التربية والتكوين والبحث العلمي في تقرير النموذج التنموي: نفخةٌ في رماد
- الإعلانات -
لم يضف تقرير، اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، جديدا فيما يخص إصلاح منظومة التربية والتكوين. التشخيص الذي وضعه لم يخرج عن تشخيص لجان “الإصلاح”، التي شخصت وأوصت بتدابير منذ تسعينيات القرن الماضي، من خلال ميثاق التربية والتكوين (1999)، تقرير الخمسينية (2005)، البرنامج الاستعجالي (2009)، تقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لسنوات 2008، 2016 وأيضا تقارير الهيئة الوطنية للتقويم في عهد كل من الراحل عبد الحق الدوبي (2007-2009)، سعيد حنشان (2009-2014)، وحاليا السوسيولوجية رحمة بورقية (2014-…).
حافظت توصيات اللجنة على نفس النهج “الإصلاحي”، وذلك بالحفاظ على الخط المرسوم من قبل اليونسكو خاصة. البرامج “الإصلاحية” للتعليم منذ زمن الحسن الثاني، بقيت وفية لتوجهات المنظمة الدولية التي تُقسّم طريقة التعامل مع التعليم إلى دول الشمال ودول الجنوب، وذلك بفرض تعليم يقوي النزعة اليدوية في منظومة التربية والتكوين، وذلك لخلق أجيال من اليد العاملة تستطيع القراءة والكتابة ولكن في حدود التعامل مع آلة الإنتاج (العروي، 2013)
تربية وتكوين بأهداف نافِلة؟
أهداف اللجنة في أفق 2035، هي صيحة في واد، وجاءت بعضها بمنطق عكسي للتشخيصات التي سبقت هذا التقرير.
عندما يحدد تقرير اللجنة في باب التربية والتكوين، هدفه الأول، اكتساب ما لا يقل 90 بالمئة من التلاميذ المتمدرسين الكفايات الأساسية في القراءة والرياضيات (30 بالمئة حاليا) عند نهاية التعليم الابتدائي. فهذا هدف كمي، ينضاف إلى الأهداف الكمية التي بشَّرت بها المخططات الرسمية، وكان محل انتقاد من تقرير الخمسينية، الذي أنجز بإشراف من المستشار الملكي الراحل مزيان بلفقيه، حيث اعتبر التقرير أن المشاكل المتواثرة للمنظومة التربوية تأرجحت بين وضوح التشخيصات وقصور العلاجات. وقد تميزت خمسون سنة من الإصلاحات التعليمية، حسب تقرير الخمسينية، بالمواصفات التالية:
“الترددات، وعدم الاستقرار، والعديد من التنازعات حول تصور المدرسة بين ثلاثة اتجاهات متناقضة (الاتجاه العصري المتفتح والاتجاه الإصلاحي القومي، والاتجاه التقليدي المحافظ)، وكذلك وجود استقطابات متضاربة (النخبوية مقابل الديموقراطية، المجانية مقابل المساهمة المالية)، هذا إضافة إلى أن تنفيذ الإصلاحات اتسم دوما بالنزعة الانتقائية، التي تفضل الأبعاد الكمية الأكثر بروزا، وتؤجل الجوانب النوعية المتعلقة بالقضايا الصعبة والحساسة” (تقرير الخمسينية، 2005).
أما الهدف الثاني، المحدد في بلوغ المغرب، في أفق 2035، مرتبة لا تقل عن 450 نقطة حسب تصنيف تقارير البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (Pisa)، تقييم الاتجاهات الدولية في دراسة الرياضيات والعلوم وبرنامج البحث الدولي في القراءة المدرسية (370 نقطة حاليا كمتوسط للتصنيفات الثلاثة). فهذا هدف يقر بأن وضعية المغرب جد كارثية، وحتى أمل الإصلاح سوداويا بدوره. فمعنى حصول المغرب على 450 نقطة في تصنيف (Pisa)، معناه أن تقرير النموذج التنموي يرون الإصلاح في تفوق التلاميذ المغاربة في القراءة والعلوم والرياضيات على ما تحصَّل عليه التلاميذ الإماراتيين في سنة 2018 بـ18 نقطة في القراءة، و16 نقطة في العلوم، و15 نقطة في الرياضيات. وهذا هدفٌ مرجو لسنة 2035، يحدد مجموع النقاط في (450) وهي نقطة أقل من المستوى، حسب تقرير (Pisa) لسنة 2018 نفسه، الذي حدد في 487 بالنسبة للقراءة، و489 بالنسبة للرياضيات، و489 بالنسبة للعلوم.
الهدف الثالث، الذي حدده تقرير اللجنة،هو أن يحصل جميع حاملي البكالوريا، على الأقل، على مستوى في لغة أجنبية، أي مستوى يساوي أو يفوق B2، والذي لا يتجاوز حاليا (30 بالمئة). هدف لأول يتم طرحه حقيقة في وثيقة أو مخطط إصلاحي، لكن أيضا هل مسألة نكسة التعليم تفترض أن “نعلِّق” أنفسنا في هدف كمي – متغيًّر؟ دون أن نتجه إلى حسم مسألة المدرسة من حيث المضمون بشكل شمولي؟ كأن نحسم في مسألة ازدواجية القيم داخل المدرسة العمومية والخاصة؟ والعمل على إدخال مضامين وبرامج تشجع العمل النقدي في مواجهة الإيديولوجيا حتى وإن كانت تحمل مسمَّى التربية الوطنية أو الإسلامية؟
أدلجة التربية
لم يقم التقرير بالإجابة الصريحة على مُعضلة (التربية على القيم). بل بقي توافقي بشكل سلبي عندما اعتبر أن “تكريس دور المدرسة فيما يخص التربية على القيم من خلال تكوينات متجددة في مجال المواطنة والدين” (المذكرات الموضوعاتية، ص:80).
