صحافة البحث

محمد بنيس: الثقافة والحرية

- الإعلانات -

مهما حاولنا التهرب من صفات وأسماء تنطبق على العالم العربي الراهن، فنحن لا بد مُقرُّون بأننا في عالم عربي جديد على غرار النظام العالمي الجديد. ذلك حتمٌ، سواء أكُنّا متفقين أم غير متفقين على السمات التي تنطبع على الحقبة الحالية. إذن ليس الجدلُ مفيداً دائما لأن الاجتهادات الفقهية، القانونية، لن تعدل شيئا جوهريا. عالم عربي جديد نحسّه على الأقل. أما البرهنةُ فلربما احتاجت إلى خطاب خاص بها. نعم. لدينا من الوقائع ما يدلّنا على جدّة عالمنا العربي، ولكن التأليف بينها وتصنيفها وإدراجها ضمن الإشكالية الأساسية فيحتاج إلى مختصين في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفكر. 

لستُ من هؤلاء ولا من أولئك. أفترضُ أحيانا أنني مثقفٌ وإلى نفسي أتوجّه بهذا الافتراض. لا ألزم به أحداٌ. وأن أكون مثقّفاً معناه أصْدُر في مَا أكتب عن وعْي نقديِّ، لكنني غير قادر على التكلُّم باسم المعارف التي ليست من اختصاصي بالصرامة المطلوبة من المختص الذي بدونه تنتفي المعرفة. هكذا أترك قضايا البرهنة والتحليل إلى مَنْ هُمْ أصحاب الاختصاص، احتراما للمعرفة. أقترب من الثقافة بحذر أيضا، حتى لا أتحول إلى مُهرّج، علما بأنني أخشى على الدوام أن أكون تحولتُ إليه من دون علمٍ منّي. من الضروري أن نعطي الكلمة لهؤلاء الذين أتقنوا أدوات التحليل ومناهجه من أجل تجنّب الهذَر الذي عادةً ما يسْتهوينَا.

كل ذلك يُصبح لازماً بقدر ما يسْمحُ لنا بالحديث في الشؤون التي تقترب منّا في ممارستنا الثقافية. من هنا يمكنني أن أتحدث عن الثقافة في العالم العربي  الجديد. ولا شك أن إعطاءَ صفة «  الجديد » هو بؤرة الحديث. والتأمل في « الجديد » يعني أن هناك إبدالاً في النسق العام. وهو ما يتفق عليه الجميع. لكن السؤال يتعلق بطبيعة الإبدال. وهنا تشرع الروياتُ المختلفة في التعبير عن نفسها. وسواء أكان « الجديدُ » يدلّ على الأحسن أم الأسْوأ، فلذلك لا يخْلُق شرطاً مشَجّعاً على الحوار. لقد عودَنا ميشيل فُوكُو أن نتجنّب التّعميم، فلكُل بنْية تاريخُها الخاص. وأنا أذهبُ مباشرة إلى مسألتنا الثقافية. 

طبعا. قبل ثلاثين سنة كانَ من المستحيل تناولُ المسألة الثقافية دون وضع خلفياتها الاجتماعية والتاريخية، بل والاقتصادية، في مُقدمة التأمُّل والتحليل، تلك كانت إجمالاَ وضعيةُ المعرفة في العالم. ونحن الآن في. حقبة لا تلزمنا المعرفة فيها بكُلّ هذَا المتاع الخارجي. ذلك ربما كان شأنَ التّفْسير. وقبل ذلك علينا أن نلاحظ أوّلاً. الملاحظة هي اعتبارُ ما هو دالٌ من المعطيات، وبالتالي القيامُ بانتقاء وإعادة بناء الوقَائع. وإلاّ فالمعرفة تُصبح مستحيلة. 

