يتطرق تقرير لجنة “النموذج التنموي الجديد” إلى العديد من القضايا ذات الطابع السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، البيئي، والثقافي ويقترح عددا من السياسات العمومية والآليات التنظيمية والإجراءات التنفيذية لتحقيق الأهداف المُسطرة في هذه المجالات. وأخذا بعين الاعتبار ضرورة التركيز في هذه المقالة، ستقتصر مقاربتنا النقدية لما جاء في هذا التقرير على البُعد الاقتصادي باعتباره محورا أساسيا في كل مشروع تنموي، دون إغفال كون التنمية يجب أن تكون شاملة باعتبارها “تنمية الناس، من أجل الناس، بواسطة الناس”.
لا شك أن “النموذج التنموي الجديد” كما اقترحته اللجنة الاستشارية يثير الانتباه لعدد من الإشكالات المرتبطة بشكل وثيق برهانات التنمية في المغرب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ضرورة إحداث تحول في البنية الإنتاجية بتنويع النسيج الاقتصادي (من خلال تشجيع القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة الكبيرة والمحتوى التكنولوجي المتقدم)، والاهتمام بالقطاع الثالث (أي الاقتصاد الاجتماعي)، والأولوية التي ينبغي أن يحظى بها قطاعا الصحة والتعليم، والمعطى البيئي، وضرورة إحداث بنك عمومي للاستثمار، الخ.. غير أن هذه الجوانب التي قد تبدو إيجابية في مُجملها لا ينبغي أن تحجب عنا حقيقة أن المقاربة المعتمدة لصياغة التقرير والمقترحات التي يتضمنها لا تحدث قطيعة واضحة مع الاختيارات النيوليبرالية (أي إعطاء الأولوية لثلاثية لبرلة أو “تحرير” الاقتصاد، الخصخصة، والتوازنات الماكرو اقتصادية) التي ميزت السياسات الاقتصادية والاجتماعية المُتبعة منذ ثمانينيات القرن الماضي، خاصة ما يسمى ببرامج التقويم الهيكلي. ويتجلى هذا الانحياز الواضح للخيار النيولبرالي على مستوى تشخيص مُعيقات التنمية، وكذلك في الجانب المتعلق بالمقترحات للنهوض بالاقتصاد المغربي.
ففيما يخص تشخيص الوضع الراهن للاقتصاد المغربي، يلاحظ بأن تقرير” النموذج التنموي الجديد” يركز على النقائص التي واكبت تنفيذ السياسات العمومية في المجال الاقتصادي دون إثارة إشكالية صواب هذه الأخيرة وجدواها أو وجاهتها. فعلى سبيل المثال، لا يتم مساءلة الفرضية التي ينبني عليها خيار الخصخصة والتي مفادها بأن القطاع الخاص أكثر نجاعة من القطاع العام واعتبار هذا الأخير مرتعا لسوء التدبير والفساد! ونفس الملاحظة تصلح فيما يخص اعتماد “نظرية التقاطر البطيء” وفحواها أن فتح الباب على مصراعيه للقطاع الخاص يؤدي إلى زيادة الأرباح، مما يساعد على الرفع من الاستثمار ومعدل النمو وإحداث فرص الشغل، بحيث يعم الرخاء وتتقاطر منافع هذا النمو الاقتصادي بشكل تدريجي من أعلى هرم المجتمع إلى أسفله! ونفس الأمر يسري على تبني فرضية الفوائد المزعومة للتبادل الحر والانخراط في الاقتصاد الرأسمالي العالمي على أساس التخصص حسب الميزات النسبية (التخصص في انتاج السلع والخدمات ذات التكلفة النسبية المنخفضة مقارنة مع البلدان الأخرى).
