هل لأرقام معينة جاذبية أكثر من أخرى؟ هل يمثل مثلا مرور 10 سنوات عن محطة معينة حدثا يستحق التوقف عنده؟ هل هي مناسبة للاحتفاء أم للتحسر وجلد الذات أم للتقييم أم للمراجعات؟ وما الجدوى والمراد من ذلك؟ وهل في استدعاء الماضي فائدة تُعيننا على تجاوز قساوة الواقع الذاتي والجماعي الذي نعيشه حاليا، أو على الأقل لفهمه وتحديد موقعنا داخله، بغرض إعادة كتابة مستقبل أكثر حياة.
هذه أسئلة من بين كثيرة راودتني حينما طُلب مني الكتابة عن الذكرى العاشرة لانطلاق شرارة حركة 20 فبراير، التجسيد المغربي لحركات احتجاجية مماثلة عرفتها كثير من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وفي الحقيقة وجدتني عاجزا عن إيجاد إجابات لها، فأنا مثل كثيرين ممن دخلوا ذلك الخلاَّط لسنوات طويلة، ولا أعرف إن كنت قادرا على استجماع قواي وشتاتي للتأمل والتفكر والتدبر في كل الذي جرى.
سجالات لا تأخذنا بعيدا..
لقد كانت هذه التجربة زلزالا بكل المقاييس سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي، فقد شكلت بالنسبة إلى كثير منا بداية تكون الوعي أو الذات السياسية، يمكن القول إن معظمنا دخلها أطفالا، كنا أطفالا في العشرين حينما كانت الآمال تكبر فينا يوما بعد يوم وكنا نشعر حينها أن لا شيء يستطيع إيقافنا، قبل أن يجيء الجزر على شكل موحش، عاشه كل منا على طريقته.
ففي الواقع هناك روايات وليست رواية واحدة للأحداث، فالذاكرة شديدة الالتباس والنسبية، ولا يمكننا أن نستعيد الحدث بالكيفية نفسها، ولا تعني الروايات المتنافرة أن البعض اختلق وقائع أو نفى أخرى، بل كل يحكيها بشكل فردي من موقعه، وحروب “الشرعيات” لن تحسمها الذكرى العاشرة.
انكسارات نفسية، إحباطات، انقلابات دراماتيكية في القناعات، الانعطاف يمينا أو يسارا، الغرق في النوستالجيا .. تلك عناوين متعددة لمشهد واحد من كتاب عشر سنوات. 10 سنوات على 20 فبراير، أو من 20 فبراير ؟ فالبعض يراها فكرة مستمرة وغير مرتبطة بتاريخ محدد، وأنها ممتدة ما دامت الشروط التي أنضجت حركة 2011 لا تزال قائمة، فالريف وجرادة والفنيدق أخيرا، والاحتجاجات الفئوية للأطباء والمعلمين وغيرها هي تطور تراكمي لنفس البداية، فيما يرى البعض الآخر نهايتها بنهاية امتلاء الميادين وخواء الساحات وطروء متغيرات وتغير السياقات.
خلال كل تلك النقاشات الطويلة التي كانت تجمع بين أطياف متنوعة من تركيبة 20 فبراير كان كلا الرأيين يبحث عن الصوابية، دائما داخل ثنائيات الانتصار والهزيمة، والفشل والنجاح، التأبين والاحتفاء، الثورية والإصلاحية، الخيانة والوفاء، اليسار والإسلاميون، الجمهورية والملكية البرلمانية.
بالنسبة إلي كانت هذه النقاشات دائما مرهقة، بل غير منتجة، سرديات مكرورة ومُعادة عن الطرق التي كان يجب سلكها أو المسارات التي كان يتعين تجريبها، هي ذاتها دائما سواء خلال زمن المخاض الاحتجاجي أو بعد فتوره، أو حتى اليوم ونحن نعيش هذه الأيام المعيبة التي نعجز عن إيجاد توصيفات مهذبة ملائمة لها.
إلى أين تأخذنا هذه السجالات ؟ أليست فخّاً .. ثُمَّ كيف تجاهلنا عمدا أو سهوا -أو ربما خوفا من الخروج من مناطق الراحة- الوقوف عند مقاطع معينة من مشهدية الاحتجاجات.