لا تنفصل في الثقافة أوضاعُ المثقفين عن الانتاج الثقافي. معاً مُتلاحمان ومُتفاعلان عبر تاريخ من ممارسة الانتاج وشرائطه أيضا. وذلك ضمن تقليدَ ثقافية تُعطي للإنْتاج الثقافي مواصفات لا يَحيد عنها، حتى ولو كانَ الإنتاجُ والمنتجُ  هادمَيْن ورافضَيْن، قائميْن بحد ذاتهما. هناك باستمرار شجرةُ النسب النّسب في الثقافات والحضارات. في الثقافة الكونية بكليتها، تخْتفي أو تلْمَعُ. فالإنتاج هو قبل كل شيء إعادةُ إنتاج، رغْم أن قوْلا كهذا يحمل من الالتباسات ما يجعلُه عرضةً لتأويلات تصل أحياناً إلى حد الحشْو والتّبدد.

ومسألتنا الثقافية في العالم العربي الجديد تخْضَع لهذه الفرضية وتستجيبُ لها. العلم العربي الجديد والمسألة الثقافية. هناك لحد الساعة اهتمام يتّسع يوماً بعد يوم لرصْد خصائص الحقبة الجديدة بصفات المديح والهجاء، أو بوضع صوًى لا نلتفت إليها كثيراً، لشدة الارتجاج الذي أصاب مسألتنا الثقافية، ولحالة الدُّوار التي تصيبنا من جرّاء ما يحدث في العالم ثقافيا وفي حقول أخرى. السياسة والاجتماع والاقتصاد من سمَاتها البارزة. تلك الصُّوَى، التي تُدل في لحظة مَا، ليست هي بالضرورة حقيقةُ الدّلَالة عل. المسار، غير أنها تقترب أو تبتعدُ سعْياً نحو ضبط ما لا يقبل الضبط. 

من أيّ المعطيات يمكننا الانطلاقُ في رصْد مسألتنا الثقافية في العالم العربي الجديد؟ نقطةُ الانطلاق محددة  للروية والمرئي. هناك معطياتٌ متعددة تتراكم أو تفتّت، لكنني أفضّل الانطلاق من وضعية حرية الإنتاج الثقافي الحديث، ممثلةً في محْنَة نصر حامد أبو زيد وإدْوارد سعيد. يمكن إضافةً حالات أخرى لها دلالتها القوية. لكنني سأكتفي بهذين الكاتبين، لكون محْنَتهما تجولَتْ إلى عَرَض راهن يصيف الجسد الثقافي العربي الحديث برمّته. العَرضُ الراهن يشير إلى أن نصر حامد أبو زيد وإدوارد سعيد لْيسَا الوحيديْن اللّذًيْن يختبران حدود التحديث الثقافي وحريتَه، بل يُبلوران وضعيةَ تمسُّ كل المدافعين عن وعي نقديٍّ، عن الثّقافة بمعناها الحديث، ذي الجذور التاريخية البعيدة الغور. 

نحن إذن أمامَ وضْع ثقافيٍّ يطرح مسالة الثقافة في مصر وفلسطين. ومن خلالهما تُطرح مسألةُ الثقافة في عموم العالم العربي الجديد. في مصر لائحةٌ طويلة من الشعراء والكتاب معرُوضة على المحاكم بحُجّة دينية. وأعمالُ إدوارد سعيد، التي تتناول مفاوضات أوسْلُو بالنّقْد والرّفْض، مُنعَت في فلسطين بحجة سياسيّة. وهي بالتأكيد ليست وحْدها الممنوعة كما أن نَصر حامد أبو زيد ليس وحده في مصر الذي عُرض على المحاكمة وصدر في حقه قرار الطّلاَق من زوجته، واقعتان ثقيلتان في الميزان عكْس ما يمكن أن يُوهمنا به أنصار العالم العربي الجديد، وهم يركّزون في تأمُّلاتهم على ما يرونه إيجابياً في الحقبة الراهنة، مُعْتبرين أن هاتين الواقعتيْن مجردُ طارئ لا يمثّل عائقاً أمام الإيجابيات التي أصبحَ المثقّفُون يسْعدون بها. 

