموروثة حتى يستطيع أن يبني من يشاء.
- لماذا الفكر العربي المعاصر مازال يعاني من هذه الاستمرارية في العجز عن تمثل واقعه الاجتماعي و السياسي و الثقافي؟
حسن حنفي: ما زال المنهج الغالب على الفكر العربي المعاصر في عموميته هو مذهب النقل. النقل عن القدماء أو النقل عن الغربيين: قال ابن تيمية أو قال ماركس، قال الشافعي أو قال جان ستيوارت ميل، قال أبو حنيفة أو قال جان بول سارتر… و بالرغم من اختلاف المصادر. هذا ينقل عن الموروث، و ذاك ينقل عن الوافد، لأن العقلية التي تتعامل مع الفكر هي نفس العقلية: عقلية النقل، نقل النظريات: إسلامية و غربية، ثم تكييف الواقع طبقا لهذه النظريات. و لما كان الواقع له مكوناته و بنياته الخاصة، فإنه يستعصي أن يدخل في الإبداع الذاتي… يقرأ كل شيء هنا و هناك، لكن عندما يأتي ليفهم الواقع يحاول أن يتكيف معه و يحاول أن يبدع حلولا جديدة و يقرأ الواقع قراءة مباشرة دون أن يضع منظارا إسلاميا، قوميا، ليبراليا، ماركسيا. إذا استطاع الفكر العربي أن يتعامل مع الواقع مباشرة، دون أن يتوسط بينه و بين الواقع نص، استطاع الفكر العربي أن يحول الواقع إلى نص جديد، أن ينظر الواقع تنظيرا مباشرا. هنا يستطيع الفكر العربي أن يتجاوز أزمة النقل إلى الإبداع، و بالتالي يستطيع الفكر العربي أن يبدع أشياء جديدة، أن يكيف نفسه طبقا للواقع، أن يكشف مساره، أن يبدع تراثا جديدا لا هو تراث القدماء و لا هو تراث المحدثين.
النقل والعقل
- ثمة مقولة للمعتزلة تقول إنه “إذا تعارض العقل و النقل وجب إتباع العقل”، لكن كيف نؤسس لعقل عربي قادر على الإبداع و النهوض بمكانة الأمة العربية؟
حسن حنفي: العقل بمفهوم القدماء له معنى واسع جدا، يشمل الوجدان، التجارب الداخلية، شهادة الحس، و مجرى العادات؛ يشمل العلم النظري و العلم الفطري؛ و يشمل العلم الاستدلالي الكسبي، و يشمل الطبيعي. إذن، إن العقل عند القدماء هو التجربة الإنسانية و هي حجج يقينية. عندما أقول هذا قلم و أدركه بحسي، فإنه لا يكون إلا قلما و ليس ثعبانا، لأنه جرت العادة على أن القلم يظل قلما و أنا سالم الحواس. واحد زائد واحد يساوي اثنين. هذا حكم عقلي نظري. أما الاعتماد على النصوص: قال فلان… و قال فلان… و قال الله… و قال الرسول… فإن هذه الحجج النصية، النقلية، هي حجج ظنية، لأنها مرتبطة بأسباب النزول، بالناسخ و المنسوخ، بالتقديم و التأخير، هل هذا الكلام محكم أم متشابه، حقيقة أم مجاز، ظاهر أم مسؤول، مطلق أم مقيد، هل أنا أخذت النص و انتزعته من سياقه؟ و بالتالي تظل كل هذه الحجج النقلية، ظنية، في حين أن الحجج العقلية يقينية. و قال القدماء إن كل الحجج النقلية حتى لو تضافرت و لو اجتمعت و توارت لإثبات شيء على أنه صحيح، ما أثبت و لظل ظنيا، و لا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية، و لو واحدة. فالقدماء اعتزوا بشأن العقل، و العقل هو أحد مصادر الاجتهاد. لكن للأسف، منذ الحروب الصليبية حتى الآن، منذ الغزالي و الأشعري، لم يكن اختيار المعتزلة هو الاختيار الوحيد، بل تم نقد المعتزلة و تجريحهم و تجريح الفلاسفة و تكفيرهم، و اختيار الأشعري هو الذي تم: النقل أساس العقل، الاختيار الصوفي… فازدوجت الأشعرية و التصوف، و ما زلنا الآن نصارع من أجل استجلاب عقلية نافذة، سواء من المعتزلة القدماء أو من الديكارتية و السبينوزية الحديثة. لكن يظل الوعي القومي العام، منذ ألف عام حتى الآن، أن النقل هو أساس العقل.