هذا التداخل قيم “لاهوتية” (الدين) وأخرى زمنية (المواطنة)، لم يحدد التقرير، في الصفحات التي نشرت ملخصة للمذكرات الموضوعاتية، طريقة التعامل البيداغوجي معها لتجاوز الصدام المتجدد بين الاستقلالية الفردية و”التبعية” التي تخلقها المدرسة المغربية منذ زمن الثمانينيات عبر الاعتماد على “أدلجة التربية” لصالح “إيديولوجيات مغلقة” تارة بإسم “التربية الإسلامية” وأخرى بإسم “التربية الوطنية”.
مشروع “نهضة تربوية مغربية” (المذكرات الموضوعاتية، ص:83-91) لم يجب عن معضلة المُزاوجة بين قيم مختلفة في مرجعيتها وفلسفتها، بل عمق هذه المزاوجة باعتباره أن “المدرسة المغربية يجب أن تصبح بوتقة لتكوين شباب متعلم ومستقل ومُشبع بالقيم الإنسانية المتجذرة في الثقافة المغربية”!
هذا المشروع الذي حافظ على نفس أهداف التقرير الأربعة السابقة. اعتبر أن هذا المشروع يجب أن رصد له حوالي 15,5 مليار درهم سنويا بأقصى سرعة، على مدى خمس سنوات، أي أنه سيكلف 77,5 مليار درهم سيأخذ حصة الأسد منها “نظام جديد للمدرسين الذي سيكلف 12 مليار درهم في السنة” (1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه أيضا إشكالية في تدبير “ميزانيات الإصلاح”، ومن سيدبًّر هذه الميزانية في ظل جو من عدم المحاسبة الذي ميز التجارب السابقة، فميزانية البرنامج الاستعجالي لسنوات (2009-2012) لم يتم تحديد المسؤوليات بشأنها رغم افتحاص المجلس الأعلى للحسابات لميزانية المشروع وأهدافه التي “لم تتحقق جميعها، كما أنه لم يكن له التأثير الإيجابي المتوقع على منظومة التربية باعتبار أن الوزارة المعنية لم تعتمد بشكل كاف بعض المرتكزات اللازمة لإنجاح أي سياسة عمومية عند مراحل التخطيط والبرمجة والتنفيذ والحكامة” (المجلس الأعلى للحسابات، 2018).
البحث العلمي: هل تُحيَى العظام وهي رميم؟
يكفي أن يطالع المهتم مواضيع الأطروحات والبحوث المنجزة في كليات المغرب (مع وجود استثناءات بطبيعة الحال)، إن وجدها، في خزانة هذه الكليات. ليعرف مستوى المنتوج العلمي الذي تنتجه منظومتنا البحثية المتهالكة، نوعيا. والتي حتى على المستوى الكمي أكثر انحدارا، حيث لا تتجاوز نسبة المناقشات 6,5 بالمئة على أقصى تقدير من مجموع عدد الطلبة المسجلين (الهيئة الوطنية للتقويم، 2017) وهي نسبة بطبيعة الحال تخفي غابة المشاكل التي يعرفها نظام الدكتوراه في المغرب، المحاط داخل أسوار الكليات دون أي افتحاص أو مراقبة للكفاءات التي تؤطر وتشرف على وحدات البحث قبل الطلبة.
طموح تقرير النموذج التنموي الجديد، بطبيعة الحال، لا يمكن الاختلاف عليه في شموليته: “جعل التعليم العالي والبحث العلمي رافعة حقيقية للتنمية، من خلال التغلب، في المدى القصير، على أوجه القصور الرئيسية فيه. وعلى المدى المتوسط، يرتبط الطموح بجعل المغرب كمركز إقليمي ثم دولي للتعليم العالي (الجامعي والمهني) وللبحث العلمي (بما في ذلك الابتكار)” (المذكرات الموضوعاتية، ص: 95). لكن في التفاصيل كيف يمكن تجاوز الصورة المأساوية التي نقل بعضها بالأرقام والتحليل تقرير “هيئة التقويم”؟ هل باعتماد “الهجانة” في التعليم الحضوري وعن بعد؟ (المذكرات الموضوعاتية، ص: 97)أو بقلب “بيداغوجية التعلم” على مستوى التعليم العالي؟ أو تثمين نظام الشراكة بين القطاعين العام والخاص “PPP” (المذكرات الموضوعاتية، ص: 98) الذي سيحول مراكز الأبحاث والدراسات في مجملها إلى مكاتب دراسات أكثر منها مراكز بحث؟
يُمكن للبعد الرأسمالي (الشراكة مع القطاع الخاص) أن يزيد من البحث والابتكار العلمي على المستوى التقني، وذلك نظرا للطبيعة البرگماتية التي تميًّز القطاع الخاص والمقاولات. لكن هل يمكن أن ندفع بالمجتمع البحثي إلى المنافسة فقط بتطوير الباحثين التقنيين؟ نهضة أمة التي يمكن أن تتحقق رهينة التفكير والبحث في القيم والثقافة وكذلك الاجتماع والسياسة والاقتصاد من خلال برامج بحثية وطنية دامجة لمختلف التخصصات وليس فقط من خلال “تمكين الأساتذة – الباحثين من استقلالية تسييره لميزانية البحث العلمي الخاص به” (المذكرات الموضوعاتية، ص: 98).