صحافة البحث

[أطروحة].. إثنوغرافيا الشباب والممارسات الثقافية الجديدة بالدار البيضاء

- الإعلانات -

يعد البحث في الثقافة، وتحديدا في الممارسات الثقافية، أمرا في غاية التعقيد لاسيما في ظل غياب تقارير ودراسات رسمية حول الممارسات الثقافية بالمغرب، على غرار ما توفره وزارة الثقافة الفرنسية على سبيل المثال من تقارير دورية ودراسات إحصائية وتقييمية مستمرة للسياسات العمومية في مجال الثقافة وطبيعة الممارسات الثقافية لأفراد المجتمع. 

يزداد هذا التعقيد في دراسة الثقافة والممارسات الثقافية بالمغرب، عندما نربطه بفئة الشباب، فالدراسات المحلية حول الشباب تكاد تكون نادرة، ومرد ذلك إلى صعوبة تحديد فئة الشباب عموما، وأيضا لكون التعامل مع مفهوم الشباب يكون دوما بربطه بالأزمة أو بشكل ثانوي في معرض إشكالات متفرقة، وليس بشكل مركزي كفاعل أساسي في سيرورة التغير الاجتماعي التي يعرفها المجتمع المغربي.

فمنذ مطلع الألفية الجديدة عرف المغرب بروز هذا الفاعل السياسي والثقافي الجديد –أي الشباب-، حيث كان له الدور الأساسي في تغيرات جوهرية في الممارسة السياسية والثقافية في المجتمع المغربي. وكان لهذه الفئة دور مهم في انفجار سيرورة الثورات التي عرفتها المنطقة العربية والمغاربية، مما جعلها تتخذ مسارات أكثر جذرية نظرا لصفة الاندفاع التي تميز هذه الفئة، وكذا التمرد وعدم الثقة في الفاعلين التقليديين وفي مختلف بنيات المجتمع السياسية والثقافية.

وقد كان لبروز الشباب باعتباره فاعلا سياسيا وثقافيا جديدا في المجتمع المغربي، شروط ومحددات اجتماعية سابقة وممهدة منذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة. وذلك من خلال الدور الذي لعبته الموجة الثقافية التي اجتاحت المدن المغربية الكبرى كالرباط والدار البيضاء، وُصِفتْ بكونها حركة ثقافية أطلق عليها اسم Nayda، والتي يذهب البعض إلى مماثلتها بالحركة الفنية والثقافية التي عرفتها إسبانيا خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي والتي سميت La Movida الإسبانية[1].

وتحمل الممارسات الثقافية عدة دلالات، بحيث تشمل التردد على المنشآت العمومية سواء منها الثقافية (المعارض، المسارح، المتاحف، دور السينما…إلخ)، أو استخدام البنيات والمنشآت الترفيهية (الملاعب، المسابح، الحدائق…)، وتحيل أيضا على الممارسات الثقافية الفردية (المطالعة، مشاهدة التلفاز، متابعة الراديو، الرسم، الغناء، التصوير، استخدام ألعاب الفيديو ووسائل الاتصال الحديثة… إلخ). وتخضع هذه الممارسات كلها لتضارب براديغمات الذوق الفني والثقافي كما خضعت له الموسيقى وفن التصوير الفوتوغرافي كثيرا.

تتموقع أطروحة البحث إذن ضمن هذا السياق العلمي والاجتماعي العام. الأمر الذي يجعلها مهمة من حيث جدة الموضوع وكذا زاوية تناوله. فهي ترمي إلى التركيز على الممارسات الثقافية للشباب بالمجال الحضري لمدينة الدار البيضاء، من خلال مدخل سوسيولوجيا التجربة الاجتماعية كما أسسها François Dubet بما هي تعبير عن المسار التاريخي للفرد والمعاني الخاصة التي يضفيها الأفراد عن حياتهم أو عن جزء منها. وهي أيضا تمفصل لثلاثة أشكال منطق الفعل (منطق الاندماج، منطق الاستراتيجية، منطق التذويت). وتستفيد الدراسة كذلك من التراكم النظري الذي قدمته سوسيولوجيا الفرد والفاعل.

إشكالية البحث:

لقد حاولنا من خلال هذا البحث أن نسبر أغوار الممارسات الثقافية بالمجال الحضري لمدينة الدار البيضاء، عبر ممارسات نموذجية (موسيقى الشارع، فوتوغرافيا الشارع، الجرافيتي)، إذ أن هذه الممارسات تعد أشكال تعبير جديدة للشباب وأنماط فعل ثقافية حضرية بامتياز بدأت تغزو مختلف فضاءات المدينة وأزقتها. ولم تكن هذه الدراسة محاولة لرصد إحصائي لترددات الشباب وممارساته الثقافية، بقدر ما هي بحث نوعي عن تجارب الشباب الممارسين لأشكال الفعل الثقافي بالمجال الحضري، وتستند على فرضية مركزية تنظر لأشكال التعبير والممارسة تلك باعتبارها تعبيرا عن تجربة اجتماعية للممارسين، تتمفصل فيها أشكال منطق فعل متعددة، وهي الاندماج والاستراتيجية ومنطق التذويت كما عبرت عنها سوسيولوجيا التجربة الاجتماعية لفرنسوا دوبيه، ومنطلقة من إشكالية رئيسية تتساءل حول:

