يعيش المهاجرون غير النظاميون بمدينة الدار البيضاء فصل شتاء صعب للغاية. حيث يقاوم الشباب المهاجر القادم من دول إفريقيا جنوب الصحراء مطاردات قوات الأمن ووباء كوفيد19. وهي مقاومة لم تكن لتكون ممكنة إلا بفضل تضامن الساكنة المحلية وعدد قليل من جمعيات المجتمع المدني. في هذا الروبرطاج، نقتفي أثر واحدة من أكثر الفئات تهميشا وعزلة في زمن كورونا.
المكان: المحطة الطرقية “ولاد زيان” بمدينة الدار البيضاء بالمغرب. الزمان: يوم السبت الموافق لـ6 مارس 2021. في الساعات الأولى من هذا اليوم، قررت السلطات المحلية تنفيذ عملية إخلاء في حق عشرات من المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء الذين شكلوا تجمعات غير منظمة بجوار المحطة الطرقية الأكبر في البلاد.
العملية ليست جديدة، حيث نشهد تكرر نفس السيناريو كل 3 أشهر تقريبا منذ أربع سنوات. في هذا الفضاء أضحت مشاهد الكر والفر للمهاجرين جزءا من المعيش اليومي في هذا الحي الشعبي. وأصبحت هذه العمليات الأمنية التي تقوم بها السلطة المحلية بشكل روتيني عنوانا كبيرا دالا على أزمة تدبير ملف الهجرة غير النظامية بالمغرب عموما وبالمدينة تحديدا. وبينما تنهج السلطات تكتيك استنزاف المهاجرين. تعتمد هاته الفئة على استراتيجيات للمقاومة والمناورة من أجل الحفاظ على مكاسبهم الهشة: ملجأ للنوم في العراء في انتظار مواصلة الطريق نحو “الفردوس الأوروبي”.
معركة غير متكافئة
الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا، “المخزن (السلطة بالمغرب) حاضر بقوة بمحيط ” المحطة “، ينذرنا صاحب الطاكسي الذي قام بإيصالنا إلى “المحطة”. في عين المكان يباشر أعوان من السلطة بزي مدني جمع أفرشة و أغطية المهاجرين، ثم يتم تجميع كل هذه الأشياء وحشرها داخل شاحنة متلاشيات. وفي هذه الأثناء كان مجموعة من الشباب المهاجر يراقبون هذه الحركية قرب المحطة في صمت، بعيدا عن الأنظار. و فور انتهاء عملية الشحن، تقوم قوات التدخل السريع التابعة للقوات المساعدة بإخلاء المهاجرين من محيط المكان. ارحل من هنا ” يصيح أحد المسؤولين عن قوات التدخل التابعة بشكل مباشر لوزارة الداخلية، في وجه أحد الشبان المذعورين. في المقابل، لا يظهر أن المهاجرين يبدون أي مقاومة تذكر.
بينما يتلذذ أحد أعوان السلطة بجمع ورمي الأواني المهترئة التي تمتلكها إحدى مجموعات المهاجرين، ينتفض أحد الشبان من أجل انتزاع إبريق مهترئ من أيدي أحد رجال السلطة. “إنه لي، ليس لكم الحق في أخذه “.
يخاطب هذا الشاب العشريني بشجاعة حشدا من قوات الأمن. وبعد أخذ ورد، ينتزع الشاب الإبريق المهترئ كأنما يظفر ب”غنيمة حرب”، حرب غير متكافئة.
مع مجموعته المكونة من عدد من الشباب القادمين من بوركينا فاصو يلجؤون الى زقاق مجاور للمحطة للاختباء. ” لا نريد أي شيء، فقط اتركوا لنا ملجأ للمبيت. لماذا نعامل كالحيوانات؟” يتسائل “أوسمان” أحد أصغر شباب المجموعة، وهو في حيرة من أمره.
بدأ أوسمان رحلته نحو “الفردوس الأوروبي” منذ 4 سنوات. “قطعت الصحراء الكبرى مشيا على الأقدام. من النيجر وصلت إلى الجزائر ثم بعد ذلك دخلت إلى المغرب عبر الحدود الشرقية. كانت رحلة محفوفة بالمخاطر لكن ما نعيشه اليوم لا يضاهي معاناتنا مع الجوع والعطش وسط الصحراء” يقارن أوسمان الذي تظهر على محياه علامات العياء. تحمل المجموعة ملابسها وما استطاعت إنقاذه ثم تكمل الرحلة نحو المجهول.
