من الصعب جدا ألا تغتم حين تتذكر محطات حركة 20 فبراير الجليلة، كما أن من لم ينخرط في حركة العشرين فإنه فوت فرصة معانقة دفء وحماس وعظمة أحلام بحجم ذلك الوطن الذي كنا نريد توريثه لأطفالنا، ولهذه الأجيال التي ما عادت تحلم بالكرامة و الحق في العيش الكريم إلا مقرونا بما وراء تخوم البلد، ولو كانت في جوف الأبيض المتوسط؛ حقيقة نحن لا نعتبر تضاؤل وخفوت الحركة نهاية للتاريخ، تاريخ شعب لم تهدأ حركته يوما من أجل تقرير مصيره، بقدر ما نعتبر الأمر بداية أكثر صوابا للتاريخ الذي ينبغي كتابته بعد استيعاب دروس ما جرى .
مخاض الولادة العسير
كنت من بين ثلاثة مناضلين مبادرين للدعوة والتحضير والتواصل مع مجموعة من الناشطين السياسيين لإنجاح أول اجتماع للتنظيمات النقابية والسياسية والحقوقية والجمعوية بإقليم ميدلت لبناء حركة عشرين فبراير بالإقليم، كان البعض يدفع في اتجاه التريث لأن الأمور لم تتضح بعد، ومنهم من حاول إجهاض المبادرة بمبررات فقدت لمعانها بمجرد بسطها في ذلك الجمع الذي كانت كل الأجهزة تتابعه عن قرب و عن بعد.
قدمنا كمناضلي النهج الديمقراطي الحاضرين في الاجتماع كل التنازلات الممكنة لإنجاح التجميع، وحرصنا على تغليب المشترك معبرين عن نضج سياسي متجاوب مع المرحلة وكسبنا بذلك جولة الولادة وفرز لجان العمل، شيء طبيعي أن يسود الحذر بين بعضنا البعض في هذه المنعطفات والمحطات، والريبة وعدم الثقة أحيانا كذلك، فسنوات عجاف من الاتهامات المتبادلة والتشتيت وتعميق الجراح ووخز الندوب كانت كفيلة بتعميق التباعد و العداء بل والتهديد بالتشتيت من جديد .
حافظنا على وتيرة نضالات جماهيرية متساوقة ومتناغمة مع ما يحصل وطنيا من أول محطة الى ما بعد خفوت الوهج، سواء بميدلت المركز أو في هوامش الإقليم : بومية ، ايتزر، زايدة… كما أتحنا لعموم الناس فرص إزاحة التراب عن وجودهم، والإفصاح عن معاناتهم.
كانت محطاتنا النضالية “وقفات” استماع لمعاناة الناس من عقود الصمت والخوف من الجدران والإحساس بالعيب من الحديث بصوت مسموع عن آلامهم وعذاباتهم و عوزهم و كل صنوف المصائب التي كبدتهم إياها سياسات النهب و التقشف و التجويع والتّتفيه والحيونة، في هذه المحطات عرفت عمق جراح كل أولئك الذين تحطمت آمالهم وطموحاتهم رغم صغرها فما عادوا ينتظرون غير الرحيل، لا يهم الى أين، المهم هو الرحيل أو الهروب : حريك، مهلوسات، انعزال، موت، مخدرات … المهم الإفلات و لو مؤقتا من رعب هذه الحياة.
تخلف المركزيات النقابية وجل الأحزاب السياسية عن تحمل مسؤوليتها التاريخية، وعدم بلورة القوى المنخرطة في الحركة لرؤية فكرية سليمة عن التحول الديمقراطي المطلوب وآلياته، و يقظة المخزن لإفشال وتلغيم كل ما يمكن أن يسهم في تمهيد الشروط الضرورية لتحقيق أهداف الحركة، سد كل آفاق تطور الحركة وأسْعف الاستبداد وحصّنه.
كيف أجهض المخزن الحراك..
