[تحليل].. عملة “الإيكو”: استقلال مالي، أم استعمار جديد لاقتصاديات دول غرب ووسط أفريقيا؟
ظل نموذج “فرنسا-أفريقيا”، الذي وضع خطوطه المذهبية الاقتصادي الفرنسي “فرانسوا گزافي فرشاف”، القالب الذي تنهل من حوضه المؤسسات الاقتصادية الفرنسية المتواجدة بالمستعمرات الفرنسية بغرب أفريقيا، وسِراط سير سياسات باريس بتلك الدول، حيث سمح النموذج سالف الذكر ببسط هيمنة الرأسمال الفرنسي على اقتصاديات دول الساحل والصحراء، وبلغت مبلغ التحكم في سياساتها النقدية.
فخروج المستعمر الفرنسي من بوابة الاستقلال، أعقبه احتلال جديد من نافذة الاتفاقيات النقدية والاقتصادية. حيث منحت فرنسا امتياز إصدار العملة المحلية لتلك الدول والمسماة بالفرنك الأفريقي، وكذا التحكم في حجم تداولها عبر تحويل شطر السيولة صوب الخزينة الفرنسية.
لكن إرهاصات التغيير بإفريقا الجديدة، ومطالب الشباب الأفريقي، برفع اليد عن مقدرات بلدانهم، دفعت بالرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى مباركة خطط الاستقلال النقدي، التي ترمي إلى إقامة عملة بديلة للفرنك الأفريقي.
خطوة دفعت بالنخبة الأفريقية إلى النبش في خبايا النوايا الفرنسية، لتضع أكثر من علامة استفهام حول حقيقة الاستقلال النقدي الموعود لدول وسط وغرب إفريقيا عبر العملة البديلة “الإيكو” .
فما هي مظاهر الهيمنة النقدية الفرنسية على دول غرب أفريقيا؟ و أي تغيير تحمله العملة البديلة للفرنك الأفريقي؟
ظهر الفرنك الإفريقي في 26 من دجنبر عام 1945، كعملة موحدة للمستعمرات الفرنسية بإفريقيا نتيجة لتعديل اتفاقية “بريتون وودز” التي مهدت لانضمام فرنسا لصندوق النقد الدولي، تحت مسمى “فرنك المستعمرات الفرنسية بأفريقيا” ليأخذ اسم ” فرنك المجموعة المالية الأفريقية ” بالنسبة لدول الاتحاد الاقتصادي والمالي لغرب أفريقيا أفريقيا الذي يضم دول البنين، بوركينا فاسو، الكوت ديفوار، غينيا بيساو، مالي ، النيجر ، السنغال و الطوغو وحمل ذات النقد اسم ” فرنك التعاون المالي بوسط أفريقيا” بفضاء الاتحاد النقدي لوسط أفريقيا ويشمل كلا من الكامرون، تشاد، جمهورية الكونغو، جمهورية أفريقيا الوسطى، غينيا الاستوائية والغابون.
وشكل استمرار التعامل بالفرنك الأفريقي عقب الاستقلال، رمزا للسيطرة الفرنسية على اقتصاديات دول وسط و غرب أفريقيا، حيث ارتبط القرار المالي للبنك المركزي لدول غرب إفريقيا رهينة بيد باريس، التي تملك موظفين إداريين بالهيئات التقريرية للمؤسسات المالية للاتحاد غرب أفريقيا، كما فرض اعتماد الفرنك الأفريقي على البنك المركزي لغرب إفريقيا نقل خمسين بالمائة من موجوداته إلى الخزينة الفرنسية الضامنة لاستقرار سعر صرف الفرنك الإفريقي، وفرض ذات الضمان ارتباط سعر صرف العملة الأفريقية الموحدة بالعملة الأوربية الموحدة اليورو.
