صحافة البحث

الصحة في تقرير النموذج التنموي.. إصلاح منظومة الصحة يبدأ بتغيير النظام الاجتماعي

- الإعلانات -

وضع تقرير، اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، الأصبع على مجمل الاختلالات التي تُضعف المنظومة الصحية بالمغرب. انطلاقا من ضعف جودة الخدمات العمومية المقدمة للمواطن؛ ضعف التغطية الصحية، مما ينهك الأسر المغربية المعوزة أصلا؛ بالإضافة إلى ضعف التكوين والبحث العلمي في المجال؛ مرورا بضعف نسب التأطير المرتبط بالعدد القليل لمهني الصحة مقارنة مع التطور الديموغرافي الحاصل على مستوى التركيبة السكانية، وما صاحبه من انتقال وبائي بظهور أمراض جديدة في غالبيتها مزمنة. وصولا إلى لفت الانتباه إلى التفاوتات أمام العرض الصحي… إلا أن التقرير لم يتجاوز النظرة الضيقة للصحة بحصرها في مستويات تهم النظام الصحي فقط، وكأنه هو المسؤول الأول والأخير عن حفظ الصحة العامة، فضلا عن حديثه عن التفاوتات أمام الصحة، وكأنها مشكل تقني يمكن تجاوزه دون إحداث تغييرات بنيوية على مستوى النظام الاجتماعي ككل (ص 106-107). 

المشكلات الصحية والنظام الاجتماعي

يجب التأكيد على أن الصحة والمرض مرتبطان بمحددات اجتماعية كثيرة. لا يشكل النظام الصحي سوى عنصر بسيط من بين العناصر الأخرى؛ فالنظام الصحي مهما كانت جودته ومستواه المتقدم لا يسهم إلا بجزء يسير في حفظ الصحة العامة للمواطنين حيث تقدم مجمل الدراسات، التي اهتمت بقياس تأثير المحددات الاجتماعية على صحة المواطنين، نسبا لا تتجاوز 25% كمعدل تأثير النظام الصحي في مقابل 50%  تهم المحيط الاقتصادي والاجتماعي.  كما أن داخل الثلاثين السنة التي تم ربحها في أمد الحياة، خلال العقود الأخيرة، تعود ثمانية سنوات منها فقط لتحسن النظام الصحي العالمي. فيما تعود 22 سنة لتحسن الظروف الاجتماعية والاقتصادية.  

وقد أصبح معلوماً الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن جانباً كبيراً من المشكلات الصحية يُعزى إلى ظروف وأسباب اجتماعية بعيدا عن الظروف البيولوجية والوراثية. إلا أن السياسات الصحية ظلت تُهيمن عليها الحلول القائمة على التعامل مع الأمراض، وتجاهل البيئات الاجتماعية المنتجة لها. وكان من جراء ذلك أن تفاقمت المشكلات الصحية، واتسعت رقعة الجور في الحصول على خدمات الرعاية الصحية ولم تعد التدخلات الطبية تحقق النتائج المرجوة منها كما تؤكد على ذلك منظمة الصحة العالمية. 

المحددات الاجتماعية للصحة

حينما نتحدث عن المحدِّدات الاجتماعية للصحة، التي يجب الانتباه لها ومعالجتها فإنما نشير للظروف التي يولد ويعيش ويعمل فيها الناس إلى أن يموتوا. فالأسرة لها دور مباشر في حفظ صحة الطفل وسلامته سواء الجسدية أو النفسية. فالطفل الذي ينمو في وسط اجتماعي خال من مظاهر العنف وأشكال الحرمان العاطفي، لا بد وأن يعيش على إيقاع صحة نفسية وجسدية مناسبة لتطوره ونموه السليم. وهكذا يعتبر المحيط السكني بما في ذلك البيت الداخلي وجواره، ذو تأثير كبير على الرفاه النفسي والجسدي. فمساحة البيت وما تحتويه من وسائل الترفيه والراحة، بالإضافة إلى المحيط السكني المحاذي، تُساهم في الرفع من مستوى الصحة النفسية والجسدية لمستعمليه.  ولا غرابة في انتشار الأمراض المعدية والنفسية في الفضاءات السكنية غير اللائقة. 