هناك بُعد آخر يركز عليه عن صواب التقرير المذكور وهو المتعلق بالمعيقات المؤسساتية وما يتعلق بالحكامة وحسن التدبير. ذلك أن غياب “المُقاربة المندمجة والإدماجية عند إعداد الاستراتيجيات والإصلاحات ” يعيق التنسيق بينها ويحد من فعاليتها، خاصة في غياب آليات التنسيق. غير أن هذه المقاربة تختزل القضية المؤسسية في بُعدها الإجرائي حيث لا تطرح سؤال من يتخذ القرار بشأن السياسات والاستراتيجيات المتبعة، وإلى أي حد يتم ربط المسؤولية بالمحاسبة عند تقييمها. بمعنى أخر، يحيلنا هذا السؤال على البُعد السياسي للنموذج التنموي الجديد وإشكالية الديموقراطية في النظام السياسي المغربي. ما يلاحظ في هذا المضمار هو انحياز واضح من طرف التقرير للملكية التنفيذية باعتبارها المقرر الوحيد فيما يخص الخيارات الاستراتيجية والتوجهات الأساسية التي تحكم تطور المغرب وتقرر في مصيره. إن هذا الخيار يطرح إشكالات جوهرية يتغاضى التقرير عن التطرق إليها رغم تأكيده على أهمية البعد الديمقراطي للعملية التنموية. فهيمنة الملكية التنفيذية على البنية المؤسسية يجعل من الحكومة جهازا فرعيا للقصر، يتعرض للتدخلات ويقف متفرجا أمام قرارات تتخذ دون علمه كما اعترف بذلك السيد عبد الاله بنكيران خلال ولايته الحكومية في إحدى خرجاته الإعلامية. من جانب آخر، يتناقض الاستفراد بالقرارات الاستراتيجية مع كنه العملية الديموقراطية التي تستدعي فتح حوار عمومي مسؤول تشارك فيه كل الفعاليات الوطنية قبل اعتمادها وتفعيلها. أخيرا وليس آخرا، يتنافى احتكار الملكية التنفيذية للقرارات الاستراتيجية، دون إمكانية تفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة مع شروط الحكامة الديموقراطية السليمة، هذه الشروط الكفيلة وحدها بتصحيح الأخطاء والقيام بالمراجعات الضرورية في حالة إخفاق الاستراتيجيات والسياسات المتبعة.
البُعد الثالث المتعلق بتشخيص فشل الاختيارات الاقتصادية الماضية يتمحور حول تفشي “منطق الريع والمصالح” الذي يكبح المبادرة ويُبطئ ” التحول البنيوي للاقتصاد”. لا شك أن واضعي تقرير “النموذج التنموي الجديد” كانوا محقين في إثارة هذه المعيقات التي تفضح الطابع الريعي وغير المنتج للقطاع الخاص بالمغرب. غير أن هذا التشخيص يبقى مبتورا وجزئيا لسببين على الأقل: أولهما أن التقرير المذكور يغض الطرف عن الآثار السلبية العميقة لمنطق الريع والتي يحصرها في ضعف الإنتاجية. والحال آن السلوك الاقتصادي الريعي وغير المنتج يساهم بشكل كبير في تعميق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية من خلال تركيز الدخل والثروة، ويضرب القوة الشرائية للفئات المستضعفة والمتوسطة على حد سواء بفعل الزيادة في الأسعار الناجمة عن الممارسات المانعة للمنافسة لاحتكار القلة الذي يهيمن على عدة قطاعات صناعية وتجارية ومالية. وهذا ما تجلى بشكل خاص من خلال ارتفاع آثمان المحروقات عقب تحرير هذا القطاع من طرف حكومة حزب العدالة والتنمية وكنتيجة لتواطؤ الشركات المهيمنة على القطاع، تواطؤ جنت منه أرباحا استثنائية إضافية قدرت بـ 17 مليار درهم من طرف لجنة برلمانية لتقصي الحقائق! كما تُساعد هذه الممارسات الريعية في إضعاف القوة التفاوضية للمأجورين حيث تضغط لوبيات القطاع الخاص من أجل اعتماد ما يسمى بـ”مرونة العلاقات المهنية “، وهي في الحقيقة وسيلة جهنمية لنشر الهشاشة وسط الشغيلة المغربية! وما يُعاب أكثر على تقرير “النموذج التنموي الجديد” هو تغييبه للعلاقة الوطيدة التي تربط النفوذ الاقتصادي بالسلطة السياسية، علما بأنهما وجهان لعملة واحدة. والحال أن هناك دراسات حديثة حول “رأسمالية المحاسيب” بالمغرب أظهرت الامتيازات والمعاملة التفضيلية التي تتمتع بها الشركات والمجموعات المرتبطة سياسيا في مجالات السياسة التجارية والإجراءات الإدارية مثلا، مقارنة مع الفاعلين الاقتصاديين الذين لا يتوفرون على ارتباطات سياسية. على نفس المنوال، يعتبر غياب استقلالية مؤسسات الضبط الاقتصادي كالوكالة الوطنية لتقنين المواصلات ومجلس المنافسة عن السلطة السياسية،علما بأن رأس الهرم المؤسساتي هو في نفس الوقت من أكبر الفاعلين الاقتصاديين بالمغرب، من المُعيقات الأساسية لنجاعة عملها.