على سبيل الذكر، لماذا هيمنت الرباط-الدار البيضاء على متن السردية الجماعية للحركة؟ ألم تكن حركية الهوامش أكثر نشاطا وإبداعا وصلابة وقدرة على الخلق والمواجهة ؟ وهل كانت حركة 20 فبراير بالفعل حركة وطنية منسجمة أم كانت هناك تمايزات بين المراكز والهوامش مطلبيا وشعاراتيا وسوسيولوجيا؟ وأي دور لعبه العامل الطبقي ؟
ألم يجرِ تضخيم أطروحات “صراع الأجيال” و”قتل الأب” ( وصاية الأستابليشمونت النضالي) بين الشباب والكهول وسط الحركة؟ وهل كان ترك شبابٍ يفتقد إلى الخبرة والتنظيم بمفرده في ميادين الاحتجاج سيفضي إلى نتائج أكثر إبهاراً؟ وماذا عن مركزية “الهوندا” في تجربة الدار البيضاء.. هذه بعض من الأسئلة التي تحضرني باستمرار وتدخلني في نوبات فضول تأملي.
عن مقاومة فعل “الاستحضار”
كنت طيلة هذه السنوات وكلما حل التاريخ المعلوم أتظاهر بعدم الاكتراث، لما يسببه فعل الاستحضار بحمولته الثقيلة من ارتباك ومشاعر متضاربة تجعلنا وكأننا بصدد طقوس تعبدية فولكلورية نقيمها عند ضريح ولي صالح نعمل على تأليهه.
هذه الهالة من التقديس التي كانت تحيط بهذا التاريخ كانت تصيبني بذُعر غير مفهوم وغير عقلاني في الوقت نفسه، ربما ما كان يخيفني أكثر هو أن نكون دخلنا في مرحلة “الإنكار”، وأن نبقى أبد الآبدين داخل “الشاعرية”، وأن نهاب الخروج إلى الحاضر، يشبه ذلك التعلق بحب أول يعمي عن رؤية خيارات ممتازة يمكن أن تصلح لمشاريع عاطفية جديدة.
بمناسبة هذه العشرية، لا أزال اليوم أجد مقاومة داخلية لفكرة ضرورة الاستحضار، وما يستلزمه ذلك من استرجاع للأسئلة نفسها، تلك الأسئلة التي يفترض أن لها أجوبة واضحة بعد انقضاء كل هذه السنوات، وهل من اللازم التفكير داخل صندوق “النهاية” و “الاستمرارية” ؟ هل من الضروري استخلاص العبر والدروس والحديث عن المراجعات أو التراكمات، عن الذي لم يكن وعن الذي كان يجب أن يكون ؟
وإذا كنّا لا نملك ترف عدم الاكتراث بهذه المناسبة واقتراف الزهد في الكتابة، فإن ثمَّة اليوم أشياء تستحق الذكر أو التأمل أكثر بعيدا عن هذه المسكوكات الجاهزة والمرهقة، وعن التقييمات المتباينة لهذا المسار، وعن سرد الأحداث بشكل خطي ورتيب.
تقاطع الأزمنة والعودة إلى القفص
أفكارٌ وأسئلةٌ لا تحيل بالضرورة على إخفاق في تحقيق الأهداف، أو تستلزم إيجاد أجوبة آنية مستعجلة، أفكار وأسئلة لا تخضع بالضرورة للتراتبية الكلاسيكية للزمن، بل قد تتقاطع داخلها الأزمنة المختلفة، حيث نجد الحاضر الذي نعيشه اليوم في المُتذكّر.
