- الإعلانات -
كانت السنوات العشر الأخيرة بعد انطلاق حركة 20 فبراير سنة 2011 مليئة بالديناميات المجتمعية، التي أخذت أشكالا مختلفة، سواء عبر المسيرات والاحتجاجات وكذلك عبر الديناميات الثقافية والفنية، وشمل ذلك أيضا أشكالا احتجاجية لحظية عن قضايا هامة مثل قضية دانييل كالفن، ميزانية القصر، موتى مكة، لحظات النقاش حول الحريات الفردية تزامنا مع اعتقال الصحفية هاجر الريسوني وبعد ذلك حملة STOP 490.. كانت هناك ديناميات أخذت أشكالا مختلفة سواء عبر النزول للشارع للاحتجاج أو من خلال تعبيرات ثقافية وفنية أخرى وكذلك الاحتجاج عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي كان يحسم بعض النقاشات العامة: مثل التعديلات التي طرحت حول القانون الجنائي، الاجهاض، الحريات، محاولة تمرير قانون فرض الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي.. نقاشات كثيرة كانت فيها مواقع التواصل الاجتماعي حاضرة ومؤثرة.
وعي الديناميات
طيلة هذه العشر سنوات لم يكن المجتمع المغربي جامدا، بل كان يتحرك والدينامية كانت دائما حاضرة وأحيانا كانت تتطور إلى حراكات كبيرة سواء جهوية أو مجالية، وحتى وطنية كحراك الريف، زاگورة، جرادة، ورزازات، طنجة.. و الآن الفنيدق.. وكانت هذه الحركات المجالية حاملة لمطالب اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، وفي بعض الأحيان كانت ترفع أيضا مطالب سياسية، كما برزت احتجاجات وطنية ذات طابع سياسي مثل الاحتجاجات حول الاعتقال السياسي، غلاء الأسعار، وأيضا الاحتجاجات بخصوص القضية الفلسطينية.
الشارع المغربي لم يكن هادئا وكذلك المواقع التواصل الاجتماعي، الديناميات الاجتماعية كذلك لم تجمد وبقيت تعمل طيلة العشر سنوات، وهذا يؤكد على أمرين أساسيين: أن مطالب حركة 20 فبراير لم يتم الاستجابة لها، وطالما هناك حاجة وخرق لحقوق الإنسان كانت توجد الدينامية، فاستمرار وجود هذه الأخيرة يدل على عدم الاستجابة للمطالب المرفوعة. المسألة الثانية هي أن حياة هذه الديناميات وسط المجتمع أثبت أن المغاربة أصبحوا متشبعين بوعي المطالبة بحقوقهم بشكل حضاري وسلمي وهذا عنوان عريض جدا يؤكد أن المجتمع المغربي يعبّر عن مطالبه بلغة السلمية والتفاوض الحضاري خارج الأنماط التقليدية.
الجواب الأمني والتضييق
واكب هذا الإيقاع العالي للديناميات، للأسف، تعامل الدولة من خلال المقاربة الأمنية. فمختلف أجوبة الدولة في تعاملها مع هذه الديناميات كانت مبنية على هذه المقاربة من خلال الاعتقالات التعسفية التي وصلت إلى حدود سنة 2016 لأزيد من 600 اعتقال حسب إحصائيات الجمعيات الحقوقية. كما سجلنا تضييقا وحصارا لحرية التعبير عبر متابعة مجموعة من الصحافيين والمدونين ومُغنيي الراب. كان ذلك مرفوقا باستعمال سلاح التشهير من قبل بعض المنابر الإعلامية تجاه بعض الأسماء المعارضة للسياسات العامة عبر المس بحياتها الشخصية ونشر المعطيات الخاصة بها إلى غير ذلك من الأساليب.
حاولت الدولة ما أمكن أن تنهج مقاربة القمع والحصار والتشهير في مواجهة المعارضين والأشخاص الذين انتقدوا السياسات بشكل عام لا وطنيا ولا دوليا، عوض أن تقدم جوابا بلغة التنمية والحوار والديمقراطية، وهذا يسائل وجود الإرادة السياسية من أجل التغيير ومن أجل الخيار الديمقراطي؟
في لحظة 20 فبراير 2011، رأينا اتجاه الدولة لتغيير الدستور عبر الخطاب الملكي في 9 مارس، وفي 13 مارس رأينا الجواب الأمني من خلال الهجوم الأمني على مقر حزب الاشتراكي الموحد بالدار البيضاء. أيضا شمل التضييق حتى الأفراد والتنظيمات التي رفضت الدستور بالدعوة لمقاطعة الاستفتاء وكذلك الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها سنة 2012، وللأسف كلتا لغة التضييق والمقاربة الأمنية جواب الدولة طيلة العشر سنوات وخصوصا من 2016 إلى اليوم.