إن المنعَّمين والمنْعَم عليهم لا يروْن إلا نعيمَهم.

 محمد بنيس

يمكن للمُعَافين من الإصَابة بالآلام أن يسْعدُوا. ذلك حقّهُم. فلم يعُدْ من حقي ولا من حقّ غيري أن يكون مُزعجاً ولا مُضْجراً. إن المنعَّمين والمنْعَم عليهم لا يروْن إلا نعيمَهم. عندما كان خليفةٌ أو في عهودنا القديمة يأمر بقتل أو صلْب شاعر أو كاتب فإن البَعيدين والقريبين من الشّعراء والكتاب نادراً ما كانوا يروْن أنّ تلك الجريمَة أراقت دمَ إنسان ينتمي إليهم، أو أنها تمسُّهم هُمْ أيضا. ونحن لَمْ نخرج بعدُ من عهْدنا القديم. تقاليدُ الإخضاع والخُضوع تقاليدنا بامتياز. والمثقفون العربُ في العصر الحديث لا يجدُون بالإجمال غضاضةً في الخضوع للسلطة بتعدد تسمياها الدينية، السياسية، الثقافية، ما دامت السلطةُ الاقتصادية لم تتشكل بعدُ علاقتُها بالحقْل الثقافي. 

نصر حامد أبو زيد وإدوارد سعيد عبّرا عن وجهتي نظرهما في الشؤون التي تشغلانهما. الأولُ يعْتبر القراءة من اهتمامه، ومن داخلها يعيدُ قراءة النصّ القرآني. فيما الثاني مُنْشَدٌ إلى أرضه فلسطين. بقلبه وكتابته. الدين والسياسة. هناك الممنوع الثالث لدى غيرهما هو الجنْس. وهناك مؤسسةُ الهيمنة، التي علينا إبرازُ ممنوعِ تناولها بالتأمل والنقد. إنْ كان هناك خطابٌ يظن أن الثلاثةَ الأولى هي وحدها الممنوعة، فإني أضيف المؤسَّسة كممنوعٍ رابع. لكن من المفيد أن نعود إلى تلاقي الممنُوعَيْن الأولين، الدين والسياسة، لأنهما نُسْغُ الممنوعين الآخرين، بل والممنوعات الثقافية في كُليتها. 

لم يفكر العربُ في اختراع نظريات لهُمْ.

محمد بنيس

قامت النهضة العربية على اسْتعادَة الأدب. سببُ ذلك هو أن الأدب باعثٌ لروح الأمة قومّياً ووطنياً، ثم خالق الذات. وهما متطلّبان تأسست عليهما حركةُ التحديث الإنسانية في العالم أجْمَع. كان الأدبُ عند العرب يعني الشعر بدءاً. وفي ضوء هذه الأطروحة العامة تمت حركةُ التجديد الشعري، وحركة التجديد في الموسيقى والغناء لقوة ارتباطهما بالشعر. ثم كانت حركةُ الانفتاح على أجناس أدبية خارج الشعر، ممّا سد في أوربا. أقصد المسرح والرواية والقصة القصيرة. الفنون الأخرى لم تبْقَ مبعدة. الفنون التشكيلية، السينما، الرقص. كان الشعرُ إذن مدارَ حركة النّهْضة، وهذا شيء طبيعي ما دام الشعرُ ظلَّ على الدوام مرْكزَ الثقافة العربية. لم يفكر العربُ في اختراع نظريات لهُمْ. عَبثٌ في عَبث. هناك دورة الحضارات التي لا تستقرّ. والعربُ أخَذُوا من الغرْب العلومَ، التقنيات، المعارفَ، تبعاً لأسئلتهم وحاجاتهم. قصة طويلة مركّبة، ولا غرض لي في ذكر ذلك. مجردُ استعراض تسْتتبعُه الملاحظة. إن تاريخ الشعر العربي الحديث يدلّنا على أن الوعي النقدي في الخطاب الشعري كان أكثر بروزاً. تلك نتيجة تبنّي الخطاب الأدبيِّ، وبالتالي اختيار التحديث. 

