تمهيد:
استأثر تقرير لجنة النموذج التنموي، الذي قدمه وزير الداخلية السابق “شكيب بنموسى” أمام الملك أواخر ماي الماضي، بالنقاش العمومي وباهتمام الفاعلين من مختلف المشارب والتخصصات بشكل عام، وذلك قبل أشهر قليلة من الانتخابات المحلية والجهوية والتشريعية، التي يقبل عليها المغرب للمرة الثالثة في ظل الدستور الجديد، الأمر الذي سيجعل منه أرضية مشتركة لبرامج الأحزاب السياسية لدخول غمار التسابق في الاستحقاقات المقبلة وحديث الكل في مرحلة ما قبل الاقتراع.
لقد أقر التقرير، ومختلف اللقاءات التي عقدتها لجنة صياغته، على خلل بنيوي للمشاريع التنموية السابقة بالمغرب، والتي أفرزت اختلالات هيكلية اقتصادية وثقافية واجتماعية وبيئية، وبالرغم من نجاح بعض المشاريع الاقتصادية الكبرى من تحقيق بعض أهدافها المرجوة، إلا أنها كرست أزمة التنمية في اتجاهين؛ فقطار المغرب يسير بسرعتين: سرعة القطار السريع الأول في إفريقيا في المراكز الحضرية الكبرى (محور الدار البيضاء- طنجة). وتعثرات التنمية المحلية في باقي مناطق المغرب النائية أو في هوامش المدن الكبرى.
يعتبر تقرير لجنة بنموسى خطة استراتيجية للتنمية الشاملة بالمغرب، ضمن غلاف زمني قدّر بـ 15 سنة، وهي مدة كفيلة بتحقيق تغيرات جذرية في بنية الاقتصاد والثقافة والقيم والممارسة السياسية لمختلف الفاعلين بالمغرب عموميين وخواص، وذلك إذا ما تم فعلا تصويب الهدف، وتوجيه الطاقات، واستثمار نقط القوة التي يعد العنصر البشري أهمها.
لكن إلى أي حد يمكن اعتبار استراتيجية النموذج التنموي الجديد قادرة على استنهاض الطاقات البشرية وتحريرها بغاية تحقيق الإقلاع التنموي المنشود، وما موقع الثقافة من ذلك؟.
نموذج تنموي ذو أهداف محض اقتصادية: رسملة الثقافة
لا يختلف اثنان على الأهداف الاستراتيجية التي سطرها النموذج التنموي الجديد، إذ يستهدف بشكل صريح توسيع قاعدة الطبقة الوسطى، باعتبارها صمام أمان الاستقرار الاجتماعي، والنمو والاستهلاك الاقتصادي وذلك بمضاعفة الناتج الداخلي الخام في أفق 2035.
لقد ركز تقرير النموذج التنموي المقدم وملاحقه بشكل ملحوظ على الجانب الاقتصادي، سواء من خلال الأهداف المسطرة أو رصد العراقيل ومؤشرات التحول والإقلاع، علاوة على مصادر تمويل الأهداف التنموية المسطرة. ومرد ذلك هو أن الهدف العام المنشود هو تحقيق طفرة وإقلاع اقتصادي ووتيرة نمو تعتقد اللجنة التي كلفت بصياغة النموذج التنموي أنها قد تنعكس بشكل ميكانيكي على باقي المستويات الاجتماعية والاقتصادية والقيمية.
ومن خلال هذه النقطة تبرز أهم جوانب الخلل التي يمكن استنباطها من وثيقة النموذج التنموي المقدمة، أي تصور أن كل القطاعات يجب أن تتحول إلى قطاعات مدرة للثروة ومنتجة بالمنطق الاقتصادي الصرف، وأيضا اعتبار الرأسمال البشري لاسيما الشباب ذوات محض اقتصادية/محركات اقتصادية ورقم معاملات يرفع من قاعدة الاستهلاك، في تغييب تام للاستثمار القيمي والثقافي والتربوي، ونسيان شبه كلي لدور الثقافة والقيم في خلق القيمة المضافة وتحقيق تحول شامل لمختلف بنيات المجتمع.