 كيف تتشكل التجربة الاجتماعية للشباب بالمجال الحضري من خلال ممارساته الثقافية ؟

وقد استندنا على عينة من الحالات (12 حالة)، موزعة على الممارسات الثقافية الثلاثة المدروسة بشكل يراعي عمق التجربة الاجتماعية للمبحوثين وليس بحثا عن تعدد الحالات فقد كانت استراتيجيتنا هي البحث بشكل عمودي وليس أفقي، بغاية الوصول إلى عمق الحالات المدروسة واستخلاص أهم قيمها وغنى تجربتها. لذلك يقدم البحث نفسه كبحث كيفي ينطلق من أسس وقواعد البحث السوسيولوجي، مستفيدا مما تقدمه تقنية سيرة الحياة من قدرة على استنطاق تجارب الحالات المدروسة، ومستعينا بتقاليد الاثنوسوسيولوجيا، واستثمارا لتقنيات سيرة الحياة، والملاحظة بالمشاركة وكذا تحليل الوثائق والسجلات الشخصية.

نتائج البحث:

انطلقت الدراسة من مفاهيم الشباب والثقافة والمجال الحضري باعتبارها مفاهيم نسقية أساسية، وخصصت فصلا لكل مفهوم منها يرصد تطور الإنتاج العلمي السوسيولوجي حولها وأهم الإشكالات التي تطرحها هذه المفاهيم في علاقتها بإشكالية البحث.

واتخذت الدراسة من موسيقى الشارع والجرافيتي وفوتوغرافيا الشارع ممارسات نموذجية للتحليل، باعتبارها ممارسات تتخذ من المجال الحضري فضاءً للعرض أو موضوعا للممارسة كما في حالة فوتوغرافيا الشارع، وقد خصصنا فصلا ميدانيا تحليليا لكل ممارسة على حدة، وفق استراتيجية تحليل موضوعاتي، قبل أن نجمع كل هذه الممارسات وفق النموذج النظري للتجربة الاجتماعية باعتباره براديغما نظريا معاصرا حاولنا اختباره، واستطعنا من خلاله تفسير ممارسات ثقافية تبدو مشتتة وغير متجانسة لكنها تحتكم لنفس أشكال منطق الفعل.

حاولنا من خلال البحث رصد بدايات موسيقى الشارع بمدينة الدار البيضاء من خلال التعرف على مسارات الحالات المدروسة، وبدايات ممارستهم لهذا النمط من الفعل الثقافي، الذي اتخذ من ساحة الأمم المتحدة فضاء خاصا لعرضه وخلق دينامية ثقافية واقتصادية حضرية. وأيضا جوانب الوصم الاجتماعي والرفض الذي قوبلت به الممارسة في بداياتها. كما بينا التغيرات التي لحقت هذه الممارسة الثقافية التي انطلقت بشكل عشوائي ثم خضعت لأشكال متعددة من محاولات التنظيم والمأسسة وأيضا للتضييق والمنع سواء بشكل جزئي أو كلي استمر لأشهر عديدة، تقلصت بعده منصات العرض المسموح بها في الساحة من 7 منصات مركزية إلى 3 منصات فقط وبشروط أكثر تقييدا وفق شكل جديد من مأسسة الممارسة بغاية احتواءها تنظيميا. 

وفيما يخص ممارسة فوتوغرافيا الشارع، فقد سعينا للتعرف على حالة نموذجية تتخذ من هذه الممارسة شكلا للتعبير عن الذات واستراتيجية للاستمرار في نفس نسق الاندماج الذي كانت تنتمي إليه، كما قمنا بمحاولة تحليل نماذج من مشروعه الفني. ولعل هذه التجربة تعبر عن تفرد خاص، لكونها استمرار في نفس مسار الممارسات الثقافية الحضرية، وتعبر عن التشبث بقيم ثقافة الشارع والأندرجراوند underground.

وتعبر فوتوغرافيا الشارع من خلال الحالة المدروسة، على ما يمكن أن تقدمه هذه الممارسة الثقافية الجديدة من فرص للمدينة، عبر التعريف بها وتقديمها بشكل أكثر إبداعا وأكثر واقعية من تلك الصور السياحية المنمطة. وأيضا على ما يمكن أن تقدمه كمادة للدراسات الاجتماعية والثقافية والفنية كما ذهب إلى ذلك هاورد بيكر وحتى بورديو.

