مرّ حوالي عقد من الزمن على انطلاق حركة عشرين فبراير الاحتجاجية بالمغرب، ماذا تبقى من هذه الحركة؟ وهل أشكال الاحتجاجات التي عرفها المجتمع المغربي منذ نشأتها إلى اليوم نسخ متجددة منها؟ وبأي حلة ستعود الحركة الفبرايرية؟
ثمة قاعدة سوسيولوجية تنطلق من أن التغيير، في المجتمعات المعاصرة، باعتباره ظاهرة اجتماعية، لا يمكن فهم معانيه وكشف دلالاته وتحليله بدقة وتفسيره بالعامل الوحيد، بل تسهم فيه عديد العوامل المركبة والمتداخلة أبعادها الطبيعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
بعيدا عن نظرية المؤامرة، انطلقت حركة 20 فبراير في شروط سياقية خاصة عاشتها دول ومجتمعات منطقة شمال إفريقيا (تونس وليبيا والجزائر) والشرق الأوسط (سوريا ومصر واليمن وغيرها)، إذ نتيجة تراكم الضغوط السلطوية للأنظمة السياسية والأزمة المالية التي جعلت الأغلبية من داخل تلك المجتمعات تعيش حياة صعبة تنتقص من كرامتها، أفرزت وعيا حادا، ودفعت بالفاعلين الاجتماعيين والمدنيين والسياسيين، إلى التموقع في الصراع من جديد والتعبير عنه في حركات احتجاجية متفاوتة في أشكال التعبير والتمظهر وطرق تصريفه وأساليب تنظيمه، من قطر إلى آخر؛ متفاوتة في الشكل واللون والحجم والثقل.
وما ميز حركات الربيع الديمقراطي التأطير الافتراضي، نتيجة النقاشات المفتوحة بشبكات الاتصال الجماهيري (الفايسبوك والتويتر والواتساب وغيرها)، الأمر الذي كشف عن محدودية دور المثقف التقليدي ومؤسسات التنشئة السياسية والنقابية والإعلامية الكلاسيكية أو فُرِض عليها الانخراط في الديناميات الجديدة التي حتمتها الأحداث الصغيرة السريعة التي انفلتت من قبضة السلطويات وسطوتها. كما تنوعت التلاوين الإيديولوجية للفاعلين، والقوى المحتجة في الفضاءين الافتراضي والواقعي (الميادين والساحات العمومية) بين الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية والجماعات الدعوية الإسلامية أو الأحزاب ذات المرجعية اليسارية والمجتمع المدني (من جمعيات ونقابات وإعلام رقمي بديل)، وطلاب الجامعات وفئات اجتماعية من الطبقات المتوسطة وعموم المواطنين. لكن، حركة 20 فبراير بالمغرب تمثلت في مطالبها الاجتماعية ذات الطابع السياسي “حرية كرامة عدالة اجتماعية”، رهاناتها تحقيق حلم الديمقراطية وإرساء أسسها، وضمان الحقوق والحريات بين جميع المواطنين بمعزل عن انتماءاتهم المختلفة. في هذا السياق يشير السوسيولوجي غي روشي إلى أن غاية الديمقراطية تحقيق حلم الحرية والمساواة، و”إنها واحد من أجمل الأحلام التي استطاعت المجتمعات السياسية أن تأتي بها خلال قرون. ولكنه في نفس الوقت، حلم يمكن أن يخفي ويحجب تفاوتات عديدة، والكثير من الظلم، باسم هذه الحرية، وباسم هذه المساواة”.
ظهرت في الآونة الأخيرة أحكام كثيرة، تجعل من الفشل عنونا، بصدد تقييم بعض المثقفين والإعلاميين لحصيلة عمل ما يسمى بالحركات الاحتجاجية للربيع الديمقراطي، سواء على مستوى التنظير والتأطير أو على مستوى التنظيم والقيادة وأشكال التعبير أو على صعيد النتائج وتحقيق المطالب والمكاسب، واستغلال الوضع العام لصالح حركات الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة.