قصة “ولاد زيان”
الدار البيضاء مدينة من 4 مليون نسمة وكم هائل من مظاهر العنف الاجتماعي اليومي. “المحطة” كما يسميها البيضاويون اختصارا، مكان تلتقي فيه مختلف مظاهر العنف الحضري: أطفال شوارع يجاورن أمهات عازبات ومتسولون يتقاسمون الشارع مع لصوص من مختلف الأنواع والأعمار. ولكونها منطقة عبور رئيسية من شمال المغرب الى جنوبه فهي تحشد كل أنواع المهمشين والتائهين والمنبوذين.
منذ دجنبر من سنة 2016، بدأ المهاجرون بدون مأوى الاستقرار لمدد قصيرة أو طويلة. بين سنوات 2016 و2019، أصبح هؤلاء المهاجرون يعيشون وسط مخيم غير منظم اعتبر خلال تلك الفترة الأكبر في المغرب. هذا التجمع الذي كان يأوي أكثر من 1000 مهاجر-ة، أصبح يؤرق السلطات المحلية وكذا الساكنة المجاورة التي كانت تقدم شكايات ضد المهاجرين باتهامات متداولة ومتكررة متعلقة أساسا ب “ممارسات السرقة ووجود شبكات الدعارة والمخدرات داخل وخارج المخيم”. و في سنة 2019، كانت نهاية المخيم. حيث اندلع حريق مهول بخيام المخيم ما أدى لتفكيك هذا التجمع من طرف السلطات التي تنفست الصعداء بعد هذا الحادث. منذ ذلك الحين بقيت العلاقة بين الساكنة المحلية والمهاجرين تتأرجح بين القبول والرفض الممزوج بـممارسات تمييزية وعنصرية.
“أحمد” يعمل في ورشة صيانة سيارات قرب “المحطة” وهو من بين الساكنة التي ضاقت ذرعا بتواجد المهاجرين.
“تزايدت نسبة الجريمة داخل الحي وتضرر التجار من حضور المهاجرين” يوجه الرجل الأربعيني أصابع الاتهام إلى المهاجرين بلا تردد. لكنه يعترف في الآن نفسه بكون أغلبية الشبان المهاجرين مسالمين ولا يؤذون أحدا. والتعايش معهم جد سهل لكونهم مسلمون مثلنا. للأسف، بينهم مجموعات صغيرة من بلدان محدودة وهم من يعطون صورة جد سلبية عن المهاجرين”. يستطرد أحمد.
تستمر العملية التمشيطية في أزقة حي “المحطة”. نفس السيناريو يتكرر كل مرة. شحن للأغطية والأفرشة والخيام من طرف أعوان السلطة يصاحبها تجمع للساكنة المحلية التي تحتفي بعملية الإخلاء. في أحد الأكواخ، يعثر أحدهم على عدد من السكاكين والهراوات. يتسابق الصحفيون لتصوير هذا “الصيد الثمين” الذي يقدم دليلا على “إجرام المهاجرين”. في سنة 2018، كان المهاجرون -عن طريق ممثلين لهم من كل جنسية- سباقين إلى تقديم شكايات لدى الأمن الوطني ضد مجموعة من المهاجرين الذين كانوا يقومون بممارسات خارجة عن القانون. شكايات ظلت مدفونة في الرفوف لشهور.
تعمق العملية الجديدة من هشاشة المهاجرين الشباب بمدينة الدار البيضاء الذين فقدوا مأواهم مرة أخرى في عز أزمة جائحة الكوفيد19. نترك شباب “المحطة” ونتوجه لنقطة أخرى تشهد تجمعا للمهاجرين.