- هناك إشكالية كبرى بدأت تواجه الفكر العربي المعاصر و هي إشكالية القوى الأصولية في الوطن العربي. كيف تنظرون إلى قيام هذه القوى في الساحة العربية في السنوات الأخيرة؟
حسن حنفي: القوى الأصولية نشأت في الحقيقة نظرا لانحسار الإيديولوجيات العلمانية في تحديث المجتمعات العربية: قومية، اشتراكية، ناصرية و ليبرالية. بعد انهيار التجربة الناصرية و بعد الخلل الذي أصاب الفكر القومي، لم يجد الناس أمامهم إلا الفكر الإسلامي الذي يعتمد على شرعية القدماء و الموروث كمخزون نفسي في قلوب الناس.
لماذا لم تظهر الأصولية في الخمسينات و الستينات عندما كان العالم العربي مجندا في هدف قومي واحد ضد الاستعمار؟ لكن في الوقت الذي بدأت فيه الناصرية تضرب من الداخل، و بدأت فيه الأزمات تظهر و لا يوجد بديل آخر، بدأ الناس يذهبون إلى الإسلام فرارا من البدائل الأخرى. فمن خلال العلمانية الحديثة ازدادت رقعة الاحتلال، و ازداد القهر للحريات العامة، و ازدادت عوامل التجزئة، و زاد اعتمادنا على الخارج، وزاد التغريب في قلوب الناس. الجماهير بدأت تنأى بنفسها على هذه التيارات، فجاءت الجماعات الإسلامية التي خرجت من سجون المعتقلات و أصبحت الساحة خالية لها لتجنيد الناس. و هم نشطون مثل الماركسيين، يعملون و ينجحون في تجنيد الناس… و ربما قيام الثورة الإسلامية في إيران أعطى لهم مزيدا من القوة و الثقة بالنفس على أن الإسلام كإيديولوجية تعبر عن الهوية الوطنية و أن هناك قيادة دينية لا تساوم على الثورة، فنجحت الثورة الإسلامية في إيران. ربما كان احتقار الغرب لنا و صورة الإسلام في الكتابات الأوروبية – سواء الاستشراق أو العلوم الإنسانية – التي ما زالت ترى أننا متخلفون و جاهلون… كل ذلك ولد عند الحركات الأصولية نوعا من الرفض للغرب و الرفض للعلمانية و الرغبة في العودة إلى العالم الإسلامي. إنما المهم أنه في غياب بديل آخر لا حيلة أمام الناس إلا الإسلام. و بما أن الإسلام هو خريج السجون، مطارد من مجلس الأمن و المشايخ و فقهاء السلطان، فلقد فضل الناس اختيار هؤلاء الإسلاميين، نظرا لأن هناك عداء طبيعيا مكنونا في القلب ضد النظام الحاكم الذي جعل الناس جوعى بدون مأوى و بلا كساء.
- ومع ذلك ثمة مخاوف كبيرة لدى القوى القومية و اليسارية، من الحركة الأصولية؟
حسن حنفي: في الأردن لا توجد مخاوف، بحيث كانت هناك انتخابات حرة دخلها الإسلاميون و القوميون و الماركسيون و الليبراليون. و نفس الشيء حصل في اليمن. إن الحركة تقبل النظام الديمقراطي رغم أنها كانت في الماضي تريد الوصول إلى الحكم عن طريق الانقلابات و الحركات السرية. الآن لا حيلة لنا إلا بالديمقراطية و الاختيار الحر، فليقولوا لنا ما هو برنامجهم، و إذا كان أصلح للناس من برنامج الماركسيين و القوميين و الليبراليين أخذه الناس. المهم أن تضمن حرية الانتخابات، و حياد السلطات القائمة، و ضمان وجود برامج و حوار حولها، و عدم تكفير و عدم تخوين أحد، و الإيمان بنوع من التعددية الفكرية. و كما قال الفقهاء القدماء: “الحق العملي واحد”. الاتفاق على مصالح الناس ممكن! و لكن “الحق النظري متعدد”، لأن كل فقه قد يستنبط
و يستدل بإطار مرجعي مخالف كما كان الشافعي يفعل عندما يستدل في العراق بطريقة و يستدل في مصر بطريقة أخرى. الحق العملي واحد و هو تحقيق مصالح الناس، و الحق النظري متعدد في الوقت الذي نؤمن فيه بالتعددية الفكرية و استحالة جمع الناس في إطار نظري واحد، و في نفس الوقت الاتفاق على مشروع وطني واحد بين القوى كلها، تستطيع حينها أن تسير في إطارها الصحيح.