مثلا، لماذا أشعرُ الآن وأنا أستيقظ صباحا وكأنني لا زلت في العام 2010، وبأن الزمن هو نفسه اليوم، ذات المشاعر والروائح و الأوهام و المجهول. لماذا تتقاطع داخل رأسي صور ومشاهد مغرب ما قبل 20 فبراير بشهور و مغرب ما بعدها بعشر سنين كاملة؟ خليط من الغضب و التأمل واليأس و التيه. هل يعقل أننا لا زلنا محبوسين داخل العام 2010؟
أُدير رأسي واجهة التلفاز في المقهى، وتلتقط عيناي عنوان النشرة الإخبارية على التلفزيون الرسمي، تمنحني بعض الإجابات لكنها لا تشفي الغليل.. وعلى الفيسبوك أقرأ رسالة جديدة لوالد صديقي وزميلي عُمَر المسجون تعسفيا منذ أكثر من 200 يوم، ثم أتذكر وجوه الكثيرين ممن توقفت حياتهم قسرا وحرموا من حريتهم، أو الذين هاجروا من البلاد اضطرارا إلى أمكنة غريبة و بعيدة، ومعهم استحضرت مأساتي الشخصية، والعيش مع الخوف المستمر و الحرص على تجنب عيش حياة خاصة طبيعية.
جميعنا بشكل أو بآخر كنا في 20 فبراير 2011 لكي لا يحدث ذلك كله، والآن عُدنا من جديد إلى محطة محاولة كسر القفص.
أعودُ إلى مقالات كتبتها بين 2011 و 2018، استمرارا في تمرين الاستعادة، أو في محاولة لاستيعاب الحاضر أو موقعة ذاتي حاليا، فقد بدأت الكتابة في الصحافة المهنية قبيل 20 فبراير 2011 ببضعة أشهر، وذلك موضوع آخر عن التقلبات والتحولات في مِهنة ولجتها بكثير من المثاليات الساذجة أسهمت لا شك لحظة 20 فبراير في تركيزها.
ولأن الصحافة بوصلة هامة لقراءة التقدم والتأخر، فإن العودة إلى هذا الأرشيف الشخصي مفيدة هنا في تحليل نفسية الصحافة في جذوة 20 فبراير وما تلاها من مكاسب في تحسين شروط التباري، ومن المنظار الخاص جدا تستنتج أن الصحافة التي كانت تلعب في الهامش، كانت دائما قادرة على المناورة باللعب مع الخطوط الحمراء بل وتجاوزها في أحيان كثيرة.
يقول التحليل الأكثر شيوعا لدى السلطة إن ترك هذه الصحافة تلهو كان جزءا من الثغرة التي أدت إلى “20 فبراير”، وهو خطأ كان يجب تداركه بسرعة، وهذا ما حصل بشكل تدريجي، كان لا بد للسلطة أن تستعيد المساحات التي تخلت عنها وفق تقدير لحظي معين بل وأن تأخذ أكثر. فبشكل استباقي لا يجب السماح بوجود ثغرة جديدة تعيد إنتاج نفس التنازلات بعد انفراط عقد على هذه “الأحداث التي لا يجب أن تسمى” ، حتى لو لم تكن هذه الصحافة سوى محفزا ومساعدا في ظل شروط موضوعية أفضت إلى خروج جماعي إلى التظاهر سنة 2011.
هُجِّرَ الصحافيون ومعهم الحقوقيون إلى عنابر السجون، بينما هاجر الجمهور إلى فضاءات “اليوتوب”، واغتربت السلطة مجددا في إيديولوجيا الاستمرارية، وفي الجهة المقابلة تظهر تركيبة 20 فبراير العجيبة بتناقضاتها وسقوفها السياسية المتضاربة بعد 10 سنوات كاملة وكأنها كيانات من غبار، لكنها تبدو وكأنها تحاول نفضه، يستعصي عليها ذلك، كل يد تصفق لوحدها، ويستمر ذلك كروتين يومي طويل الأمد بشكل مُفزع.
أرهقني عبور صحراء الرأس، من الصعب إيجاد كلمات مناسبة لاختزال صور كثيفة التعقيد، هذه العشرية تروما حقيقية وهذه البلاد لم تترك فينا أي شيء صلب غير اكتئاب عمومي، ربما نحن في حاجة إلى خيال جديد يخرجنا من سجن ورطتنا العاطفية في أوج الإحساس بالعجز والرعب وانسداد الأفق وتلبد السماء بغيوم السلطوية.