بدون مأوى، بدون بديل
على أرض خلاء بحي الصخور السوداء في الدار البيضاء، غير البعيد عن “المحطة” وجد عشرات من المهاجرين غير النظاميين القادمين من عدد من دول جنوب الصحراء ملجأ هشا يأويهم من صعوبة الطقس ومطاردات القوات الأمن. لكن منذ 4 يناير الأخير وفي خضم البرد القارس قامت السلطات المحلية بالمدينة بحملات تمشيطية موجهة لعدد من الأماكن التي كان يلجأ إليها هؤلاء المهاجرون. “فوجئنا بتدمير الخيام البلاستيكية من طرف السلطات حيث تم فض هذا التجمع بدون اقتراح بديل لهؤلاء الشباب في وضعية هشة”، يصرح غيك بيات، رئيس جمعية بنك التضامن الفاعلة في مجال الدفاع والمساندة للمهاجرين بالمدينة. وأسفرت هاته العمليات عن اعتقال عدد من المهاجرين.
“لسنا ضد عمليات الفض لكن يجب أن تقدم السلطات البديل لهذه الفئات الهشة، خاصة واننا في ظرف صعب جدا يتميز بقساوة فصل الشتاء الممطر وكذا تفشي وباء كوفيد19 في المدينة“، يشرح المسؤول الجمعوي في حديثه معنا.
جمعية “بنك التضامن” مع عدد من مبادرات جمعوية أخرى كانت تقوم بعمليات توزيع وجبات الأكل والأغطية على هؤلاء المهاجرين. لكن مع تدمير الملاجئ العشوائية لم يعد لهذه الجمعيات وسيلة للاتصال بهؤلاء الأشخاص.
نستطيع القيام بذلك “كنا نقوم بتوزيع 50 وجبة يومي على هؤلاء الشباب. لكن اليوم لا يتحسر غيك بيات، المهاجر المقيم بالمغرب منذ سنوات.
حسب المعطيات التي تم تجميعها أثناء إنجاز هذا الروبرطاج، تم القيام بعمليات مشابهة في مدينة الرباط وخاصة قرب محطة القامرة وفي محيط الأحياء الشعبية للمدينة، وسجل نفس الشيء في طنجة مؤخرا. كما تعرف مدينة الناظور عمليات دائمة للقوات المساعدة تسهتدف تدمير المخيمات العشوائية للمهاجرين غير النظاميين.
وتشبه العمليات الحالية والمتواترة منذ شهور إلى حد كبير عمليات صيف 2018، حيث قامت السلطات بإيقاف وتنقيل المهاجرين من شمال المغرب إلى جنوبه. وإثر هذه العملية، قدمت جمعية “گاديم” (مجموعة مناهضة للعنصرية مهمتها الدفاع عن الأجانب والمهاجرين ودعمهم) تقريرا مرجعيا يتضمن توصيفا مازال ذات راهنية: “المغرب يلعب لعبة محفوفة بالمخاطر ومتناقضة. بين الدور القمعي الشديد ضد الأجانب والمهاجرين الموجودين على أرضه ودور “زعيم” ملف الهجرة داخل الاتحاد الأفريقي وموقف يحاول إظهار الحزم ضد إسبانيا والاتحاد الأوروبي”. حسابات جيو-ستراتيجية لم يختف أثرها مع اندلاع أزمة كوفيد. 19
وباء الهشاشىة والعزلة
فاقمت أزمة كوفيد 19 معاناة هؤلاء المهاجرين، خاصة الشباب منهم، حيث عاشوا في وضع هشاشة كبرى طيلة فترة الحجر الصحي. إذ كانوا عرضة للاعتقالات من طرف السلطات المحلية بالموازاة مع مواجهتهم لوباء كوفيد 19. “يعيش المهاجرون غير النظاميون وضع صعبا فمنهم من يبيت في الحدائق العمومية أو الأراضي غير المبنية وفي أحسن الأحوال يتقاسمون شقة مع عدد كبير من المهاجرين في أحد الأحياء الهامشية بالمدينة”، يوضح غيك بيات، رئيس جمعية “بنك التضامن”. الذي يضيف: “يعيش المهاجرون غير النظاميون من التسول أو بعض المهن المعيشية البسيطة، وعموما يوجدون في وضعية هشاشة عميقة. لا يقلل من حدتها سوى بعض الإعانات البسيطة التي تقدمها الجمعيات المدنية “، يضيف بيات.
