صحافة البحث

المغرب، الجزائر والصحراء: ذاكرة جوار عدائي، و نزاع مُفتعل (1/2)

- الإعلانات -

” هناك من يستشهد بالتاريخ لفهم الحاضر،

 وهناك من يستشهد بالحاضر لفهم التاريخ.

 فالأول يلتجئ إليه من يحترف  العمل السياسي،

 والثاني يلتجئ إليه من يهتم  بالفكر التاريخي ” [1]

زكي مبارك

تاريخ العلاقات المغربية الجزائرية، صعب ، معقد ومخيب للآمال [2]، في الكثير من وقائعه ومعطياته. تاريخ يشهد توترا وشرخا ” وجوديا ” ، يعكس عمق الأزمة والأسباب الكامنة وراءها، وكذا تعقد واختلاف الملفات والمقاربات المقترحة لحل النزاع، وبالتالي يؤكد استمرار تجليات التوتر والاحتراب، بشكل يجعل كل إمكان لطي صفحة العداء “التاريخي “بين النظامين ” الملكي ” و “الجمهوري”، مستحيلة.

لقد أصبحت تجليات الجوار العدائي والمتوتر، ليس فقط غير مجدية أخلاقيا، و غير منتجة سياسيا. بل وأيضا، أكدت أن رهانات التقارب والمصالحة غيرموجودة ومستبعدة [3]، ورمت البلدين في دوامة تنافس وخصومة مزمنتين، استقرت ثقافيا وسياسيا في المخيال الجمعي المغربي الجزائري.

وتُرجِعُ بعض الدراسات [4] ، جذور هذا الصراع إلى العقيدة العسكرية الجزائرية، المستندة على شرعية العنف الثوري في مقاومة الاحتلال، والتي ولدت خاصيتان تطبعان، بعمق، الثقافة السياسية المُهيمنة لدى الدولة الجزائرية. أولها تصور العنف كأساس للسياسة. وثانيها، أن السياسة لا تمارس إلا على الأجانب والخونة. [5] بل تذهب إلى أبعد من ذلك، حين تؤكد على بداية بروز “براديغم ” يفسر الخلفية المتحكمة في هذا الجوار الصعب، والتوتر المتجدد، وينطلق من اعتبار مشكلة الصحراء ” كمجال إسقاط واستعراض لقوة الجزائر ” [6] وأن انخراط الجزائر في الصراع الإقليمي حول الصحراء، فرضته حسابات سياسية واستراتيجية داخلية، عمقها نزوعات القيادة والزعامة الإقليمية التي أبان عنها الرئيس هواري بومدين، جعلت من القيادة الجزائرية” مهندسة القضية الصحراوية ” وحاضنة لها.

إن تتبع وقائع هذا التاريخ العدائي للقيادة العسكرية المفلسة في الجزائر، والتي تتورط فيها البوليساريو، الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواديالذهب، في إطار حرب بالوكالة ضد دولة مجاورة ذات سيادة، تدفعنا إلى محاولة الرجوع إلى حيثيات التاريخ بغية محاولة فهم أسباب هذا الجوار المتوتر والعدائي، لكي لا نبقى حبيسي نظرة أحادية تقف عند تجليات الأزمة ( تراشق إعلامي، تخوين…) .

ونبادر إلى التأكيد بدءا، على تظافر عدة عوامل، تاريخية، إيديولوجية وجيوسياسية، إقليمية وجهوية، لتجعل من التناقض الحاد بين البلدين، قاعدة لرهن قضية الصحراء في إطار صراع سياسي إقليميي، لعبت فيه تقاطبات الأطراف المغاربية وتجاذباتها، و عجرفة ” العقيدة العسكرية ” دور المؤسس والموجه.

والمثير للجدل، أن القيادة الجزائرية الراعية لجبهة البوليساريو ولمشروع الانفصال، التي لم تنجح طيلة عقود “الثورة والجمهورية ” في تحقيق رهانات البناء التنموي ولا الديمقراطي، تستعمل مبدأ ” تقرير المصير ” الداعم والمؤسس لأطروحة ” التحرر والانفصال ” ، بمنطق يختلف باختلاف السياقات والرهانات والخلفيات، لا تتعامل ديموقراطيا مع مطالب مختلف الحراكات الشعبية في عدة مناطق على امتداد التراب الجزائري وخاصة منطقة القبائل .