في هذا الصدد وفي عز الحديث عن دستور الحريات والثورة الهادئة والمغرب الجديد، استمرت الممارسة العملية لكل ما ميز المغرب الذي سئمنا منه وممن عاثوا فيه خرابا، أتذكر أننا قدمنا طلبا للاستفادة من مقر عمومي لتنظيم نشاط بخصوص الدستور، قدمناه باسم نقابة وبعنوان يتيح للجميع حرية التداول والنقاش والمشاركة كما حرصنا على توجيه الدعوة لكل الأحزاب، بمن فيهم أولئك الذين ستتم مكافأتهم فيما بعد لقاء صمتهم المخزي ومناوراتهم و انخراطهم في شيطنة كل من يدق جدران الخزان بمقاعد عرّت جشعهم لتقاسم ما يفيض من الفريسة، لكن في آخر لحظة حرمنا من القاعة، إنهم لا يريدون شعبا يعرف الدستور و مضامينه و بنوده، فقررنا تنظيم النشاط في الشارع، إلا أن كل أولئك الذين يتقاسمون معنا الشعارات ولجان العمل تخلفوا عن الحضور.
آنذاك بدأنا نفطن لمآلات الحراك، فكيف يمكننا التفاهم بشأن ما ينتظرنا معا في بناء ذلك الوطن الذي يمكن فيه للمواطنين تغيير الحكام عوض المساهمة الشكلية في استبدال أدوات حكمهم، و نحن نعمل على مقاطعة نشاط ينبغي أن نوضح فيه تصوراتنا بخصوص أي دستور نريد لأي وطن؟ هل كنا نعرف ماذا نريد حقا ومتى اتفقنا على ما نريد؟ … كيف نتخلّف عن مناقشة مصائرنا؟ … كيف نتخلّف عن مناقشة الاتفاق على القواعد التي سنُدير بها خلافنا في محطة كانت تقترب منا و نقترب منها في كل ساعة؟ …. فمن سيقرر و يحدد شكل النظام الذي نريده؟ هل كانوا لا يستطيعون الحديث أم ينتظرون التوجيهات والتعليمات أم هي مجرد مناورات لترك هامش للنظام لأخذ المبادرة؟ هل كان الأمر يتعلق بنوع من “تبراد الطرح” في انتظار “تجميده”؟ …. أعرف أنه ليس من الضروري أن نتفق على كل المستويات وفي كل التفاصيل، ولكن كل ما أستطيع قوله في هذا الصدد هو أن البعض لم يتعامل بنزاهة مع هذه اللحظة التاريخية ولازال يصر على ذلك.
في هذا السياق أيضا لازلت أتذكر ما قاله لي أحد نشطاء جماعة إسلامية، و ذلك حين طلبت منه ربط أقواله عن المنكر والإصلاح بالتي هي أحسن، بالحضور لأشكالنا الاحتجاجية ما دامت تهدف إلى تغيير الأوضاع التي ينتقد، فهو يحدثني دوما عن الفساد وضرورة الإصلاح وتغيير “المنكر” و لو بالفؤاد و ذلك “أضعف الإيمان”، لقد كان رده هو :” لن نتدخل بعد، لم يحن وقت الدم بعد” فلم يضف عبارة أخرى للتوضيح ولم أطلب منه تفسيرا لما قاله، لقد فهمت جيدا ما كان يعنيه في تلك اللحظة، و لذلك لم أعد أتحسس مدى انسجام أفكاري وحُججي و لكن صرت أتحسس رقبتي، لا أزال لحد الساعة أشعر برجفة حين أتذكر عباراته أو حين أصادفه حينا في الشارع، فهذا نموذج لأولئك الذين رحلوا لسوريا من أجل تنفيذ مشاريع الكيان الصهيوني والأمبريالية الأمريكية، إذا حصل على بندقية فسيصوبها حالا ناحية من هم بجانبه، هم حزم الحطب التي كانت تحضرها لنا الرّجعيات التي تورطت في الدم السوري حتى آخر شعرة من رأسها، الآن صارت للصهيونية أيضا أذرع مستعدة لحمل كل أوساخها.