معطى آخر واكب هذه المرحلة، هو عدم مواكبة الفاعل السياسي لهذه الديناميات التي برزت. فهذا الفاعل لم يستوعب، ولم يفهم هذه التحولات المجتمعية وهذا النوع من التعبيرات، فكانت الفجوة والفوارق كبيرة بين الديناميات المجتمعية والفاعل السياسي، حيث أن الأولى كانت أكثر تقدما في فهم واستيعاب التحولات المجتمعية من الفاعل السياسي الذي كان في كثير من الأحيان يعيش في جلباب الدولة يحتمي بها في وقت التحولات والأزمات الاجتماعية عوض أن يكون في طليعة هذه التغيرات.
في المقابل لم تجد الديناميات المجتمعية صوتا سياسيا معبرا عن قضاياها من داخل التنظيمات السياسية الموجودة، كما لم تستطع أيضا أن تفرز صوتا سياسيا يستطيع التعبير عنها سياسيا وأعتقد أن هذا هو مكمن الخلل الذي كان ينقصنا طيلة هذه العشرية. فهناك دينامية احتجاجية وفي المقابل هناك الدولة بمؤسساتها كاملة مع غلبة المؤسسة الأمنية في مجال تدبير كل الملفات السياسية، فبقي الصوت السياسي الذي يمكنه أن يبلور مطالب هذه الديناميات إلى عرض وأجندة سياسية غائبا.
دروس 20 فبراير
حركة 20 فبراير بالنسبة إلي مثلت مدرسة للتعلم والممارسة، لقنتنا مجموعة من القيم كتدبير الاختلاف وذلك من خلال استيعاب هذه الحركة للتعددية السياسية وكذلك تعددية الفئات المجتمعية بشكل عام. الدرس الذي كنا محظوظين بتعلمه داخل حركة 20 فبراير هو أننا لا يمكننا أن نبني الوطن بمفردنا بل هناك أُناس آخرين لا يشبهوننا بالمرة هم أيضا لهم غيرة على هذا الوطن، فهمنا أن التغيير يجب أن لا يكون بيد واحدة بل بإدماج جميع تيارات وشرائح المجتمع.
الدرس الثاني الذي تعلمناه من 20 فبراير هو الوعي بأن التغيير يجب أن يشارك فيه جميع الفاعلين: السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والحقوقي وغيرهم من أجل بناء منظومة الديمقراطية، شريطة أن يتمتع هؤلاء الفاعلون بالحد الأدنى من الديمقراطية وقبول الآخر والتعاطي والتفاعل مع التحولات الاجتماعية.
الدرس الآخر، الذي تعلمناه بعد 20 فبراير، هو أن فكرة الانقلابات وتغيير الأنظمة السياسية عرفت تحولا طيلة هذه السنوات، فمن خلال متابعة الثورات والثورات المضادة وكذلك المسارات الانتخاباتية والتراجع عنها، تعلمنا أن الحل في مواجهة الأنظمة السلطوية، ليس هو إسقاط الرؤوس أوتغيير أسماء الأنظمة، بل هو تفكيك العناصر والبنيات اللا ديمقراطية في المؤسسات، الثقافة، التفكير، السلوك.. بنية النظام السياسي هي التي يجب أن تفكك وتتم دمقرطتها.
في الحقيقة هذا ما يقودنا إلى نقاش من يحكم؟ وهل توجد فعلا دولة عميقة وهل مؤسسات الدولة ذات فعالية؟ هذا درس تعلمناه مع كل الحراكات الاحتجاجية التي عرفتها المنطقة طيلة هذه المدة من خلال محاولة فهم المفاتيح التي تكرس السلطوية والتي تقاوم أي محاولة لدمقرطة الدولة.
أما الدرس الذي أعتبره شخصيا، هو أن المناضل يجب أن يعتني بنفسه وبروحه لكي يستطيع أن يؤثر في الأشياء الأخرى وذلك بالاعتناء بالجانب المعرفي والأكاديمي والقيمي، وذلك من خلال قراءته للتجارب المختلفة و الكتب والمدارس التي ليست بالضرورة من المدرسة التي ينتمي إليها، فنتوسيع المعرفة تجعل من المناضل منفتحا أكثر وفهمه للوقائع يتجاوز أدلجة المواقف. كذلك تعلمت أن العلاقات الإنسانية لها دور كبير في التغيير، فعلى سبيل المثال في قضية العفو عن دانيال كالفن (الذي كان محكوما بتهم اغتصاب الأطفال) وجد وجوه حركة 20 فبراير نفسهم مرة أخرى جنبا إلى جنب في الشارع من أجل الاحتجاج وإدانة العفو عن مغتصب الأطفال هذا، يخافون على بعضهم البعض، متضامنون بينهم في مختلف المحطات الاحتجاجية ويتحدثون بلغة و روح 20 فبراير.