اقرأ أيضا: مقاولو التوافق يخنقون الديمقراطية: حالة النقاش حول نموذج التنمية الجديد في المغرب
حضرت الثقافة في تقرير النموذج التنموي بشكل محتشم جدا، فقد تم ذكرها في المحور الثاني من القسم الأول في معرض الحديث عن المرتكزات وعناصر الاستشراف في أفق 2035، تحديدا فيما يخص انتظارات المغاربة (ص36)، وكما توصي الفقرة فإنه تم الاستماع لتطلعات الشباب ومطالبه لتوفير البنيات التحتية اللازمة للتعبير الثقافي والفني، وأيضا للفاعلين والمقاولين الذين يرون في قطاع الثقافة سوقا لخلق الثروة والقيمة المضافة عبر فتح الاستثمارات واستغلال ثراء المغرب وتنوعه الثقافي.
من خلال هذا الحضور الأول المباشر للثقافة في تقرير النموذج التنموي، يمكن أيضا تشخيص الوضع الكارثي لمؤسسات الثقافة والبنيات الثقافية في المغرب، وهو الأمر الجلي والواضح لكل الفاعلين الثقافيين، فحجم البنية التحتية الثقافية بالمغرب يظل هزيلا جدا مقارنة مع حجم الغنى الثقافي الذي يزخر به المغرب والذي لا تفوت أية جهة رسمية التأكيد عليه طوال عقود خلت، وأيضا من خلال حجم الاستثمار في إنشاء بنيات ثقافية من طرف الوزارة الوصية، ويكفي أن نستحضر حجم الخصاص الذي يعانيه المغرب في دور السينما والمسارح والمراكز الثقافية للقرب ودور الشباب النشطة، لإدراك وضعية الإنطلاق في تشخيص واقع الثقافة بالمغرب.
لقد غابت رافعة الثقافة عن المحاور الاستراتيجية للتحول والتي حددها تقرير النموذج التنموي في أربعة محاور رئيسية، وهي: الاقتصاد والرأسمال البشري والإدماج والتضامن ثم المجالات الترابية والاستدامة. واقتصر المحور الاستراتيجي الثاني الخاص بالرأسمال البشري فقط على جودة التعليم وإصلاحات التعليم الجامعي والتكوين المهني.
وصحيح أن التعليم والتربية والتكوين عنصر مهم من عناصر الثقافة، إلا أن التقرير ارتكز على تطوير جودة التعليم وإصلاح البرامج وجعلها في صلب القرن الواحد والعشرين (ص.94)، وعلى تشجيع التكوين المهني والتقني في نسيان تام لعنصر القيم والثقافة، في مقابل التركيز الكلي على الجوانب الاقتصادية وعلى الدفع باتجاه تعليم يساهم في خلق يد عاملة مؤهلة لخدمة التحولات الاقتصادية والمهن الحديثة التي تعتزم الدولة الاستثمار فيها بكل ثقلها.
تعتبر الثقافة مؤشرا مهما لرصد التغيرات الاجتماعية في كل المجتمعات المعاصرة، ولا يخلو العالم من تجارب دولية ونماذج عملية سخرت الثقافة كرافعة للنمو الاقتصادي والاجتماعي للشعوب، لكنها اختزلت بشكل أو بآخر في النموذج التنموي المقترح وتم النظر إليها كقطاع جديد للاستثمار والربح.
رؤية تقليدية للثقافة تكرس أزمة تخطيط هيكلية:
لقد اعترف التقرير التنموي الجديد بأزمة المؤسسات الثقافية بالمغرب، وأيضا بإشكالية استقطاب جهور عريض للصناعات الثقافية والإبداعية، وبشكل صريح أقر في ملحقه (ص.151) بأن الممارسات الفنية هي ممارسات أقلية وأن الإنتاج الثقافي يبقى دون مستوى احتياجات وقدرات البلاد الثقافية، ورصد أيضا تنامي الممارسات الفنية للشباب التي تتخذ من المنصات الرقمية وسائط عرضها.