أما الجرافيتي في مدينة الدار البيضاء فيخضع لسيرورة مستمرة من التحول والتحويل الفني والسعي لنيل الاعتراف الفني، فقد بدأت الممارسة بشكلها التخريبي Vandale ضمن مجموعات الأحياء ومجموعات مشجعي الفرق الرياضية بالمدينة، لكننا حاولنا التعرف على تجارب الحالات الممارسة والتي تراوحت بين ثلاث مسارات مختلفة:

  •  فمنها من اتجه نحو تسويق الممارسة Commercialisation من خلال استثمار موهبة الرسم لخدمة مشاريع فنية تتجاوز قواعد ممارسة الجرافيتي، وتستبدل الجدار في الفضاء العام الذي يعد الحامل الأساسي للجرافيتي بالرسم على الأقمشة أو في الفضاءات الخاصة والتركيز على الصور ومنصات التواصل الاجتماعي لتجاوز المحو الذي يطال جرافيتي الجدران. 
  • أما المسار الثاني فيسعى من خلال الممارس لمأسسة الجرافيتي (Institutionnalisation)، وذلك عبر الانخراط في الأندية الثقافية التي بدأت تنشط في المدينة ضمن المراكز الثقافية شبه الخاصة، أو عبر المشاركة في مهرجانات الجرافيتي التي تنظم بالمدينة بين الفينة والأخرى، وينال هذا الشكل من الممارسة مشروعية نظرا لكونه يدخل في خانة الجرافيتي Urbain الذي يتطلب ترخيصا من السلطات لممارسته.
  • أما المسار الثالث فقد اتجه من الإيمان بقيم الأندرجراوند وممارسة الجرافيتي إلى التخلي كليا عن الممارسة وعن قيمها، نظرا لتجربة محض ذاتية واحتذام الصراعات بين الممارسين.

تبين مختلف الحالات المدروسة، كون هذه الممارسات الثقافية تعد تعبيرا عن أشكال فعل ثقافي يلجأ إليه الشباب، سواء من أجل تجاوز وضعية هشاشة اقتصادية واجتماعية، باعتباره يتيح مورد رزق، غير خاضع لوضعيات وأنساق مهنية مقيدة. أو بغاية تحقيق اندماج مرحلي ضمن جماعات انتماء صغرى بغية تجاوز كل أشكال الوصم التي يُنعث بها الممارسون خاصة شباب موسيقى الشارع وممارسوا الجرافيتي.

إن غاية هذا البحث لم تكن الوصول إلى خلاصات تعميمية ولا إلى استنتاجات كلية، بل هو محاولة تجمع بين التقصي كتقليد إثنوغرافي والبحث كممارسة علمية سوسيولوجية، تهدف إلى التعرف على مجال مُتوارٍ وعلى ممارسات تسعى جاهدة للبروز والانتشار، وتعاني من الوصم وعدم الاعتراف الفني والمنع والتضييق والرقابة، كما أنها تكابد الهشاشة التي هي نتاجها في بعض الحالات واستمرار فيها بحكم المنع والتضييق وعدم الاعتراف الفني.

بذلك فالممارسات الثقافية الجديدة بمدينة الدار البيضاء، لاسيما تلك المدروسة تبقى ممارسات فردية تحكمها التجربة الذاتية للمارسين، ولا ترقى لأن توصف بكونها ممارسة جماعية تعبر عن حركة فنية وثقافية منبثقة أو وليدة ذات إيديولوجية مشتركة كما ذهبت إلى ذلك بعض الدراسات[2]، فالفعل الثقافي بالمجال الحضري هو في غاية التعقيد والتركيب ويتصف في كثير من السياقات باللاتجانس الذي ينفي وجود بوادر حركة اجتماعية أو ثقافية موحدة.

ويخضع الفعل الثقافي في المجال الحضري أيضا لأشكال عديدة من المراقبة والمنع والتضييق والصراع الخفي مع مؤسسات الدولة التي تسعى لاحتكار أي فعل ثقافي قد يتطور ليصير منظما. وتعبر هذه الرغبة في احتكار الفعل الثقافي بالمدينة وفرض الرقابة المستمرة على الفضاء العمومي، عن عدم تقبل أي بوادر فعل ثقافي غير مشروع في نظر الدولة وغير منبثق من مؤسساتها الثقافية الرسمية.

نوقشت هذه الأطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، يوم الخميس 27 ماي 2021 بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالقنيطرة، بعنوان “الشباب والثقافة بالمجال الحضري: دراسة إثنو سوسيولوجية للممارسات الثقافية الجديدة بمدينة الدار البيضاء”، ونقدم في هذه الورقة تلخيصا مركزا لأبرز جوانب هذه الأطروحة التي جاءت في ثمانية فصول.


[1] Caubet D.,  Miller C.  « Du rock au Maroc Quelle place dans la nouvelle scène urbaine casablancaise ? », Laurent Bonnefoy et Miriam Catusse. Jeunesses arabes. Du Maroc au Yémen : loisirs, culture et politique la Découverte, pp.342- 354, 2013, P.331. 

[2]  دافعت الباحثة Dominique Caubet  في مختلف دراساتها ومقالاتها على فرضية وجود حركة ثقافية قائمة الذات أطلق عليها اسم “نايضة” وتتخذ أشكال تعبير وتجليات عديدة.