مخارج الانفراج
السياقات المختلفة، داخل المغرب وخارجه، من خلال وضع مختلف الحكومات لأجندات لا تضع حقوق الإنسان ضمن أولوياتها، وتركز على قضايا كالهجرة غير النظامية، الإرهاب، الاتجار بالبشر، الجرائم العابرة للحدود، تجعلنا نطرح سؤال: هل نريد الاستمرار في نفس محنى القمع والاضطهاد والقمع والتجويع، ونحن نرى اليوم خروج شرائح مجتمعية للاحتجاج بسبب غياب الماء (احتجاجات العطش)، أو سنحاول أن نجد مخارج للانتقال إلى وضعية أخرى.
المخارج الأساسية من هذا الوضع في رأيي تنحصر في خمسة مخارج:
المخرج السياسي من خلال الإفراج عن المعتقلين السياسيين، معتقلي الرأي، وإلغاء المتابعات القضائية التي يتعرض لها بعض النشطاء والصحافيين وهذا الانفراج السياسي شرط ضروري من أجل الانتقال إلى مرحلة أخرى.
المخرج الثاني هو فتح النقاش العمومي، فاليوم يوجد نقاش مجتمعي في قضايا مختلفة وبين تيارات مختلفة، ويتعين أن يتحول إلى نقاش عمومي بين مختلف التيارات ولما لا أن يتحول إلى نقاش مؤسساتي بين مختلف الفاعلين المؤسساتيين وأيضا الفاعلين الذين يمثلون الديناميات الاحتجاجية المختلفة من أجل التعبير عن أفكارهم وأن يتم بناء الحلول بشكل مشترك.
المخرج الثالث، في رأيي هو ضرورة وجود عرض سياسي في سياق الانتخابات التشريعية والجهوية القادمة، لأنه من غير المعقول أن نقنع المواطنين أن يقوموا بالتسجيل في اللوائح الانتخابية والتصويت بدون عرض سياسي، فعند قراءة البرامج الحزبية نجد تكرارا ولا جديد يظهر أنها تستوعب ما يقع من تحولات اجتماعية وحقوقية ولهذا يجب على كل الأحزاب أن تبلور عرضا سياسيا يشمل جميع المطالب وتدافع عنه.
المخرج الرابع هو وجود الاعتراف بالفضاءات الجديدة للتعبير ويجب منحها إجابات سياسية وقانونية حقيقية، فرغم كل هذه التحولات الطارئة، مازالت هذه الفضاءات رهينة لظهير ينطق بمنطق الترخيص والتصريح إلى غير ذلك، وأيضا يُطبق بمزاجية كبيرة متأرجحة بين السماح ومنع للمسيرات والاحتجاجات، كما أن العقوبات السالبة للحرية يجب أن لا تكون مرتبطة بالحق في التجمع والتظاهر الذي يعتبر حقا دستوريا.
والمخرج الأخير في رأيي هو أنه يجب أن نحذر وننتبه جيدا لخطابات الحقد والكراهية والتطرف الذي أصبح حاضرا لدى الفاعل السياسي ومعه المجتمع للأسف، لذلك يجب أن نشتغل على خطابات السلم والتسامح وقبول الآخر وعدم التمييز والتعصب، وعلينا أن ندمج ذلك في خطاباتنا.
بعد 10 سنوات على انطلاق 20 فبراير عرف المجتمع مجموعة من التحولات القيمية والسياسية التي يجب استيعابها ووضعها تحت المجهر و محاولة إيجاد أجوبة عنها. ففي رأيي هناك مقدسين اثنين يجب الدفاع عنهما: الحق في الحياة والحرية. فليس معنى أن نختلف مع أي شخص هو أن يكون مآله الموت أو السجن، نناقش أي شيء لكن مع احترام الحق في الرأي والتعبير وأن يصبح مقابل ممارسة هذا الحق هو العقوبات السجنية وأن يكون مقابل عيش الحريات الفردية هو السجن، بل علينا أن نقدس الحق في الحياة والتعبير. أنا أفتخر أنني عشت لحظة 20 فبراير بكل نجاحاتها وإختفاقتها وسأبقى مرفوعة الرأس لأنني أنتمي لجيل 20 فبراير.