إن حقائق التاريخ وألغامه، تفيد معطيات تؤكد اهتزاز المشروعية المؤسسة للنزاع المفتعل، وتؤكد غياب النضج السياسي لدى أطراف النزاع، وعدم مصداقية مزاعم روابط الأخوة وحسن الجوار والتاريخ والعيش المشترك.

وتؤكد المناوشات المتعددة والمتكررة، استمرار القيادة العسكرية الجزائرية، في تأبيد منطق الاستنزاف، والاستمرار في استحواذ وتبذير ثروة طائلة، على رعاية مشروع انفصالي اهتزت مشروعية استمراريته، ثروة يستحق الشعب الجزائري الاستفادة منها . إن العزم الجزائري على تأبيد النزاع وزعزعة الاستقرار، هو بمثابة حرب استنزاف وإنهاك مُعْلَنَة، نابعة من أساس إيديولوجي اتخذ من ” زمن الثورة والجمهورية ” ذريعة لتسويق الوهم ورعاية العداء والانفصال.

تعود التوترات والمزايدات بشكل دوري، تُراكِمُ صيرورة التعقيد والتلغيم والقطيعة، وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن ” لغة التصعيد وشد الحبل بينالجارين المغاربيين ، ليست وليدة الظرفية الحالية، ولكنها انبعاث من تحت الرماد، لجمر اشتعل قديما، ولم تنضج بعد، شروط التخلص منه بالمرة ” [7]

عُقَدُ الذاكرة والتاريخ، وتأسيس النزاع والاحتقان

لفهم النزاع الجيوسياسي القائم، حري بنا أن نعيد قراءة الوراء التاريخي للدولتين، في محاولة ” لِتَقْوِيلِ ” ذاكرة هذا الصراع المفتعل، وتتبع العواملالبارزة في سيرورة تأزيم العلاقات، والقضايا المركزية الفاعلة والمؤثرة في هذه الأزمة.

إن تتبع مآلات هذا الجوار العدائي، لن يتم بمعزل عن الرجوع إلى وقائع التاريخ نفسه، وتحديدا إلى بداية التدخل الاستعماري في المنطقة، تاريخ بداية الاستعمار الفعلي للجزائر (1830)، و لهزيمة المغرب العسكرية أمام الجيوش الفرنسية في معركة إيسلي ( 1844 ).

إن الغوص في هذه الوقائع التاريخية ، يجعلنا نفهم أن الجزائر، انطلقت في العلاقة مع المغرب، من انسداد سياسي Blocage ، يتأسس على عدة عُقَدٍ تاريخيةٍ، رهنت مستقبل العلاقة بين البلدين.

أولا، شكَّل اختلاف التطور التاريخي للبلدين ” منطلقا تأسيسيا ” لترسيخ ألغام التاريخ وتعميق مؤشرات التباعد و الجوار العدائي . و تؤكد العديد من الكتابات التاريخية والدراسات السياسية [8]، هذا الاختلاف وتتطرق للعديد من تجلياته ،سواء في المراحل ” الإمبراطورية ” أو المرحلة الكولونيالية اوخلال مرحلة مابعد الاستقلال.

يمكن القول، أن أولى مؤشرات الخلاف، ترتبط بشكل وثيق ، بحقيقة حضور الدولة وتطورها التاريخي المختلف للدولتين : تطور ينتقل من عمقٍ واستمراريةٍ تاريخيةٍ، وتراكمٍ في الاستقلال السياسي في الحالة المغربية، إلى احتلالاتٍ متتاليةٍ، ودويلاتٍ متعددةٍ، وغيابٍ لسلطةٍ مركزيةٍ وهويةٍ قوميةٍ وغموضٍ تاريخيٍ، في الحالة الجزائرية، ” فالمغرب مصدر السلطات والإمبراطوريات ونقطة تجمع للتاريخ الإسلامي العربي في شمال أفريقيا. و بالمقابلفإن الجزائر، كوحدة سياسية، تسعى لانتشال نفسها من غموض تاريخي وإيجاد هوية قومية بدونها تنتهي الثورة إلى مأزق حاد، دواؤه الوحيد الذوبان فيوحدة المغرب العربي ” [9]

هذا الغموض وغياب العمق والاستمرارية التاريخية، يؤكد ما تعانيه النخبة السياسية والأكاديمية والعسكرية الجزائرية من ارتباك يتعلق بالعمق التاريخيللدولة ككيان وحدوي ومؤسس. بل وصل هذا الارتباك إلى الحد الذي عرفت فيه الجزائر في السنوات الأولى للاستقلال، نقاشات حادة إن على مستوىإشكاليات الانتقال من سياق الأمة إلى مرحلة الدولة القطرية، أو مستوى رؤية الجزائر لقضايا الوحدة والتجزئة في المغرب العربي، أو على مستوى توصيفوتكوين المجتمع الجزائري (شعب ، أمة) [10] . إن غياب الاستمرارية التاريخية للدولة الوطنية، وخضوع الجزائر في فترات تاريخية متعددة ، لاحتلالاتمتكررة، يعمق من هذا الشعور، وتلك المعاناة . فتاريخ الجزائر هو تاريخ احتلال، منذ العصر الوسيط، غابت فيه دولة مركزية مؤسسة وبانية.