اقرأ أيضا: التربية والتكوين والبحث العلمي في تقرير النموذج التنموي: نفخةٌ في رماد
إن هذا الإقرار ولاسيما تشخيص وضعية المؤسسات الثقافية الوطنية وهيمنة الرؤية الفلكلورية للثقافة، دفع اللجنة للتفكير “فيما بعد الجدران”، لكن التوجهات الاستراتيجية والعملية للنهوض بقطاع الثقافة والممارسات الثقافية للمغاربة ظلت محتشمة، فالدعوة للرفع من ميزانية الثقافة من 0.1% إلى 1% من الناتج الداخلي الخام في أفق 2035 تظل غير كافية ما لم يتم وضع استراتيجية وطنية للثقافة، وهو الأمر الذي تفتقر إليه الوزارة الوصية بذاتها حسب ملحق التقرير (ملحق 2، ص. 152). وما لم يتم دمقرطة ولوج الثقافة عبر توفير البنيات التحتية اللازمة، وتحقيق الولوجية الأفقية لهذه البنيات بشكل لا مركزي لكافة المغاربة بنفس الجودة والخدمات والفرص.
ليست الدمقرطة فقط ما يجب أن يتوفر في الرؤية الاستراتيجية للنهوض بالثقافة، بل أيضا الديموقراطية الثقافية[1]، أي منح الاستقلالية والحرية التامة للفاعلين والممارسين الثقافيين، أفرادا كانوا أو جماعات، للتعبير والممارسة الفنية دون قيود سياسية أو قانونية، فالفن مرادف للحرية، وأيضا الخروج من الفهم الفلكلوري الضيق للممارسة الثقافية.
لا تعني الديموقراطية الثقافية جعل الوحدات الترابية الصغرى (الدواوير) مجهزة بالبنيات الثقافية اللازمة فقط، بل تحفيز سكان هذه الوحدات على الممارسة الثقافية وجعل الثقافة والفن في صلب واقعهم اليومي، ولن يتأتى هذا الأمر دون تعزيز مناخ الحرية ونزع الطابع الفلكلوري عن مختلف الممارسات الثقافية للمغاربة، وأيضا تجاوز الثنائيات الثقافية التقليدية من خلال دعم أشكال الثقافة “المشروعة” في مقابل وصم كل أشكال الممارسات الثقافية الأخرى خاصة تلك التي يقبل عليها الشباب (الجرافيتي، الرقص، وكافة أنواع الموسيقى الموصومة بالانحراف..).
اقرأ أيضا: الثقافة في تقرير النموذج التنموي: طريق جهنم مفروش بالنوايا الحسنة
لقد عرف المغرب منذ بداية الألفية الجديدة موجات ثقافية وفنية وشبابية (ثقافة الهيب هوب، موجة Street Art..)، وتم التعامل معها إما بالرفض أو التضييق أو الوصم الاجتماعي المدعوم رسميا من طرف المؤسسات الثقافية الوطنية (يمكن الإطلاع على أطروحة الشباب والثقافة بالمجال الحضري)، واستمرار نفس هذه الرؤية والممارسات التضييقية لكل فعل ثقافي نابع من خارج المؤسسات الرسمية يعرقل تطور الممارسات الثقافية والفنية بالمغرب، ويعيق الدينامية الثقافية، علاوة على أنه إنذار بفشل أي استراتيجية ثقافية وجدت أو أحدثت.
لم يحدد تقرير النموذج التنموي وملاحقه أدوار الفاعلين الثقافيين وأصنافهم، فاكتفى بإيلاء أدوار هلامية للمجتمع المدني والجمعيات المحلية، دون تدقيق طبيعة هذه الأدوار وصفات هؤلاء المتدخلين، مع تغييب شبه تام للفاعلين الثقافيين الرئيسيين من فنانين ومتدخلين مباشرين في الثقافة، ودون تمكينهم من الأدوات اللازمة للعمل الثقافي وإشراكهم الأفقي في المجالات التي تتقاطع مع الثقافة والفعل الثقافي ( الإعلام/ التربية والتكوين..).
