صحافة البحث

لا أخبار لنا اليوم بعد الآن.. شكرا وإلى اللقاء

- الإعلانات -

قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، هي قضية الباقين، قضيتنا نحن المنتظرون بمرارة لأدوارنا لنكون درسا صغيرا للعيون الحية.. لذلك جاءنا خبر موت صحيفة “أخبار اليوم” موجعا، مفجعا، قاسيا، كان هذا الموت يحدث أمام أعيننا يوميا، كنا نتوجع سرا مع المريض، نواسيه حينا ونواسي أنفسنا حينا آخر، نشعر بآلامه دون حول ولا قوة، حتى أتانا آخر نبأ ذات يوم أحد كئيب.

توقف يومية أخبار اليوم عن الصدور، ليس خبرا حزينا فقط للصحافة في مغرب مختنق حتى الموت، بل هي خسارة فادحة لبلاد بأكملها، كانت أخبار اليوم أكثر من مجرد محاولة لاستنشاق هواء نقي في بلد ملوث، وفي أحلك الظروف وأقساها كانت الجريدة آخر حصن تعبير حر، الأمل الأخير في التمترس دفاعا عن تعددية مجرمة في أجمل بلد في العالم.

وفي كل مرة اجتازت فيها الجريدة أزمة عظيمة كانت تخرج كبيرة ورائعة، منتصرة ومستمرة بتضحيات نسائها ورجالها ممن آمنوا فعلا بأن للصحافة رسالة في المجتمع خارج تسطيحه وتزييف العقول، وقد قاومت فكرة أخبار اليوم نيابة عنا جميعا، نحن الصحافيون الذين قُلّمت أظافرنا، و رغم الورم الداخلي والخصم غير الشريف، قاومت واستمرت طيلة 3 سنوات، كانت تموت ببطء، كنا نراها تحتضر لكنها ظلت تقاوم، كانت ذراعها تسقط وتنهض لالتقاطها مجددا ولا ترفع الراية البيضاء.

إنه غياب لا يحتمل، يصعب التعايش معه، وكيف سنشيع جثة ميت عزيز ؟ ولا تسعفنا اليوم أي عبارات أو مرثيات.. ونحن غير قادرون على التفوه بالوداع، أو وصف صباح بدون مانشيت صحافي مهني، فقد كان وجود أخبار اليوم بيننا يجعل الحزن العام نسبيا، وكان استمرارها في الصدور مناعة ضد اليأس التام وضد محاولات السلطة قتل ما تبقى من صحافة حقيقية في مقابل إحياء وتنشيط أخرى برئيس تحرير وحيد، أخبار اليوم كانت من بين آخر ميكانيزمات البقاء.

تحمل حكاية نهاية أخبار اليوم حسا مأساويا، فقاتلوها متعددون، لم يكن قاتلا واحدا للأسف، وفي حرب البقاء الأخيرة كانت تواجه الجريدة أكثر من خصم. لكنها كانت تكابر، وفي ظل الأزمة والمحن المتكررة استمرت في تقديم منتوج مهني عصي على المقارنة، كانت حنجرة لقضايا وملفات لا تقترب منها إلا صحافة حقيقية في زمن الحراس الصحافيين الذين جرى تفريخهم بإسهال إمعانا في إعادة ترسيم حدود الدولة مع الصحافة.

لا عجب أن تشعر أطياف متناقضة باليتم في غيابها، اعتبرها إسلاميو المؤسسات جريدتهم، ومناضلو اليسار الراديكالي صوتهم، والعدل والإحسان رأوا فيها مساحة تسعهم بعيدا عن الأحكام المسبقة، ووجد فيها جيل من الصحافيين المنصة الوحيدة القادرة على استيعاب حقهم في التفكير خارج الصندوق، انتصار أخبار اليوم الكبير كان أنها عصية على التصنيف، ولو أردت موقعتها إيديولوجيا يمكنك أن تقول “هي الجريدة الوحيدة التي تصلح لشيء آخر غير مسح زجاج السيارات”.

قالت أخبار اليوم كلاما مختلفا وجديدا، واتسعت للأزمة والأحداث، كانت شاهدا على مغرب يتقدم ليتراجع، يسير خطوة إلى الأمام وعشرة إلى الخلف، وكانت تفتح صفحاتها للتعبير عن هذا البوح الجماعي والقلق المواطن بمنسوب كبير من الاعتدال والحياد، والوطنية الخالية من سرطان الفاشية والرأي الوحيد، كانت بديلا عن الخواء. 

فرض عليها قسرا دور “المعارضة” في زمن المديوكريتي وهي التي لم تحاول سوى أن ترمي حجرة في بركة راكدة، فسيق صحافيوها تباعا إلى السجون، وجرت إلى هذه الخاتمة، كان كل شيء يدفعها إلى هذه النهاية المؤلمة، لأنها كانت خيارا آخر مغايرا للسردية الموحدة للسلطة، وغسل الأدمغة.

يا ليتها تأخرت قليلا، أو كثيرا، لكن ما كان ممكنا لها أن تستمر أكثر في زمن قرر فيه كهنة المعبد إحراق الحديقة الخلفية، وكانت “أخبار اليوم” تهرب دائما من هذه الحديقة إلى فضاءات أرحب، لكن لم يكن ممكنا أن تستمر “أخبار اليوم” في الحياة وكل شيء يموت حولها في بلاد لا يصلحها “ترقيش” كلام أو جمل أو نوايا صالحة. فقد ماتت السياسة والثقافة، وانهارت أخلاق الدولة ومعها المجتمع، فلماذا لا تموت أخبار اليوم؟ 

واليوم ونحن مضطرون لنسير خلف النعش، وبصرف النظر عن الأسباب المعلنة وغير المعلنة لهذا الإغلاق وهل أخبار اليوم كانت ضحية السلطة وحدها أم كان لظلم ذوي القربى دور في موتها، فإن صمت أخبار اليوم هو في الواقع انسجام مع واقع اليوم، واقع التتفيه والضجيج الفارغ للمعنى، والقتل المعنوي للعقل والذكاء الذي يجري تزيينه للجمهور، الزمن الذي أنتج أخبار اليوم تبدل، والسير في طريق آخر معاكس لحقيقة السلطة بات يشبه الانتحار.

جريدة من طينة أخبار اليوم لا تموت إلا بهذه الطريقة، هذا هو شكل الموت الذي يليق بها، لكن المؤلم أكثر في موتها، ليس هذا الشعور القاتل بأننا سنكون وحيدين جدا بعدها-وحدنا تماما في حضرة أبو وائل وصحبه- شيئان اثنان: أن “أخبار اليوم” ستظل خبرا يوميا حزينا نقرأه كل يوم، لأن سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين وهاجر الريسوني وعفاف برناني ما زالوا خبرا مُعبِّرا عن مرارة الأيام في مغرب اليوم، وأن خيالنا المقاوم أصبح محدودا.

لا أخبار لنا اليوم بعد الآن، شكرا وإلى اللقاء.