وقد استمر هذا النقاش حتى في مرحلة ما بعد الاستقلال، وبنفس العمق والجرأة والحِدَّة. ففي “مُقارَبَةٍ مُقارِنَةٍ ” حول تاريخ العلاقة المغربية – الجزائرية، يحدد أحد الأكاديميين [11]، مسار التاريخ المتوازي ومآل المصير العدائي للدولتين، حيث يؤكد حقيقة اختلاف تطور المسار التاريخي للدولتين” اقترنت لحظة الاستقلال لدى الوطنيين المغاربة، باستعادة أمجاد الماضي، بالعودة إلى التاريخ، وإلى الالتفاف حول الملكية، واقتراحها كنموذج لتوحيدالبلاد. بالمقابل انتهج الجزائريون من “جيل الفاتحين “، قطيعة مع الماضي، ونفيا لفتراته ووقائعه، رفضا يشرعن اختيارات الحاضر. ولم يشمل هذا الرفضفقط، المرحلة الاستعمارية، بل أسقط ” الهوس الثوري” حتى الوجوه المؤسسة للوطنية الجزائرية، كعبد الحميد بن باديس ومصالي الحاج، وغيرها منالمرجعيات الملهمة للتنظيمات الاستقلالية الجزائرية ( نجم شمال إفريقيا 1926 ، وحزب الشعب الجزائري 1937 )، في شكل نزوع لعزل ” الأب ” المزعجوالمعيق. لقد امتد التاريخ المغربي كلحظة مُوَحِّدَة ومُوَحَّدَة. عكس التاريخ الجزائري الذي تم النظر إليه كتاريخ معطوب، مشوه. بدايات متكررة، خسائروتمزقات متعددة ” [12].

ثانيا، انبنى سوء الفهم الكبير و ابتدء من حدث مبايعة أهل تلمسان للسلطان عبد الرحمن بن هشام مباشرة بعد سقوط الجزائر 1830 . كما ارتبط بمااتسم به تاريخ علاقة الدولة المغربية والجزائر منذ فترة الولاية التركية ( القرن السادس عشر)، من ” توتر يكاد لا ينقطع ” [13] . إن الانتفاضات المتوالية ضد الأتراك بغرب الجزائر، ” كانت جلها بقيادة زوايا لها ارتباط بالمغرب ” [14] . واستمر هذا التوتر مع تكرار مطالب المغرب الترابية فيشرق الجزائر ( بعض فصائل بني يزناسن، منطقة التل، واد تافنة ، بشار…) [15] ، و تعمَّق خاصة مع وقائع مبايعة أهل تلمسان وعدد من القبائلالجزائرية للسلطان المغربي عبد الرحمن بن هشام (1789 – 1859)، طلبا للحماية . إن أمر المبايعة هذا، بما هو تعبير عن تهاوي” البناء الإمبراطوري”التركي ، وإعلانا لبداية مسلسل التحرش والضغط الاستعماري الفرنسي بالمنطقة، فقد كان ، أيضا، تأكيدا على ” قوة المغرب” وقدرته على منح الحمايةلجزائرٍ تخاف الاقتتال والتفرقة والاحتلال.

ثالثا، عقدة مرتبط ببداية التغلغل الفرنسي بالمنطقة، وأيضا، ببداية المقاومة من أجل التحرر والاستقلال.