من بين هؤلاء الشباب العابر للبيضاء بعنفها واللا إنسانيتها، كريستنسان، ابن 28 ربيعا وهو قادم من نيجيريا. التقينا به في أحد مدارات المدينة. “وصلت إلى المغرب سنة 2019 عبر الحدود الجزائرية. هدفي الرئيسي يبقى هو الوصول لأوروبا. ولكن قبل ذلك لابد أن أجمع قدرا كافيا من المال من أجل عملية العبور”، يصرح هذا الشاب الذي يكتري سريرا بغرفة بإحدى البيوت بالحي الهامشي، المسمى “فرح السلام”. وفي المدار كان، برفقة ثلاثة من أصدقائه، يتسول بضعة دراهم من المارة من الراجلين وأصحاب السيارات. ونحن نجري محادثة معه ألقت الشرطة القبض على سيدة كانت ترافقه. “هذا هو واقعنا اليومي. اعتقالات ومطاردات يومية” يصرح كريستنسان وهو مُتوجّس من تحركات رجال الأمن حوله.
في بداية الجائحة وجهت الجمعيات المدافعة عن حقوق المهاجرين رسالة إلى رئيس الحكومة المغربي من أجل دمج هاته الفئة الهشة في “الجواب الوطني” المقدم على الجائحة. مطلب حقوقي طاله النسيان وعدم التجاوب. فرغم توفر المغرب على استراتيجية وطنية للهجرة واللجوء، ظلت مجهودات الدولة في مجال حماية المهاجرين ضئيلة.
الاستراتيجية الحكومية تتضمن من بين أهدافها الاستراتيجية الأربعة: “تدبير حركات الهجرات في احترام لحقوق الإنسان” والذي تلتزم فيه الحكومة “بتقديم المساعدة القانونية للمهاجرين وإدماجهم في برامج التضامن والتنمية الاجتماعية”. في فترة الحجر الصحي سنة 2020، قامت السلطات المحلية بإيواء عدد من المُهاجرين بدون مأوى لفترة محدودة وبأعداد قليلة. أما الهيئات الأممية كالمنظمة الدولية للهجرة والمندوبية السامية لشؤون اللاجئين فقد أطلاقا برامج خاصة مع ظهور الجائحة لكن بقيت ضعيفة الأثر بالنظر للحاجيات الكبرى للمهاجرين بمختلف المدن. حيث لم يتعدى مجموعة المستفيدين من الإيواء المستعجل 1300 مُهاجر.ة. المغرب يستقبل سنويا بين 30 إلى 40 ألف مهاجر غير نظامي، حسب إحصائيات غير رسمية.
بعد مرور سنة على ظهور وباء كورونا في المغرب، تظل هاته الفئة منسية من طرف السلطات العمومية كما أكدت ذلك دراسة حديثة أنجزت حول المهاجرين في عدد من المدن المغربية ومن بينها الدار البيضاء.
خلص هذا البحث السوسيولوجي المُنجز من طرف معهد “إيكونوميا” والجمعية الدولية “إنسانية وإدماج” و”أوكسفام” في سنة 2020 إلى أن “المُهاجرين ، ولا سيما من هم في وضع إداري غير نظامي، يواجهون عزلة اجتماعية تؤدي إلى انعدام أو هشاشة العلاقات مع الأشخاص والجماعات في بيئتهم المباشرة”، تلاحظ الدراسة الميدانية. وتحذر كذلك من تبعات هذا الوضع على الصحة الجسدية والنفسية للمهاجرين: “ليس للمهاجرين سوى اتصال ضئيل للغاية بالمغاربة وغالبًا ما يعيشون بعيدًا عن السكان المحليين، مما يحد من المساحات الحقيقية للمعاشرة. في كثير من الأحيان، يتم إبعادهم إلى أماكن هامشية، مثل المخيمات. تؤثر هذه العزلة الاجتماعية على الصحة العقلية والجسدية”.
بمخيم “المحطة” صادفنا شبابا مهمشا ومُغتربا، مجهدا نفسيا بسبب قلة النوم والخوف الدائم من الحملات التمشيطية. ورغم ذلك تبقى”ولاد زيان” مجرد محطة في رحلة معاناة المهاجرين الموجودين في مدينة الدار البيضاء. وفي حديثهم معنا لا ينسون هدفهم الأساسي، كما عبر عن ذلك كرستينسان القادم من نيجيريا: “نحن هنا عابرو سبيل، نشق طريقنا نحو البحر ولا شيء يمكن أن يوقفنا”.