صحافة البحث

الطب والاستعمار في المغرب: كتاب يُعيد مُساءلة حقيقة البعثات الفرنسية [مقتطفات حصرية]

- الإعلانات -

أصدرت En toutes Lettres، حديثا كتاب «الطب والاستعمار في المغرب تحت الحماية الفرنسية » وهو محاولة نوعية تدخل في مقاربة تصفية الاستعمار في مجال الثقافة والبحث العلمي (décolonisation). الصديقي الذي يشتغل في مهنة الطب يقترح هذا البحث لتفكيك كيف استعمل المستعمر الطب والبحث العلمي قبل فرض الحماية 1912، وذلك من أجل فهم المغرب وطبائع المغاربة لتعبيد الطريق للجيوش الفرنسية. 

موقع µ يقدم مقتطفات حصرية من الكتاب الذي أصدره رضا الصديقي ويتواجد حاليا في المكتبات المغربية:

في إحدى مهماته لسنة 1877، ظهر الدكتور فرناند ليناريس، وهو طبيب عسكري يبلغ من العمر 27 عامًا (آنذاك)، هذا الطبيب الذي أصبح فيما بعد، لما يقرب من عقدين ،  المصدر الأكثر قيمة للاستخبارات الفرنسية والعميل الدبلوماسي الأكثر تأثيرا لوزارة الخارجية الفرنسية داخل البلاط الشريف.  ولقد وصل فرناند ليناريس الذي كان آخر من ألحق بقائمة الأعضاء الثمانية في الوفد بقيادة الملازم بيركمان إلى وجدة قادما من الجزائر حيث خدم في الجيش الاستعماري. بعد فترة ولاية أولى مدتها خمس سنوات وتجديد كامل البعثة ، كان هو الوحيد الذي أعيد تعيينه.بعد تأقلمه بلطف مع بيئته الجديدة، ترك بصمته تدريجياً في البلاد، انتظر هذا المواطن من دوردوني بصبر ساعته التي انتهت بالوصول اليوم الذي تم استدعاؤه لعلاج مولاي حسن، الذي يعاني من شكل موهن من حمى التيفويد.  شفاء السلطان جعل منه على الفور حميما للسراي ومكنه من الفوز بثقة الملك إلى الأبد. يكتب: “أعتقد الآن أنني نجحت في التغلب على أكبر الصعوبات من خلال الدخول في علاقات مع السلطان. سوف أكون منذ الآن في حضرة جلالة الملك الشريف، أي أنني سأشارك في جميع الرحلات الاستكشافية على أراضي الإمبراطورية، ودراسة أعراف وعادات السكان، وسأكون على علم بكل السياسات المغربية. لقد دامت فترة تدريبي سبع سنوات، لقد حان الوقت للقيام ببعض الأعمال المفيدة”. 

منذ ذلك الحين،  حل الدكتور ليناريس في مكاتب جميع الوزراء، وقدم النصائح والتوصيات إلى السلطان، وبالتالي كان قادرًا على منع الخطط الألمانية والإنجليزية لتثبيت التلغراف، وبنك حكومي و خدمة بريدية وذلك  حفاظا على المصالح الإستراتيجية لفرنسا. حتى أنه رافق السلطان في المحلة الخاصة به، ولا سيما في المحلة ذات الرمزية العالية، في تافيلالت حيث  يرقد الشرفاء العلويين، وهو  ضريح عادة ما يحظر على جميع المسيحيين. هذا البروز في المراتب العليا للسلطة لم يمنعه من الحفاظ على اتصال وثيق مع أهالي فاس الذين أجرى لهم  استشارات طبية منتظمة في فترة ما بعد الظهر، مما سمح له أيضًا بالتعرف على اتجاهات وميول طرف آخر من المجتمع.  تنضاف إلى معرفة الرجال هذه، معرفة ميدانية صقلها في أسفاره وبعثاته مع مولاي حسن، كما لم يفشل، في بعض الأحيان، في تصحيح بعض التقديرات التقريبية للدراسة المتماسكة التي قام بها النبيل دوفوكو. 