لم تتقبل الجزائر، ولم تغفر للمغرب، قرار السلطان عبد الرحمن بن هشام (1882 – 1859)، تحت ضغط الفرنسيين ، قبوله وقف التعاون و الدعم وفقمعاهدة لالا مغنية، (1844)، لقائد المقاومة الجزائرية، اللاجئ بشرق المغرب( وجدة ) ، الأمير عبد القادر الجزائري في شتنبر 1845. وهو قرار اعتبرهالجزائريون ” خيانة مغربية ” في حق المقاومة الجزائرية، وشكل ” بداية لنهاية مشروع الأمير في مقاومة الاحتلال وجلاء المستعمر “. و يمكن القول، وللحقيقة التاريخية، أن سقوط الجزائر في يد المستعمر (1830)، فرض واجبا أخلاقيا، تضامنيا ونضاليا ، استوجب دعم المغاربة للمقاومة الجزائرية ماديا، عسكريا وبشريا، و قبول لجوء واستقرار الأمير عبد القادر ابتداء من 1843 بالمغرب الشرقي . في ظرفية بدأت فيها ” الأمبراطورية الشريفة ” تترنحتحت وقع الضربات العسكرية المتتالية ( هزيمة إيسلي 1844، هزيمة تطوان 1859) ، وما رافقها من فرضٍ لمعاهداتٍ تجاريةٍ غير متكافئة على المغرباستنزفت إمكانياته وأنهكت قدراته.

لن نبالغ إن قلنا، أن هزيمة إيسلي، التي أفضت إلى اتفاقية طنجة المجحفة بتاريخ 10 شتنبر 1844، والتي اعتبرتها الجزائر ” استسلاما مغربيا “، اعترف فيها المغرب بأن الجزائر هي جزء من الإمبراطورية الفرنسية، ووافق على اعتقال وتسليم [16] الأمير عبد القادر الجزائري للسلطات الفرنسية.إذا ما أضيفت إليها معاهدة لالا مغنية، الموقعة في 18 مارس 1845، كتقييد إلزامي للمغرب يتعهد فيها بعدم دعم المقاومة الجزائرية، و القبول باستمراريةالحدود الموروثة عن فترة الحكم التركي للجزائر، كحدود فاصلة بين المغرب وبين الجزائر المستعمرة ، والالتزام بترسيم حدودي مُلْتَبَس ومُجْحِف، تخلى فيهالمغرب عن أجزاء من ترابه ومن حدوده الشرقية ، إضافة إلى معاهدة ثانية موقعة سنة 1860، عقب هزيمة تطوان ( 1859 )، أجبرت المغرب علىالتخلي عن سيدي إفني للأمبراطورية الإسبانية ، كل هذا ساهم في ” نزع الهيبة ” عن المغرب ، و أشَّرت لبداية مسلسل التهاوي أمام فرنسا.

يؤكد المؤرخ الطيب بياض، أن ” هذه المحطة تشكل منطلق سوء الفهم بين الجارين، لما رافقها من التباس فتح الباب على مصراعيه لتأويل متباينلما حصل. ودخل المؤرخون ، بل وحتى الأدباء على الخط، منهم من تحدث لغة التخوين، ومنهم من أقر بدعم مغربي واضح في حدود المستطاع للمقاومة الجزائرية. لكن ما عَمَّق التباين في تحليل معطيات ما حصل، هو أن مجريات الأمور تمت في زمن الانتقال من منطق الأمة، إلى منطق الدولة القطرية.وبين منطق الفقيه ومنطق السياسية، تَفاوَت تقدير الانتظارات والممكنات ” [17]

إن هذه الهزائم والمعاهدات اللامتكافئة، أرخت لبداية مسلسل التحرش الاستعماري الفرنسي بالمغرب، وابتدأ التغلغل عمليا بمجموعة من الاقتطاعاتالترابية. وهذا هو منطلق الصراعات الحدودية المقبلة بين المغرب والجزائر.

رابعا، ويتعلق بسياق حصول البلدين على الاستقلال. لم تستسغ الجزائر أبدا ، ان تفضي سيرورة المقاومة و التحرير المغربيين إلى اتفاقات إيكس ليبان (1955)، وتوقيع اتفاقية الاستقلال في 2 مارس 1956، أي بعد 44 سنة من المواجهة والقتال. بينما، لم تحصل الجزائر على استقلالها، إلا في سنة 1962، أي بعد 132 سنة من النضال، والخسائر البشرية والمادية، من النهب والدمار، مخلفة ما يفوق المليون شهيد.