من هذا المنظُور يكونُ نصر حامد أبو زيد وإدوارد سعيد مُخلصيْن لمبادئ التحديث في العالم العربي، ويكونان وفيَّين لمفهوم الثقافة الحديثة، التي لا وجودَ لها بدون وعي نقديِّ. هل نعودُ مرة أخرى لإثبات شجَرة النّسب؟ لا فائدة في ذلك. ولكن علينا التذكيرُ بأن كلا الكَاتبيْن ينحدرُ من أصول ثقافية عربية قديمة وإنسانية حديثة، رغم الفرق في التّكوينْ بين نصر حامد أبو زيد وإدوارد سعيد. أجَل. إنّهما معاَ مخلصان ووفيّان لشجرة نسبِهمَا. معهُمَا وغلى جانبهما طائفةٌ من الكُتَّاب والمثقفين العرب الحديثين. 

عندما نتأمل جيّدا هاتين الحالتين، مع تباينهما، لن نعثرَ على غيْر محنة الوعْي النقدي في العالم العربي الجديد، شعريا، روائيا، فكريا، تشكيليا، موسيقيا، سينمائيا، وهو يواجه الدين والسياسة. لوْ حَاوَلْنا القيامَ بإحصاء الحالات على المستوى العربي، وبكُلّ موضوعية، لفشلنا في حصْرها، بلداً بلداً. 

عندما نتأمل حالتي نصر حامد أبو زيد وإدوارد سعيد، مع تباينهما، لن نعثرَ على غيْر محنة الوعْي النقدي في العالم العربي الجديد

وبقدر ما سنفْشَل بقدر ما سنُصْدَم بالخَراب المعمّم الذي يًسيّج وضعنا الثقافي إلى الحدّ الذي سيجعلُنا نطرح من جديد (لا بأسَ، أليس كذلك؟) أسئلة من قبيل: ما المقصود من الثقافة؟ وما ذا نريدُ من الثّقافة؟ وما مصيرُ ثقافتنا؟ 

مجرد طرح السؤال الأساسي، الجوْهريّ، قد يعرض السائل والمسؤول عنه للسخرية. وما العيب في هذه السخرية؟ اليست علامةٌ؟ على واقعنا؟ لا أجدُ في هذا النوع من السُّخرية ما يفاجئُ. أنا لا أسْخر. إنني على النقيض من ذلك أُعاني من أرق لا يتوقّفُ النزيفَ. لو اعتقدتُ لحظة في أنّ الحديث عن الوعْي النقدي لا يبعث على السخرية لكنتُ ساذجاً. علينا في بعْض فترات التاريخ أن نقبل المأسَاة بشجاعة ونعاملها كواقع موضُوعيٍّ لا ينفكُّ عنَّا ولا نتغَاضَى عنه. عواصف في النّخاع الشوكي. وماد ينزلُ في قصبة الصّدر. والمأساةُ موعِدٌّ لن لنا مع زماننا. 

نحن في لحظة تتقاطع فيها مسألتنا الثقافية مع العالم العربي الجديد. في كُلّ حقْبة من تاريخنا الحديث كان هناك شيء ما يعطي لثقافتنا هيئةً تتميزُ بها. والآنَ كل شيءٌ لم ينتظم من قبلُ على هذا النّحْو الذي هو عليه، حيث الوعيُ النقديُّ يصبح مُنعزلاً ووحيداً وشَوارعَ وساحات تضجّ بما يريده الزمنُ من الثقافة. نصر حامد أبو زيد وإدوارد سعيد نموذجان للمعْزُول الذي لا قدرةَ للمثقفين على إلغائه. بل إن حالتهما تسمح بقول إن إدانةَ ومنْعَ الوعْي النقدي يسنّان قانوناً لاستبداد المغْلق في حاضرنا ومستقبلنا القريب، على الأقلّ. ولن يكون ذلك باعثا على الإخلال بالقانون العام، وهو يكتسب صفة الجبروت في الثقافة وفي مصير المثقفين. 