وعلى الرغم من تأكيد التقرير (الملحق 2، ص.152)، على أزمة الثقة بين الفنانين والدولة ما ينعكس على الأعمال الفنية والثقافية، فقد خلت الخطوات والتوجيهات الاستراتيجية من أي تلميح على التزام الدولة بتوفير مناخ الحرية المناسب للإبداع الفني والذي يبدأ أولا عبر تحقيق استقلالية مادية للفنان.
يزخر المغرب بتعدد ثقافي، قيمي وهوياتي، لكنه لا يجب أن يقتصر على التاريخ والروافد الاجتماعية التقليدية، بل السعي للتطلع إلى استمرار تعدد الاهتمامات الثقافية لمغرب اليوم ومغرب الغد، إن التعدد الثقافي لا تحكمه رؤية تاريخية ماضوية فحسب، فشباب المغرب اليوم متصل بثقافة القرن 21 وقيمه وأنماط ممارساته الثقافية التي يجب تقبلها واحتضانها وتوفير الفضاءات والمناخ العام لتطورها دون وصم أو تضييق أو منع.
اقرأ أيضا: حصري: تفاصيل المقترحات الخاصة بالثقافة التي غابت عن التقرير العام للنموذج التنموي ومُلحقاته
لا يورد التقرير وملاحقه أية توصيات وخطط عمل مباشرة حول الثقافةـ يمكن أن يتنافس الفاعلون الثقافيون في تنزيلها، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى الإطار المنهجي العام لتقرير النموذج التنموي نفسه، لكونه يقدم توصيات ومبادئ عامة فقط تتجاوز القطاعات، إلا أنه بهذه الطريقة لم يقدم أي جديد ملفت بخصوص الثقافة ما عدا التشخيص المتفق عليه مسبقا بين كل الفاعلين الثقافيين، وبالتالي فانتظارات الفاعلين والباحثين في الثقافة والممارسين لم تجد إجابات حول أسئلتها المشروعة حول الثقافة والسياسة الثقافية الجديدة لمغرب يروج بكثير من الأمل والإيجابية أنه مغرب جديد وطموح وواضح الخطوات في سياساته العمومية.
إن حديث التقرير التنموي الجديد عن تنمية الصناعة الثقافية وربطه بتدفق رساميل القطاع الخاص يبرهن مزيدا من رفع الدولة يدها عن القطاعات الاستراتيجية العمومية التي تستلزم سياسة عمومية متكاملة وشعبية وديموقراطية بالدرجة الأولى.
على سبيل الختام:
لقد خلت المبادئ العامة التي جاءت في تقرير النموذج التنموي من أهم مبدأ عام يجب أن يحكم أي استراتيجية قطاعية ممكنة لقطاع الثقافة في المغرب المنشود، وهو جماهيرية الثقافة والممارسات الثقافية، فالتمثل السائد في كل حين يتم الحديث فيه عن الصناعة الثقافية والممارسات الفنية يظل اختزاليا ونخبويا يجعل الممارسة الثقافية منقسمة بين مشروعة نخبوية ومدعمة ماديا ولوجستيا، وثقافة ذات بعد تراثي فلكلوري تخدم صورة نمطية سياحية بالدرجة الأولى عن المغرب.
يعد اختصار الثقافة في هذه الرؤى الضيقة الأفق دون فتح آفاق حرية الإبداع وديموقراطية الولوج للمرافق الثقافية ودمقرطة الإمكانيات محليا وجهويا، حاجزا أمام جعل الثقافة والممارسات الثقافية جماهيرية بالقدر الذي يخدم قيام صناعة ثقافية قائمة الذات، وتحريرا فعليا للطاقات والقدرات الإبداعية للمغاربة، دون إهمال قدرة الثقافة على تخليق الوعي والرقي بقيم الاختلاف والجمال، فالثقافة كانت ولا تزال وستظل دوما هي الحل.
مراجع مختارة:
- النموذج التنموي الجديد. أبريل 2021. التقرير العام. اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي.
- النموذج التنموي الجديد. أبريل 2021. المذكرات الموضوعاتية والرهانات والمشاريع المقترحة في إطار النموذج التنموي الجديد. ملحق رقم 2، اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي.
- – Coulengeon. P. 2010. Sociologie des pratiques culturelle. Paris : La découverte.