وتعتبر الجزائر هذا المعطى، دليلا آخر على “خيانة المغرب” في حق الجزائريين والتونسيين، اعتبارا لأن البلدين، إلى جانب المغرب، وفي إطار توافقات والتزامات ” لجنة الدفاع عن شمال إفريقيا “، التي تحولت ابتداء من يونيو 1926، إلى ” نجم شمال إفريقيا” بزعامة مصالي الحاج. تعهدت لجنة الدفاععن الشمال الإفريقي، باتفاق أطرافها الثلاثة، بإنجاز حلف أو تحالف يهدف إلى تكثيف أشكال المقاومة و تشدد مواجهة المستعمر المحتل. ولم تتفهم القيادة الجزائرية، أن موازين القوى رجحت كفة المقاومة المغربية وسرَّعت بإنهاء الاحتلال الفرنسي للمغرب وفي تونس، دون إنهائه بالجزائر ، وهذه النقطة بالذات، تشكل أصلا من أصول الأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية [18]

خامس هذه العقد التاريخية، تبلورت في التمايز بين شكل وطبيعة النظامين السياسيين للبلدين، نظام ملكي دستوري بالمغرب، وجمهورية اشتراكيةبالجزائر. لقد اعتبر ” ثوار الجزائر ” والنخب السياسية والعسكرية الجزائرية، أن المغرب، بنظامه الملكي، نظام تابع لا يتمتع باستقلال عن الدوائرالإمبريالية، الفرنسية والأمريكية، ويجب الدخول في حرب استنزاف وإنهاك ضد اتباع النيوكولونيالية، و “حرق أي شبر تطأه الامبريالية ” في شمالإفريقيا، التي يستعد “ثوار بلد المليون شهيد ” إلى تحويلها إلى قبلة لثوار العالم الثالث، من خلال استقطاب كل حركات التحرر الوطني العالمية. ولأننا فيسياق تنامي المد الثوري، وتقاطع تجليات وتعبيرات معارك التحرر والانعتاق، ستتمكن جبهة التحرير الوطني من فرض وتوقيع اتفاقيات إيفيان 18 مارس 1962، التي أَرَّخَتْ لنهاية الاستعمار الفرنسي للجزائر، وبداية محاولات “النخبة الثورية “، بناء دولة وطنية، مستقلة، ثورية وذات سيادة.

ستنضاف إلى هذه السيرورة، عقدة تاريخية أخرى، ما بعد كولونيالية هذه المرة ، جاءت لتعمق من واقع العداء والشرخ. الحديث هنا يتعلق بحربالرمال، كصراع مسلح اندلع بين المغرب والجزائر في أكتوبر 1963 ، بسبب مشاكل حدودية بينهما ، ترجع إلى سنة 1950، عندما استولى الاستعمارالفرنسي على منطقتي بشار وتندوف، وضمهما إلى الأراضي الجزائرية. طالب المغرب باسترجاع المنطقتين فور توقيع معاهدة ايكس ليبان. واعترفتالجزائر بمشكل الحدود، والتزمت بحل المشكل مع المغرب، من خلال توقيع فرحات عباس ، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة ، اتفاقا مع المغرب ( يوليوز 1961) ، مباشرة عند استقلال الجزائر. لكن، بمجرد ما حصلت الجزائر على استقلالها، بادر الرئيس بن بلة للتأكيد على ” أن التراب الجزائري، جزء لايتجزأ ” (1962)، تلاه توتر وتصعيد من طرف القيادة ” الثورية ” معتبرة أن مطالب المملكة الحدودية، تجسد ” نوايا توسعية “، وهو ما اعتبرته ” مواقف مُعادية مُقْلِقَة، وتهديدا لوحدة البلاد “. تواصل التوتر والتصعيد، تفجر في حرب الرمال ، التي توقفت بتدخل منظمة الوحدة الإفريقية والجامعة العربية.

في هذا السياق، عمقت جزائر “الثورة” من ” تجذرها ” ومن صراعها مع الامبريالية وأتباعها ، “تناصر” حركات التحرر الوطني ، استنادا لفهم مُلْتَبَس ومُناوِر، لمبدأ ” حق الشعوب في تقرير مصيرها “، وتجعلها آلية لخلق توترات ، و شن حروبا بالوكالة، ووسيلة لزعزعة أمن واستقرار دول عديدة.

تَحوُّل الجزائر إلى قبلة للثوار من إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية ، خولها مكانة محورية في إطار دول العالم الثالث، و داخل دول عدم الانحياز. وهو ماجعلها تبحث عن زعامة جهويا مدعومة بهيمنة بعثية وناصرية إقليميا، عمقت ” تنامي خوف مغربي من تمدد جزائري للهيمنة عليه خصوصا في ظلالحضور المتعاظم عربيا وإفريقيا ودوليا للجزائر ” [19] . ولهذا رسخ المغرب تبعيته لفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية درءا للعدوى الثورية التي تجتاحا لتنظيمات والدول.