لقد عمد المخزن، باعتباره القوة المنظمة الوحيدة التي كشف عنها الحراك، إلى دفع كل المنتفعين منه للعمل اليومي المواظب لإنهاك الحركة، من جمعيات التنمية البشرية مرورا بزبائن و أعيان الأحزاب السياسية و بمن أسماهم بالمستقلين أو المستقيلين من أي التزام تاريخي تجاه اللحظة و الشعب المغربي انتهاء برفاقك في مقر العمل، وعمل على تمييز واستهداف الحلقات الضعيفة في محيط كل الناشطين سواء الأسرية او الاجتماعية؛ بعضهم و بضغط من الأصهار أو الزوجات، والبعض أصبح يتحاشى الحديث إلينا نهارا، و البعض اكتفى بعد رشوة 600 درهم بلي عنق العبارات و الخطب لإفهامنا بأن هناك تيارات ركبت على الحركة وأنه لا يمكن أن يخدم هذه الأطراف وهو ذكي بما فيه الكفاية لكي لا يكون مطية إلا للمخزن. فذلكات لغوية جوفاء لا يمكنها أن تقنع من يمشي على قدمين، يكفي أنه بعد اعادة انتزاع تلك الرشوة بالزيادات والاقتطاعات بدأ عويلهم و أنينهم يعيد صدى انتهازية انتمائهم الاجتماعي :ما أحوجنا لعشرين فبراير جديدة.
هؤلاء كلهم ينبغي النظر إليهم بعين الشفقة، إلا أن ما اظهره البعض من زبائن حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي بميدلت ومنهم رجال تعليم و منتخبين لا يمكن التغافل عنه اطلاقا، أتذكر جيدا وجوه بعض عناصر البلطجية وكيف كانوا يتلقون تعليماتهم من رجل تعليم كان يستفيد دوما من وضعية “فائض” عن الكافي من أطر مؤسسته، ليمضي الموسم الدراسي متسكعا بين المقاهي ومقر الحزب و النقابة، كان يتصرف ذلك المساء تحت مراقبة بعض من رجال البوليس، متقدما لتطويق أحد أشكالنا النضالية في عز التطبيل للدستور الممنوح.
في لحظة معينة قدم أوامره للكتيبة التي وضعت تحت تصرفه، فأحاطوا بي من كل جانب، و ذلك بعد منعي من طرف عناصر أمن آخرين من مبارحة المكان الذي كنت أتواجد فيه وذلك بعد تمكين أسماء أخرى من العبور للضفة الأخرى من الشارع … أحكموا تطويقي و الإحاطة بي ثم طلب منهم “الأستاذ” الانقضاض علي، بعضهم أمسكني من رقبتي والبعض الآخر من حزام سروالي، شعرت في تلك اللحظة بأني انتهيت، ثم بدأ الضرب في كل نواحي الجسد، تكومت حول نفسي وبجهد جهيد تم إنقاذي من طرف أحد الأصدقاء الذي كانت له معرفة وثيقة بالعناصر البلطجية المأجورة، كان يهددهم بأنه سيقدم شهادته أمام المحكمة بالأسماء والوقائع و الأفراد، توقفوا هنيهة ليتم نقلي لمكان آمن، و مع ذلك استمر الصخب و التهديد في محيط المكان الذي حملت إليه حتى ساعة متأخرة من الليل.
لا زالت كل الأوضاع تسير من سيء لأسوأ، و التراجعات مخيفة بالنظر لحجمها و نطاقها، لم تحقق الحركة أي هدف مما سطرته، فلم نحقق حرية ولا كرامة ولا عدالة اجتماعية، و حتى ما أحدثته الحركة من كوات في جدار الخوف والرعب يتم ترميمه حاليا بالفولاذ.
ما يمكننا الجزم به بثقة عالية هو أن حركة العشرين أثبتت بعد مضي عقد من الزمن بأن المخزن لا يَصلح و لا يُصلِح و لا يمكن إصلاحه، كما أن عشر سنوات من إضعاف وتحجيم كل التنظيمات النقابية و السياسية والصحافية و تسريع وتيرة اجتثات كل الحقوق و الحريات والمكتسبات ستفتح هذه المرة أبوابنا لكل المخازي التي يخيروننا بينها وبين كوابيس الرعب، أكيد أن راية الاحتجاج ستخفق في شوارعنا مرة أخرى بقوة تعبئة أكبر مما عرفته حركة عشرين فبراير و ستتجاوز أوجه قصورنا وضعفنا و تعثرنا وستلفظ الكثير من القوى المتخلفة والمترددة و المؤكد هو أن حجم التكلفة و الضرائب ستكون مرتفعة أيضا و الكل سيدفع حصته .