حيث إن ضعف التأطير النظري في ظل تعدد المرجعيات الإيديولوجية والخضوع للهواجس البرغماتية المباشرة، حوَّل الحركات الاحتجاجية، بشكل متفاوت، إلى حركات انفعالية تتحكم فيها مشاعر الغضب والعدوان بدل مبادئ النقاش العمومي العقلاني الحجاجي. إضافة إلى ذلك، غياب قيادات ومخاطبين مباشرين باسم تلك الحركات الاحتجاجية للعب دورها الفعال في تحقيق المطالب عبر القيادة والتنظيم وفق ثنائية التفاوض الجماعي وسلطة الاقتراح وتقديم البدائل من جهة، والضغط والاحتجاج بالفضاء الافتراضي وبالساحات والميادين العامة من جهة أخرى. كما أن النقاش حول علاقة السياسي والديني بالحركة وانعكاساته عليها في الواقع أدى إلى إضعافها، خاصة الأحزاب الإسلامية وحركات الإسلام السياسي والدعوي؛
وفي حالة المغرب مارس حزب العدالة والتنمية الابتزاز الاحتجاجي في علاقته بالدولة مما أدى إلى جني ثمار الصعود إلى السلطة إلى اليوم، ضمن مشاركته في الحكومة بنسختيها الأولى والثانية، في مقابل سلسلة من التنازلات والتراجعات، إلى جانب خروج جماعة العدل والإحسان، وحشد النظام لحلفائه التقليديين من زوايا وإعلاميين وغيرهم، كلها أسباب أضعفت الحركة وجعلتها تبدو تحت قيادة بعض الأحزاب اليسارية والقوى الطلابية التقدمية واستعمالها؛ وهو عامل إضعاف آخر للحركة في نظر عديد المتتبعين.
لكن، منطق السلطة في المغرب كان مزدوجا في التعامل مع الحركة الاحتجاجية، فمن جانب أول تم إطلاق سلسلة إجراءات إصلاحية: تعديل الدستور والزيادة في الأجور وتغيير لغة الخطاب الرسمي الذي أصبح نقديا لاذعا للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ومن جانب آخر قمع الاحتجاجات ومحاولات منعها، وتهديد رموزها واعتقالهم والتشهير بهم وغيرها من أشكال العنف المادية والرمزية. ومهما تعددت إجراءات الدولة وتصريفها لسلطتها تجاه الاحتجاجات بين مبدأي الحق والقوة أو القانون والعنف في التعاطي مع الحركة ومطالبها، فإن الحركة اتخذت مظاهر أخرى للظهور والاستمرار في الهامش وهامش الهامش (على سبيل المثال: حراك الريف وجرادة).
لم تنته حركة 20 فبراير بعد، ولم تُستَنفذ إمكانات الفعل لديها بعد، حركّت برك راكدة، وخلخلت بنيات مبنيِنة ومبنيَنة، وسرّعت من إيقاع التغيير والإصلاح، ولا زالت تتمظهر في حُلَلْ مغايرة، وسنبعث في نسخ جديدة، ما دامت مطالبها “الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية” لم تتحقق بعد، في ظل استمرار اعتقالات الرأي، وملفات الفساد، وتفشي الفقر، وهول الفوارق الاجتماعية والمجالية. إن مطالب الحركة راهنية ومشروعة وتستمد مشروعيتها من حلم شباب وطني بمغرب ديمقراطي يتسع لجميع أبنائه وفئاته على أسس الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
كلما بقي الجهل والظلم والتسلط والفقر والبطالة والتهميش في المجتمع، وكلما تأبَّدت أسس هدر الإنسان وقهره وإذلاله وتبديد ثروته المادية والرمزية، فإنه سينفجر يوما تجاه قوى التسلط وستتضخم غريزة الحياة لديه تجاه غريزة الموت البطيء، لأن التاريخ له منطقه ومكره ومقالبه، يلفظ المتحكمين في مجرياته، ويربك حساباتهم، ويخلط أوراقهم، وينقلب فيه السحر على الساحر! بفعل فعل الفاعلين المهمشين والمقهورين الذين أدركوا جيدا مصدر تهميشهم وقهرهم.