صحافة البحث

[بروفايل] خالد الجامعي: ورقة أخرى تسقط من خريف الصحافة المغربية

- الإعلانات -

« الشهوة شهوة مول المظل يمشي في الشمس أو الظل ». بهذا المثل، الذي كان الراحل خالد الجامعي (1944- 2021) يردده دائما، كان يلخص حال النظام السياسي بالمغرب. رجل كان يسمي الأشياء بمسمياتها « بلا زواق » ينطق بموقف لا يحتمل القراءتين أو التأويل. بيته مفتوح لكل التيارات السياسية والفكرية. نزع الحجاب منذ زمن بينه وبين أجيال من المناضلين والسياسيين والصحافيين المستقلين. كانت شقته بمدينة الرباط بمثابة منتدى لتبادل الأفكار وملجأ لكل شغوف لفهم الواقع السياسي وسياقاته. 

رحل خالد الجامعي وترك غصة في قلب كل من شاركه حديث أو لقاء ذات يوم. بقي بيته مفتوحا أمام كل زائر أو حائر. في بيته تجد المأمن وأجوبة وجهات نظر عن كل تساؤلاتك. بتواضعه المعهود يشارك زواره مواقفه وآراءه بدون أي تصنع أو مُواربة. يحكي قصصه في السياسة والصحافة بطريقة تجعلك تفهم سياقات تاريخ الصراع بين الصحافة والسلطة، ومعها أخذ العبر. 

خالد الجامعي ابن عائلة استقلالية (والده بشتى الجامعي) عملت في السياسة من واجهة حزب الاستقلال، الذي انتمى له خالد واشتغل مع وزراءهّ، حيث اشتغل سنة 1970 في ديوان محمد الفاسي وزير الدولة في الشؤون الثقافية والتعليم الأصيل، سنة واحدة، والتحق بعد ذلك بجريدة « لوبينيون » لسان حال حزب الاستقلال، بعدما خير بالاشتغال مع عبد القادر الصحراوي في وزارة الإعلام أو الالتحاق بجريدة الحزب. 

من الوزارة للصحافة 

يقول الجامعي حول تجربة اشتغاله في ديوان محمد الفاسي: « لما التحقت بديوان الفاسي كنت اعتقد أن الإنسان يمكنه أن يغير المخزن من الداخل لكن الذي اتضح لي وأنا في منصبي أن العكس هو الذي وقع الإنسان هو الذي يتغير وليس المخزن ».

اشتغل الجامعي مع عبد الحميد عواد، مدير جريدة لوبينيون، كمحرر للصفحة الثقافية، وبعد اعتقال محمد برادة رئيس تحرير الجريدة بتهمة « إهانة الجيش » تكلف الجامعي رفقة صحافيين آخرين برسم هوية وخط الجريدة التحريري، الذي كان مهادنا تارة ومهاجما أخرى. حيث ذكر الجامعي في مذكراته « عندما تكون العلاقة مشدودة متوترة، كان يطلب منا أن نكون أكثر جرأة في الهجوم والانتقاد. أما إذا كانت لينة مرنة، كالتي تكون عليها في حالة المفاوضات، فالمطلوب هو السلم والمهادنة بدعوى الواقعية السياسية ». مضيفا « فقد كان يطلب منا أن نكون أولا وقبل كل شيء، مناضلين صحفيين وليس صحفيين مناضلين، أي بمعنى أدق، أناس منضبطون انضباط العسكر المستعد دائما لتنفيذ الأوامر ».

الرقابة 

« كنا قبل إصدار أي عدد من الجريدة، نطبع منها بعض النسخ ثم نرسلها إلى وزارة الاعلام وإلى مختلف المصالح الأمنية.

وقد كان موظف شاب بالمطبعة يدعى العوني، يأخذ نسخة ويذهب بها باحثا عن رجل الأمن المكلف بالرقابة. وعادة ما كان يجده في إحدى الحانات منكبا على كأس نبيذ يغرق في قعرها همومه، فيرغمه مجيء الموظف إليه للرجوع إلى مكتبه ثائرا مغتاظا وهو يلعن الصحافة والصحافيين الذين يعكرون عليه دائما  صفو نشوته ». بهذه الكلمات وصف خالد الجامعي في مذكراته علاقة الصحافة بالرقابة في عهد سنوات الرصاص وكيف كانت تدور لعبة « الصحافة والسلطة ». 

يضيف الجامعي أنه « كان العوني يتوجه إلى إدارة الأمن الوطني لتسليم قرارالاذن بالطبع في حالة الموافقة. أما إذا كانت هنالك ملاحظات من قبيل إدخال تعديلات ما، فكان الشاب يرجع إلى إدارة الجريدة ويتصل بمديرها لاتخاذ قراره بقبول أو عدم قبول إجراء التعديلات ». ليوضح « فإذا رجح كفة القبول، كلف صحفي المناوبة إما بإعادة صياغة المقال وإما بحذفه نهائيا وتعويضه بغيره ».