إذا كان تحديث دلالة « الجديد » أمراً متروكاً للمُختصِّين في شؤون التحديد والتنميط، فإن المسألة الثقافية تعود للمثقفين الذين عليهم قبل غيرهم أن يُدركوا خصائصَ المسألة، بما تعني وما تفضي إليه. أي بدءاً ممّا يمارسون إنتاجًه وما يرمُون إلى فعله ثقافياً. وتمييزٌ كهذا لا يلقي ببلبلة ولا يدعُو إلى تخلٍّ عن رؤية. لا، أبداً. إنه السعي نحو التعاملُ مع المعطى الثقافي، من مكان تتجدد فيه مقاربةُ الوقائع المتداخلة بين ما يعود لليومي وما يعود للصيرورة، حتى ننصت إلى كُلِّ مختص في الشؤون التي تشرط مسألتنا الثقافية وواقعنا الاجتماعي والتاريخي الجديد. 

تعوَّدنا من قبلُ على أن يتكلّم المثقّفُ في كلِّ شيء بدون استثناء، معتمدين في ذلك على أن الأدب لا موضوع له، وهو الأخذُ من كل شيء بطرف. الأدبُ هو الثّقافة كما مارسْناها، مطمئنّين، بل فخورين بما أُوتينا من حكْمة الكلام في كل شيء. والمعرفة تستدعي احترامَ حدُود الكلاَم، لأن المعرفة تتأسّس على طُرق ومناهجَ للتّناول. وهذا كلّهُ ترك الثقافة العربية فاقدة لسلطتها. ولا ندرك هذه الحقيقة إلا عندما يدخلُ خطابُنا في مأزق التحليل والحجَاج، عندما نلتفتُ وراءنا فلا نعثُر على أثر لممارسة ذات فعْل تاريخي تُلزم كلَّ الأطراف التي تنتمي إلى الحقل الثقافي أو تدّعي الحديث باسمها. 

الثقافة العربية فاقدة لسلطتها

لو كانت الثقافة العربية الحديثة قد رسّخت تقاليدَ وأساسيات لما كانَتْ وقائعُ متتاليةٌ في البلاد العربية بأجمعهَا تتكرر دون أن تصبحَ مرْجعاً لتامُّلات وتحليلات به نسترشدُ ونُضيء القادم، ربما عنّا. ما يحدث يمضي بلا أثر، كأنه مجرد عطَب ظرفيّ لا يمُسُّ البنيةَ في شيْء. نتداوله في المقاهي والجلسات السريعة متكَبّرين أو ساخرين، ثم نتحّرر منه كأنّما لم يكن، لأنه لن يعود اليوم وغداً في هذا البلد العربي أو ذاك. كأنه من شأن شخص غريب عنّا. وفي نفُوسنا كتمْنا ما كتمْنا. كأن ما حدث انتهى إلى غير رجعة. اشتعل وانْطفأ عبر المقالات الصحفية الخاصة بالمناسبة. وما الذي يأتي بعد ذلك؟ لاشيءَ. أو سآتي وسنكتب بحدّة أقلَّ وبكمٍّ أقلَّ ليحضر القليلُ الذي سيصبح غير ذي جدوى لنا ولغيرنا. 

في غياب تقاليد وأساسيات للإبَانة عن فعْل الوعْي النقدي واختياره من قبل فئة قبل اختياره من قبل المجتمع، أقصدُ فئة المثقفين الذين تعْنيهم حمايةُ الوعْي النقديِّ، لن يعذّب تكرارُ ما يحْدث ضميراً جمعياً. ولن يخْشَى المقْبلُون على تكراره من قوة تواجههم في مصْر وفلسطين أو في الجزائر أو غيرها. مجردُ أمثلة من هذه البلدان، او هذان الكاتبان. وإلاَّ كيف نفسّر حملةَ التضامن مع الكُتّاب العرب خارج العالم العربي، وخاصة في أوربا وأمريكا، إن لمْ نرَ فيهما من تقاليد وأساسيات مترسّخة لصالح حُرية الفكر والتعبير، لا في الدساتير والقوانين المعمول بها، بل في الحياة اليومية للكتّاب والمفكرين والفنانين والمثقفين؟ 