ظل الفرنك الأفريقي دون تأثير يذكر على النمو اقتصاديات دول وسط وغرب إفريقيا، نتيجة غياب التكامل الاقتصادي بين الدول المشكلة لفضاء الفرنك الأفريقي، إذ يشكل القطن الخام 97 % من صادرات ست من الدول الثمانية المشكلة للاتحاد، وليس هناك فائدة من تبادل القطن بين مالي و بوركينافاسو على سبيل المثال، ما أثر على حجم المبادلات التجارية بين دول الاتحاد الاقتصادي و المالي للغرب الأفريقي والتي لا تتجاوز 15 % على أقصى تقدير.
ارتباط الفرنك الأفريقي بالخزينة الفرنسية الضامنة لسعر صرفه مقابل اليورو، كان له أثر بالغ على سياسات كل من البنك المركزي لدول أفريقيا الغربية، و البنك المركزي لدول وسط أفريقيا، سياسات اتسمت بالتشدد في منح القروض، والتركيز على الحفاظ على تبات سعر الصرف بين اليورو والفرنك الأفريقي، الشيء الذي ساهم في خلق مدخرات مبالغ فيها لدى الخزينة الفرنسية، دفع حجمها بالرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا هولاند،على حث بلدان الفرنك الأفريقي لاستعمالها لتحقيق أهدافها التنموية و ذلك خلال زيارته للعاصمة السنغالية دكار في أكتوبر عام 2012.
وأمام التحولات التي تعرفها بلدان غرب ووسط أفريقيا، و تصاعد مطالب شبابية تنادي برفع يد فرنسا عن مقدرات دولهم، دخل الفرنك الأفريقي رمز الهيمنة النقدية الفرنسية فترة احتضار، بلغ صداها قصر الإليزيه ليقرر ايمانويل ماكرون رفع اليد عن العملة الأفريقية الموحدة، ويعلن في 21 من دجنبر من العاصمة الإيفوارية أبيدجان نهاية حقبة الفرنك الأفريقي، و بزوغ فجر عملة “الإيكو”، صدور الإعلان من حاكم الإليزيه دون القادة الأفارقة أسبغ الشك حول النوايا الحقيقة من مباركة باريس للعملة الجديدة.
وبموجب العهد النقدي الجديد، تلتزم فرنسا بمغادرة إدارييها للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا، والانسحاب من لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا، ومن اللجنة البنكية للاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا، إضافة إلى إعفاء البنك المركزي لغرب أفريقيا من وضع نصف موجوداته من العملة بالخزينة الفرنسية، بينما تحتفظ باريس بضمان العملة الجديدة “الإيكو “، وهو الضمان الذي يراه المعارضون مدخلا لنسف استقلال العملة الموحدة الجديدة.
خروج ” الإيكو ” إلى الوجود خلق رجة بين بلدان الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا التي سارعت لتبني المولود النقدي الجديد، و نيجيريا المنتجة لسبعين (70) بالمائة من الناتج الداخلي الخام لمجموعة دول غرب أفريقيا، والتي انتقد رئيسها الهرولة صوب البديل الجديد، في موقف يراه محللون منطقيا نظرا للنمو المتصاعد للاقتصاد النيجيري و التنويع الذي يشهده هذا الأخير.
بروز العملة الموحدة الجديدة لن يكون له أثر كبير على النمو الاقتصادي لدول وسط وغرب أفريقيا، ما لم تعمل بلدان “الإيكو” على تنويع إنتاجياتها، وخلق بنية صناعية قادرة على دعم سعر صرف تلك العملة، وتكثيف المبادلات البينية بما يسمح بخلق توازن للميزان التجاري داخل فضاء “الإيكو”.
كما يضيف الضمان الفرنسي للعملة الوليدة شكوكا، في مدى استقلال البنك المركزي لغرب إفريقيا، وقدرته على التحكم في سعر صرف “الإيكو” رمز الاستقلال النقدي الموعود، خاصة وأن طبيعة الضمان وحجم تدخل الخزينة في عملية موازنة سعر الصرف لم يفصح عنه بعد، ليضل ظل ” فرنسا-إفريقيا” جاثما على أنفاس اقتصاديات دول وسط وغرب أفريقيا.