وبعد هذه العملية المملة الطويلة، يضيف با خالد، كما كنت أناديه، كان على « العوني المسكين أن يرجع من حيث أتى ليقوم بنفس الطواف الذي قام به في الأول. غير أنه في بعض الأحيان، قلما كانت تعجب الرقباء إعادة صياغة المقال، فكانوا يصدرون الأمر بمنع طباعة العدد، هكذا… بكل بساطة… ». 

انطلاقا من هذه ساعة المنع، يوضح الجامعي كان « يأتي دور رجال الأمن مع رجال الاستعلامات العامة المرابطين بصفة دائمة أمام مقر الجريدة يتقدمهم وجه معروف يدعى «با المكي»، فيشرعون بتفتيش العاملين في المطبعة تفتيشا دقيقا عادة ما كان يرفق باستعراض مبالغ فيه للقوة مع التلفظ بأفحش وأقذع العبارات القديمة والمستحدثة في قواميس الشتم والسباب ».

اعتقال: والتهمة: “نشر صورة مولاي رشيد”

في ماي 1973 سيقتاد الجامعي معصب العينين من مقر «لوبينيون» إلى الاعتقال. والتهمة: نشر صورة  الأمير مولاي رشيد، إلى جانب طفل يتسوّل بأحد شوارع الرباط. حكم على خالد بستة أشهر سجنا نافذا مع المنع من ممارسة مهنة الصحافة. سيعود خالد الجامعي إلى جريدة لوبينيون أواخر السبعينيات كمحرر متخصص في الأخبار الدولية. حيث سيقوم بتغطية الثورة الإيرانية سنة 1979 ويجري حوارات مع القيادات الفلسطينية وخصوصا التابعة لحركة فتح. كما سيحاور الجنرال الإسرائيلي « ميتي بيلد » سنة 1982 وذلك بطلب من ياسر عرفات. 

الصدام مع البصري 

شكون أنت؟ سؤال البصري لخالد الجامعي في مكتبه بعد كتابته لمقال ناري يتهم فيه وزارة الداخلية بتزوير الانتخابات. وهو ما دفع بالبصري باستدعاء رفقة مدير الجريدة إلى مكتبه. يحكي الجامعي: « دخل الصديق معنينو يحمل مقالي وبيده قلم «فوتر» وبدأ يقرأ ما كتبته: «.. ويقول إن الانتخابات قد زورت.. ويقول كذا ويقول كذا»، بينما الإدريسي القيطوني (مدير الجريدة) يرتعد خوفا. وفي لحظة ما، أمر البصري معنينو بالتوقف عن القراءة، وتوجه إلي مهاجما: «قوا منك وصح منك طحنتهم». فجأة، ودون وعي أو تفكير، وقفت والدم محتقن في وجهي، وتوجهت إليه: «آش باغي تدير». فوجئ البصري، إذ لم يسبق لأحد أن صاح في وجهه بهذه الطريقة. بدأت أردد بغضب: «آش غادي تدير.. ياك موتة وحدة كاينة، راه ماغاديش نموت جفافة» (يصمت). لقد حدث تبادل أدوار بيني وبين البصري، فصار هو يسمع وأنا أحتج. وفي لحظة، انتبه إلى ذلك فصرخ في وجهي: «خرج عليّ.. خرج عليَّ من المكتب ديالي». وعندما وصلت إلى الباب «درت داك التسلكيط ديال الدار البيضاء»، رفعت يدي ورددت بتثاقل: «هاهو خارج». فعلت ذلك وأنا متيقن من أن البصري سينتقم مني، فكنت أردد في دواخلي: «والله يا مك لا بتِّي اليوما فدارك». وعندما كنت أقطع الممر الطويل، الفاصل بين مكتب البصري والخارج، كانت أبواب باقي المكاتب، مفتوحة قليلا، بعدما وصل إلى مسامع موظفيها صراخنا أنا والبصري، فكانت الرؤوس، كما في «لبوند ديسيني»، تطل بحذر لترى من يكون هذا الذي تجاسر وبادل الوزير القوي صراخا بصراخ. كنت أمشي والعرق يتصبب مني، وأنا أحسب خطواتي: لقد قطعت خمسة أمتار… بل عشرة.. ».

بعد هذه الواقعة عاد الجامعي إلى مكتب الجريدة وبعد استشارة امحمد بوستة، الأمين العام لحزب الاستقلال آنذاك كتب رسالة مفتوحة يرد فيها على إدريس البصري وعنوانها أيضا « شكون أنت؟ ».