التعصب ليس بنية ذهنية
- ولكن هذا الطرح يبدو بعيدا عن التحقق في الواقع الراهن لأن الحركة الأصولية ما زالت تعاني من التعصب و الانغلاق؟
حسن حنفي: لكن في الوقت الذي تسود فيه الحرية تظهر الأحزاب في كل العالم الإسلامي و بالتالي التعصب يخف. و التعصب ليس بنية ذهنية، و لكنه تعبير عن ظروف اجتماعية و سياسية. تجد بعض القوميين متعصبين، و بعض الليبراليين متعصبين، الماركسيون أيضا مشهورون بالتعصب القوي. لكن في الوقت الذي يشعر فيه الجميع بأن هذا الوطن للجميع و أنهم ينتسبون إلى وطن واحد، تخف حدة التعصب، و في الوقت الذي يؤمنون فيه بأن الديمقراطية هي السبيل إلى نجاتنا، الكل يقبل العمل في إطار برامج وطنية يتركون للناس حرية الاختيار بين أفضلها.
- هل تعتقد أنه بالإمكان مستقبلا قيام تحالف يجمع القوى الإسلامية و القومية و الماركسية؟
حسن حنفي: في رأيي ممكن. و هذا ما أعمل من أجله منذ عدة سنوات عندما أنشأت منبر اليسار الإسلامي، لأن الوضع الحالي هو ضد القتال و الاقتتال بين الأخوة / الأعداء. هناك شرعيتان تصطدمان: شرعية الإسلام و شرعية الثورة، شرعية الماضي و شرعية الحاضر، شرعية التراث و شرعية العصر. و تأكد أن الصدام بين هاتين الشرعيتين إنما هو من أجل السلطة. كل منهما يريد أن يستأثر بالحكم، و كأنني أقول لك: أأنت بدن أم نفس؟ فريق يقول لك أنت نفس! و فريق آخر يقول لك أنت بدن! و لكن أنت نفس و بدن! كما قلت في كتابي الأخير “من العقيدة إلى الثورة”، و بالتالي هناك خلاف في المنهج و في اللغة. الحركة الإسلامية تعرف كيف تقول لأنها تستخدم للناس لغة الإسلام و مفاهيمه و لكنها لا تعرف ماذا تقول و ما هو المضمون. و الحركة العلمانية تعرف ماذا تقول، تقدم للناس الحرية و العدالة و الوحدة، و لكنها لا تعرف كيف تقول، تقدم لغة ماركس و لغة ميشيل عفلق و الناس لا تعرف لا هذا و لا ذاك.
الخطاب الثالث الذي أسميه اليسار الإسلامي يحاول أن يقدم للناس خطابا يعرف كيف يقول، أي الخطاب الإسلامي، و يعرف ماذا يقول، أي المضمون الاجتماعي و السياسي الذي يعبر عن مطالب العصر. لا حيلة لنا إلا بالاجتماع: القوميون و الإسلاميون كأكبر قوتين منظمتين في العالم العربي: بن بله كان يمثل ذلك باستمرار، علال الفاسي كان يمثل ذلك باستمرار، عبد الحميد بن باديس هو الآخر… كل الحركات الإصلاحية السلفية كانت تجمع بين الإسلام و الوطنية. الأفغاني هو الذي وضع شعار “مصر للمصريين”، محمد عبده هو الذي وضع برناج الحزب الوطني. ما يميزنا نحن في الجامعة الإفريقية هو أن الإسلامي و الوطني شيء واحد، القومي لم يتدخل بينهما كما حدث في الشام نظرا لوجود نصارى الشام، و بالتالي المستقبل بالفعل هو التوحيد بين الشرعيتين.