نأتي الآن إلى الجزء الثاني من مناقشة مضمون التقرير حول “النموذج التنموي الجديد”، ويتعلق بالاقتراحات للنهوض بالاقتصاد الوطني. والملاحظة الأساسية في هذا المجال هو اكتفاء محرري/ات التقرير بتبني التوصيات الأساسية التي قدمها “مركز التنمية” التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (وهو نادي يضم أغنى اقتصادات العالم) سنة 2018 في تقرير بعنوان “دراسة متعددة الأبعاد للمغرب، تحليل معمق وتوصيات”، وهي توصيات تؤكد عليها مختلف المنظمات الدولية والمتعددة الأطراف (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، البنك الأوروبي للاستثمار، الخ..) التي يتحكم فيها الثالوث الرأسمالي المتغول والمكون من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي واليابان.
تتمحور مختلف التوصيات حول ضرورة إحداث تحول بنيوي في الاقتصاد المغربي من خلال الانخراط في سلاسل القيمة العالمية (أي، حسب تعريف منظمة العمل الدولية “التنظيم العابر للحدود للأنشطة الضرورية لإنتاج السلع والخدمات وإيصالها إلى المستهلكين من خلال مدخلات التطوير والإنتاج والتسليم”) والتخصص في الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية والمحتوى التكنولوجي المتقدم (مثل صناعات السيارات والطيران، والطاقات المتجددة، الخ..). ولتحقيق هذا الهدف، ينبغي الاعتناء بالرأسمال البشري والنهوض بـ”الحكامة الجيدة”(خاصة تحسين مُناخ الأعمال وإصلاح المؤسسات) بُغية تحفيز القطاع الخاص، خاصة الرأسمال الأجنبي. ولهذا الغرض، يجب على الدولة والقطاع العام الاستثمار في البنية التحتية (النقل، الطرق، المواصلات…) وتقديم تحفيزات ضريبية للمستثمرين (يقترح التقرير مثلا خفض محسوس في معدل الضريبة على الشركات بالنسبة للقطاعات الاقتصادية المنفتحة على المنافسة الدولية). إن هذه المقترحات تستدعي الملاحظات التالية: أولا، يلاحظ بأن الإطار المفاهيمي واللغوي (او “اللفظي”) النيولبرالي لم يتغير مقارنة مع ما هو معمول به في الخطابات الرسمية والتقارير الحكومية، حيث التركيز على مفردات وعبارات من قبيل “التنافسية”، و”جذب الاستثمار الأجنبي”، و”الإصلاحات الهيكلية” (وهي موجهة كلها لخدمة الرأسمال المحلي والأجنبي)، و”مرونة سوق الشغل”، وأولوية “خلق القيمة لفائدة المساهم/المستثمر “، الخ.. بالمقابل، لا يعير التقرير أدنى اهتمام لقيم كـ”العدالة الاجتماعية” (لم يتم ذكرها إلا مرة أو مرتين في التقرير المكون من 152 صفحة!)، و”حقوق العمال”، و”علاقات النوع الاجتماعي”. إن هذا السرد اللغوي يفضح الطابع السياسي والايديولوجي للتقرير والذي ينحاز لصالح الرأسمال ويهدف خدمة مصالح الطبقات الاجتماعية المُهيمنة في المجتمع المغربي. ثانيا، إن الرهان على “تسلق” سلاسل القيمة العالمية لصالح الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية والمحتوى التكنولوجي المتقدم غير مضمون لسببين رئيسيين على الأقل. فمن جهة، تتسم آفاق الاقتصاد العالمي بالكثير من اللايقين والشكوك حول إمكانيات التعافي من جراء الآثار المدمرة لجائحة “كوفيد 19” واحتمال العودة الى تطبيق السياسات التقشفية المضرة بالدورة الاقتصادية في البدان الرأسمالية المتقدمة. وهذا ما أثار الانتباه إليه مثلا التقريران الأخيران للجنة الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية، واللذان لا يستبعدان “عشرية أخرى من التنمية المفقودة” في أفق 2030 بالنسبة لبلدان الجنوب. من جهة أخرى، حتى إذا افترضنا أن المغرب نجح في الانخراط في سلاسل القيمة العالمية وفق منظور تقرير “النموذج التنموي الجديد “، فإن المنافع التي قد يجنيها تبدو ضئيلة. ذلك أن ما يميز سلاسل الإنتاج العالمية هو احتكار الشركات المتعددة الجنسيات لأهم مفاصلها، إلا وهي الجزء الخلفي الذي يضم أنشطة الابتكار المحمية بفعل “حقوق الملكية الفكرية”، والجزء الأمامي المكون من أنشطة التسويق والتوزيع. والحال أن هذا الاحتكار المزدوج يذر أرباحا ريعية تمكن هذه الشركات من الاستحواذ على الجزء الأكبر من القيمة المضافة لسلاسل التوريد العالمية. ويؤدي توزيع العمل هذا إلى حصر بلدان الجنوب في الأنشطة الإنتاجية المحضة فقط والتي تعرف منافسة شديدة تجعل نصيب المنتجين والعمال/ات من القيمة المضافة محدودة جدا، دون ضمان احترام شروط العمل اللائق كما نبهت اليه العديد من الدراسات الواردة في تقارير منظمة العمل الدولية ولجنة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية على الخصوص. بالإضافة الى هذا، يحد التخصص في بعض الحلقات الانتاجية لسلاسل القيمة العالمية من إمكانية بروز تصنيع حقيقي في المغرب، وهو شرط لا غنى عنه لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة.
في المحصلة النهائية، يتضح مما سبق بأن استراتيجية النمو الاقتصادي “الجديدة” التي يوصي بتبنيها تقرير “النموذج التنموي الجديد” لا تعدو أن تكون تكريسا وتعميقا للاختيارات النيولبرالية التي أبانت عن محدوديتها في السابق، هذا رغم محاولة تلطيف آثارها بإضافة “مسحة ” من “القطاع الثالث” و”الديموقراطية التشاركية”. لهذا، يعتبر القطع مع هوس النمو الاقتصادي المرتكز على التصدير مدخلا أساسيا من أجل بروز دورة حميدة بين النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية. ويرتكز هذا المنوال التنموي البديل على أولوية الاهتمام بالسوق الداخلي من خلال تحسين القدرة الشرائية للفئات الاجتماعية الكادحة والمستضعفة (على رأسهم العمال وصغار المزارعين والتجار والصناع التقليديين والناشطين في القطاع غير المُهيكل)، والتصدي للفوارق السوسيو-اقتصادية وإعادة توزيع الثروة. وهذا يقتضي اعتماد العدالة الجبائية عبر تبني الضريبة التصاعدية على الدخل، وإقرار ضريبة على الثروة، ومحاربة التهرب الضريبي، وحذف الامتيازات الضريبية غير المُنتجة. بالمقابل، يتطلب النهوض بالتصنيع التركيز على الدور التنموي للدولة اسوة بالتجارب الناجحة لصعود بعض دول شرق آسيا (الصين وكوريا الجنوبية تحديدا). ومن البديهي أن اعتماد هذا التصور البديل رهين بالتوفر على “حيز سياساتي” (او هامش للمناورة) لتطبيقه بعيدا عن املاءات المنظمات الدولية التابعة لبلدان الثالوث الرأسمالي المُتغوِّل (خاصة البنك الدولي، صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية). أخيرا وليس آخرا، يمر تفعيل هذا التصور التنموي البديل بالضرورة عبر الرفع من وثيرة النضالات الاجتماعية والتعبئة المواطنة من أجل مغرب آخر، مغرب الكرامة والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.