كما تعتبر المدرسة، بكل مستوياتها، محيطا اجتماعيا قد يساهم، سلبا أو إيجابا، في الصحة الجسدية والنفسية للمتعلم. فظروف الاكتظاظ التي تعرفه بعض المؤسسات التعليمية خصوصا بالعالم القروي، بالإضافة إلى غياب بيئة صحية سليمة، لا بد أن يترك أثره على صحة المشتغلين والمتعلمين على حد سواء. من جهة ثانية، فالمدرسة بنقلها لمعارف حول الجسد وصحته ومهارات التعامل السليم معه، تُساهم في مواكبة الطفل ليصبح فاعلا في صحته. وإذا أخذنا مثال على ذلك التربية الجنسية (الغائبة في مدارسنا) يمكن للمدرسة أن تساعد الطفل/المراهق في التعرف على كل الجوانب التي تهم جنسانيته، على مستوى التمثلات والسلوكات، وتطوير حس نقدي تجاه النماذج النمطية حول الجنسانية، وكذلك تطوير سلوك سليم ومسؤول يمكنه من حماية نفسه و غيره.  

سؤال العلاقة بين العمل والصحة

العمل هو الصحة وليس لنا من خيار سوى المحافظة عليها“. بهذا المقطع يبدأ المغني الفرنسي “هنري سالفدور” أغنيته الشهيرة “العمل هو الصحة” “Le travail c’est la santé”. وإن كانت هذه الأغنية تدخل في خانة الأغاني الحماسية التي تحث على العمل والجد، وفي نفس الوقت تحاول التذكير بظروف ومعاناة فئة العمال الفرنسيين سنوات الستينيات من القرن الماضي، فإن لازمتها، تعبِّر إلى حد بعيد عن حقيقة واقعية. ففي الحفاظ على الصحة حفاظ عن العمل، وفي الحفاظ عن العمل حفاظ عن الصحة. فقد أثبت مجموعة من الدراسات في حقل “الإبيديمولوجيا” أن ممارسة نشاط مهني معين يضعف من معدلات الوفيات والأمراض في صفوف الساكنة النشيطة، لكن لا يجب أن نتغافل تأثير المحيط المهني على مستوى الصحي للعاملين، فكم من الأمراض المهنية يمكن تجاوزها فقط بتحسين البيئة المهنية وظروف العمل.  

المرض بوصفه صناعة اجتماعية وسياسية

تسهم جل هذه المحدِّدات الاجتماعية في تفسير سبب معاناة الفقراء والمهمشين من المرض والوفاة المبكرة، أكثر من نظرائهم الذين يتمتعون بأوضاع اجتماعية أفضل. وهو ما يقود للحديث عن التفاوتات الاجتماعية أمام الصحة. التفاوت الاجتماعي هو عدم المساواة، وهي حالة تصنعها المجتمعات، لا هي طبيعية ولا قدرية. وقد تمتد جذورها إلى بنية الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تحافظ على إنتاجها وإعادة إنتاجها، بل قد تزيد من حدتها المؤسسات الاجتماعية وغيرها من المؤسسات الرئيسية في المجتمع.

التفاوتات لا يمكن اختزالها، كما حاول التقرير إظهار ذلك، في التفاوتات المجالية (المجال القروي/المجال الحضري) أو القطاعية (عام/خاص) (ص109). بل تحيل التفاوتات إلى أبعاد أخرى أكثر تعقيدا من ذلك. فالوضع الاجتماعي للفرد، بما يحيل إليه من مستوى دراسي ودخل وانتماء لفئة سوسيو-مهنية معيَّنة، يؤشر على مستوى صحي معين. فكلما كان الوضع الاجتماعي للفرد معتبرا كلما كان الوضع الصحي معتبرا أيضا. تشير بعض الدراسات أيضا إلى أن الإطار المتوسط “un cadre moyen” مثلا  له أمد حياة يفوق العامل البسيط  بست سنوات (INSEE, 2016). 

خلاصة القول، لا يساهم النظام الصحي لوحده، مهما كانت جودته العالية، في الرفع من مستوى الصحة والرفاه المجتمعين. وعليه فإن المقاربة التي اختارت التركيز المفرط على تحسين أداء النظام الصحي، انشغلت بأعراض المشكلة الصحية ولن تستطيع النفاذ إلى عمق المعضلات المتراكمة في بنية المجتمع، وإنما يقتضي الأمر التفكير في الصحة ضمن إطار شمولي مركَّب يستحضر كل مستويات النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وأشكال التأثير المتبادل القائم بينهم.