مسألتنا الثقافية لا يمكن اختزالُها في حرية الرأي والتعبير

أوربا وأمريكا نموذجٌ لحرية الرأي والتعبير، مهما حاولنا التملص من الإقرار بذلك، بدعوى مواقف لا تُدافع عما نراه يستوجب الدفاعَ في الغرب. علينا عدمُ الخلط. إن الثقافةَ هناك استطاعت خلقَ تقاليدَ وأساسيات حقيقية، فاعلة في المجتمع. وعزلة المثقفين هناك لا تصحّ مقارنتها بعزلة المثقف العربي. أسبابٌ متعددةٌ لنتائج متباينة. تاريخٌ بكامله حاضرٌ بيننا، ولا مجال للتغافل عن الوقائع التي تحجُبها عنّا عنْهجيةٌ لم نتخلص منها، كلما تأمّلنا ما يحصل وينتج. هناك وهنا يتأكد الفرق الذي علينا الاعترافُ به تواضعا أمام الحقائق. 

مسألتنا الثقافية لا يمكن اختزالُها في حرية الرأي والتعبير. لدينا محرَّماتٌ وممنوعات مكبُوتة من طرف المثقفين والسلطة في آن. ولنَا منْ تراكُم القضايا ما يؤكّد عدم قُدرتنا على طرح أسئلة جديدة واستكشاف أراضي لم نطأهَا بعد. مع ذلك فإن حرية الرأي والتعبير هي الحجرُ الأساس الذي بدُونه لا نستطيع تخيُّل معْنى الثقافة، والثقافة الحديثة خصوصاً. فمحاكمة نصر أبو زيد محاكمةُ كلّ مثقف عربي حديث، ومنعُ تداول كُتب إدوارد سعيد منعٌ لكلِّ الأعمال العربية الحديثة، حاضراً ومستقبلاً. 

واقعنا صعْبٌ. صعْبٌ جدا. إن الثقافة العربية الحديثة لا تُواجه سلطة بمفردها ولا قوانينَ بمفردها ولا مجتمعاً يمفرده. إنها تواجه خصْماً عنيداً مركّباً يتمثّل في الماضي كما يتمثّل في الحاضر. يتمثّل في المؤسسات كما يتمثّل في القيَم. يتمثّل في المثقفين كما يتمثّل في غير المثقفين. وهي لم تُحسن التفاوُضَ بعدُ، لأن هناك شرائطَ للتفاوض لا تتوفّر بما فيه الكفاية للأسف الشديد. 

هل يقول المثقف العربي الحديث إنني خسرتُ أم استسلمت؟ لستُ أدري، ولكنّي مؤمن بأن التاريخ لم ينته بعد. فكرةٌ أو أفكارٌ عن التاريخ قد انتهت. فقط مؤمنٌ أنا أيضاً بأنّ قبول المأساة عنصرٌ إيجابيُ يحميني من أوهام مجْد لا شأن لي بها. وفي الإقامة على حُدود الأفكار والمغامرات، وفي القبول بالمخاطرة، يمكنني أن أتأمّل مجدداً تاريخاً وواقعاً معيشاً أبحثُ فيهما عن سرِّ انهزام أمّة. لا يُفارقني الأرق. تائهاً، مجنوناً، ضائعاً، لائذاً بخرائب أعماقي. وأطفالٌ ورائي يصيحون: هذا هو المجنون. 

ملاحظة: هذا المقال هو جزء من كتاب الحداثة المعطوبة (بنيس.م، الطبعة الثانية. 2012. ص:177-185) ينشر بالاتفاق مع الكاتب