إنها ظرفية، مناسبة للجزائر، باعتناقها لإيديولوجية تعبوية عسكراتية، مستقوية بمد ثوري جهوي إقليمي وعالمي، لبدء مسلسل “تصفية الحسابات ” مع الجار ” الخائن ” تابع الامبرياليات.

هنا ستبدأ الجزائر سيرورة ” شيطنة نزاع الصحراء “، بتحويله من أداة للتعبئة من أجل إنهاء التواجد الاستعماري الإسباني بالصحراء، إلى مخطط تآمري على المغرب وعلى مصالحه الاستراتيجية.

فبعد فترة تثبيت أسس ” الثورة ” والجمهورية، في يد عساكر جبهة التحرير الوطني، تَرْجَمَهُ انقلاب عسكري ضد الرئيس أحمد بنبلة ، قاده هواري بومدين 1965، في إطار ما سمي ” القفزة الثورية”، ستبدأ الجزائر في ترسيخ وضعها ، في إطار دينامية إيديولوجية وعسكرية ، تتأسس على ” اشتراكية الحزب الواحد، المختزل في لجنته المركزية “، وتنصيب نفسها مدافعة ومساندة لحركات التحرر الوطني عبر العالم.

هكذا، بعد سوء الفهم والالتباس والتباين في تحليل معطيات التاريخ ووقائعه، بدأت سيرورة الاحتراز والتوتر، تعمق العداء. وستعمل مجريات الأحداثوتضارب مصالح أطراف الصراع، على تأكيد مسار التشنج والتلغيم، وتأسيس القطيعة خاصة في التعاطي مع سياقات الاستقلال ومآلاته.


[1] مبارك زكي. 2007. أصول الأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية. ص 5. الرباط: دار أبي رقراق.

[2]  Stora Benjamin. 2000. “Maroc – Algérie : réflexions sur des relations complexes et difficiles”. les Cahiers de l’Orient.58: 11 – 24

[3] Addi Lahouari. 1999.  introuvable réconciliation entre Alger et Rabat.  le Monde diplomatique. Décembre: 12 – 13

[4] Ouvrage collectif. 2011. Maroc – Algérie :  Analyses croisées d’un voisinage hostile. paris: kartala

[5] Addi Lahouari. 1999. l’armée,  la nation et l’ état en Algérie, confluences méditerranée: 29. 39-46.

[6] voir Le sahara occidental  espace de projection de la puissance algérienne, in Maroc – Algérie: analyses croisées. 109-179.

[7]  بياض الطيب. 2019. الصحافة والتاريخ، إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن. ص: 72. الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشر.

[8]  Laroui. Abdellah. 1995, l’histoire du Maghreb,  un essai de synthèse. Casablanca: Centre Culturel Arab

  Julien Charles-André. 2002. l ‘Afrique du Nord en marche, Maroc Algérie, Tunisie: 1880-1952. Paris: Omnibus, 

  Rivet Daniel. 2002. le Maghreb à l’épreuve de la colonisation. Paris: .Hachette littérature

   Bensamoun Katan. 2000. le Maghreb, de l’empire Ottoman à la fin de la colonisation française. Paris  éd. Belin

[9] الشامي علي. 1980. الصحراء الغربية و عقدة التجزئة في المغرب العربي. بيروت :دار الكلمة.

[10] الأزهر علال. 1988. الصحراء المغربية، الوحدة والتجزئة في المغرب العربي. ص 131-148. الدار البيضاء :دار الخطابي للطباعة والنشر.

[11] Stora Benjamin. 2002. Algérie, Maroc, Histoires paralléles,  destins hostiles. Ed Zellige.

[12] Idem,  p 21

[13] ياسين إبراهيم. 2015. سلطة مغربية في شرق الجزائر، دراسة تاريخية: 1830 – 1832. ص11. الرباط: مطابع الرباط.

[14]  ياسين إبراهيم ، سلطة مغربية. نفسه، ص 18.

[15] برحاب عكاشة. من قضايا الحدود بين المغرب والجزائر. ص 18 – 19. الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشر.

[16] بهذا الخصوص، تتعدد الروايات بين المغاربة والجزائريين، حول ما إذا كان قبولا باعتقال وتسليم الأمير، أم قبولا بطرده، أم استسلم الأمير عبد القادر الجزائري من تلقاء نفسه.

[17] بياض الطيب. الصحافة والتاريخ، م س. ص 74 – 75.

[18]  مبارك زكي. أصول الأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية. م س. ص 181. 

[19] الشامي علي. م س. ص 216.