لذلك ليس هناك شك في أن الدكتور ليناريس كان مبشرًا على درجة عالية من الإطلاع، وكان يمتلك معلومات حساسة للغاية ومفيدة للغاية ومباشرة. ولكن قبل كل شيء ، كان على اتصال مباشر بمندوبيته في طنجة ، عبر “رقّاص” شخصي،  موزدا إياها بشكل لافت للنظر بملاحظات وتقارير ، و”رسائل رسمية كبيرة” تهدف إلى خدمة المشروع الاستعماري.

عند وفاة مولاي الحسن سنة  1894، احتفظ مرة أخرى بمنصبه المتميز بفضل علاقاته الجيدة مع الحاجب القوي باحماد. تمت ترقيته كدبلوماسي وحامل رسائل رئيس الجمهورية الفرنسية، فكان بذلك أول موظف مدني أوروبي يستقبله السلطان الجديد مولاي عبد العزيز. واستمر في ظل هذه الظروف،لمدة ست سنوات أخرى، في تقديم “خدمة جيدة ومخلصة” لأمته حتى رحيل باحماد الذي قرع ناقوس نفوذه في البلاط. ثم حل محله عملاء “ألبيون الغادر”، القائد ماك لين (Mac Lean) والطبيب إيجبرت فيردون. توقف نجمه عن التألق ببطء، وفيعام 1902 تقاعد للأبد في موطنه الأصلي بيركورد، حيث اشترى القلعة القديمة المحصنة للقرية ، والتي حولها برعايته إلى قصر إسباني موريسكي جميل. 

الزهري “العربي”

حالة الدكتور جورج لاكابير وأطروحته الشهيرة عن مرض الزهري العربي، موضوع دراسة ملحوظة أجرتها هانا لويز كلارك، هي رمز للعنصرية العلمية الشائعة جدًا في ذلك الوقت. […] صدرت في العام 1923، أطروحته الزهري العربي، وهي عبارة عن نص مكون من 492 صفحة مزوَّدًا بـ 77 لوحة فوتوغرافية تم فيها أخذ كل أهوال المرض ووحشية المرض، التي غالبًا ما يتم تضخيمها، من زوايا مختلفة. خلط الدكتور لاكابيربين مرض الزهري التناسلي – وهو مرض معد بالطرق الجنسية ويزداد تعقيدا بالإصابة ب النوبات العصبية والحشوية – مع الزهري المستوطن الذي أسماه “الزهري العربي” ، وهو مرض جلدي تسببه باكتيريا اللولبية الشبيهة بالأول وينتقل عن طريق اتصال بسيط – هذا في حد ذاته ليس مفتوحًا للنقد لأن العلاقة بين الأنواع الفرعية المتعددة للبكتيريا والمتلازمات السريرية المقابلة لم يتم توضيحها حتى عام 1951. إن ما  يستدعي في المقابل للتعليقات، هي الإجابات التي قدمها لشرح التناقضات بين الصورتين السريريتين. رافضا لاحتمال وجود اختلافات بيولوجية بين مضيفي الجراثيم، بما في ذلك العرق وفقًا للنظريات الشعبية أو بين السلالات الميكروبية كما اقترحه إليس هدسون في أواخر العشرينات من القرن الماضي، فإنه أرجع تفرد “الزهري العربي” إلى مستوى الحضارة والعادات الثقافية للسكان الأصليين. لذلك ارتبطت الآثار المشوهة للمرض ارتباطًا وثيقًا بنمط حياة المسلمين المغاربة، ويمكن التحقق من ذلك، وفقًا لاكابير، في ثلاثة مجالات: الملاريا والكحول والنشاط العقلي.

التقدم في الطب العالمي

لم تقتصر مساهمة المستعمرات في تراكم المعرفة  وتوطيدها في فرنسا، على الإنتاج العلمي المحلي ، الذي نقل فيما بعد إلى البيت الأم ، بل شمل أيضا النقل المستمر للمواد البيولوجية.. ومن أركان الإمبراطورية الأربعة ، كانت السلالات والمحاصيل والحيوانات التي تحتوي على الكائنات الدقيقة تتوافد للدراسة والتحليل والتخزين في فرنسا القارية..  الواقع أن الظروف السفرغير المستقرة والمعدات التي تتكيف بشكل سيئ مع البيئة الاستوائية جعلت نقل الميكروبات  يتقلص في كثير من الأحيان إلى مجرد نقل  لحيوان أو أكثر من الحيوانات المصابة، والتي تستخدم كدعامات ومواد حافظة للمواد الحية. وهكذا، على سبيل المثال، حكاية الدكتور جوستاف مارتن، مؤسس معهد  باستور في برازافيل، الذي عاد إلى فرنسا بعد رحلة استكشافية إلى غينيا، وأعاد معه مجموعة كاملة من الطيور، الببغاوات، القرود،الماعز، والخنازير… حاملة لعدة أنواع من داء المِثْقَبِياتِ trypanosomes.

أخيرًا، كان تنظيم الدورات، التي قدمها رعاة بارزون من أقاليم ما وراء البحار في معهد باريس أو في  الكوليج دو فرانس، طريقة أخرى للاستفادة القصوى من الخبرة ومجال الامتياز الذي اكتسبه هؤلاء الرجال في المستعمرات. وبالمثل، عُقدت مؤتمرات بانتظام في المقر الرئيسي بباريس حيث تمت دعوة متخصصين جدًا، يأتون أحيانًا من أعماق الأدغال، لمشاركة أفكارهم ونشر علومهم.

في التحليل النهائي، ليس هناك شك في أن معهد باستور كان لاعباً مهماً في تحسين الصحة في المُستعمرات، في المغرب وأماكن أخرى، بشكل رئيسي من خلال إنتاج اللقاحات والأمصال. كان القضاء على الأمراض المعدية، وهو المثل الأعلى المكرس في أصول اليوتوبيا الرعوية، المحفز، إلى جانب اعتبارات أخرى، محاربة الأوبئة التي كانت تمثل في ذلك الوقت مشكلة صحية عامة.

لكن في حين أن هذا الفعل الاستراتيجي معروف، ومُثنى عليه،  محتفى به، وممجد، فنادرًا ما يذكر إسهام هذه المستعمرات في تطوير المؤسسة، ناهيك عن تسليط الضوء عليها. ومع ذلك، لم تكن المساهمة طفيفة أو لمرة واحدة، بل على العكس كانت ضخمة وطويلة الأمد. من الواضح أن الإصرار على جانب واحد فقط من التبادل، وهو ثابت في التاريخ الاستعماري، يميل إلى تقدير جانب واحد على حساب الآخر،  ونتيجة ذلك أكثر ضررًا، على حساب الحقيقة التاريخية.

من يكون الصديقي؟ 

رضا صديقي

ولد رضا صديقي في الرباط سنة 1974، وهو حاصل على دكتوراه في الطب من جامعة محمد الخامس، درس اللغة الإنجليزية في كلية مدينة سان فرانسيسكو (كاليفورنيا) بين عامي 2000 و 2001. ثم مارس الطب العام في إقليم أزيلال  (الأطلس الكبير)، قبل بدء التخصص فيجراحة المسالك البولية في الرباط ثم في رين، بفرنسا.
نشر العديد من المقالات في المجلات العلمية الوطنية والدولية (Maroc Médical ، Progrès en Urologie ، المجلة العربية لجراحة المسالك البولية، المجلة الإفريقية لجراحة المسالك البولية، إلخ..) ورواية حول المشاكل الاجتماعية للهجرة غير الشرعية في المغرب: « دفتر زهير » (الفينيك، 2015. جائزة الأطلس الكبير، 2016). 

الطب والاستعمار في المغرب تحت الحماية الفرنسية | رضا الصديقي | مارس 2021 | 272 صفحة | 95 درهم 20 €