صحافة البحث

اليسار، تعبئة الموارد والفرص السياسية (2/2)

- الإعلانات -

الاحتجاج، اليقضة المُواطِنة، وتجديد آليات المقاومة

السؤال الجوهري في هذا المقام هو، لماذا لم يتمكن اليسار من التأثير على هذا الزخم الاحتجاجي، ومن ترجيح كفة المجتمع وقواه الحية، في مواجهة اختيارات لا شعبية ولا ديموقراطية، وفي تكوين شبح سلطة مضادة تعيد التوازن للعملية  السياسية ؟

وهل لا يزال الرهان الانتخابي  و”البناء الديمقراطي”  يحتفظان ببريقها وجدوائيتهما، خاصة  بعد نكسة اقتراع الثامن من شتنبر  2021 ؟

ألا يعتبر الرهان الجماهيري الجذري مدخلا لبعث اليسار ورافعة لتحقيق التوازن  وإنجاز التحول والهيمنة؟

ألا يعتبر الزخم الاحتجاجي البعيد عن الساحات الهادرة  للإمكان والفرص السياسية، معقلا للمبادرات المشكلة من مجموع آليات الدفاع الذاتي، وآليات الممانعة والمقاومة، وتعبيرات الرفض والشجب والاستنكار ؟

ألا يشكل العمل  الديمقراطي الجماهيري  فرصة لتصحيح رهان انتخابي مُناوِر موجه ويخدم بناءات وأهداف السلطة، مؤشرا على فشل كافة المقاربات والمراجعات، التي جعلت من النضال من داخل المؤسسات سقف مطالبها وتحالفاتها وبرامجها.

الأكيد، هو أن صيرورة استقرار وتأكيد الطابع السلطوي لنظام الحكم بالمغرب، بعد أن استكملت الملكية رهان بناء العهد الجديد، ، وقاربت التحكم والسلطوية، كـ” مرحلة انتقالية، كنظام مؤقت، وشرٌّ لابد منه، لإطلاق صيرورة الدمقرطة”  . وهوما جعل بعض الدراسات ، تتحدث عن “الأنظمة  السلطوية الهجينة”، التي تمزج  بين بنيات مخزنية و سلطوية عميقة، وآليات ديمقراطية حديثة. مزج يؤكد عسر وصعوبة الانتقال الديمقراطي. ومن تم  يصبح الاحتجاج آلية من آليات التعبئة والمشاركة والمواطنة.

هل تستطيع الحركات الاحتجاجية إنجاح صيرورة تحولها من حركات قابضة ومُجَمِّعَة لكل التعبيرات إلى حركات اجتماعية ، مُهيكَلة ومنظمة   ،قادرة على تعبئة الموارد وتوزيعها، وقادرة على إطلاق دينامية تهدف إلى إعادة هيكلة وترتيب أشكال الدفاع الذاتي و تجديد آليات المقاومة لدى التنظيمات المجتمعية. تهدف إلى تشكيل مجتمع حركي تجسده حركات احتجاجية جماعية  ومتعددة،  متحررة من كافة أشكال التحكم والهيمنة. وحاضنة لمسلسل  مساءلة ومحاسبة أشكال الممارسة السياسية. وهو ما يعتبر في نهاية المطاف، تأسيسا “ليقظة مواطنة” تنم عن منعرج سياسي نوعي يربط المسؤولية بالمحاسبة،  يشاكس السياسة، يسائلها ويحاكمها.

ولكن السؤال الشاق و المؤرق هو:  بِمَ  نبدأ ؟ وما هو المطروح آنيا و استعجاليا على اليسار المغربي من أجل تخطي حالة الانسداد  وبعث زخم الشارع؟

البحث عن التهدئة وتأكيد المصالحة  والعودة الى سياقات تعزز وهج اليسار، وانتظامه كمدرسة تعيد تشكيل العقليات والدهنيات والتصورات، وتعيد قيما كونية إلى الانسان والمجتمع،  وتجعل من السياسة  فنا وعلما لتحقيق الممكن؟

فحص العلاقة بين ما تبقى من مكونات اليسار، والخروج من الحلقية و الإلحاقية والتجاذب والتراشق المتبادل؟

فحص العلاقة بين اليسار ومواقع السلطة ؟

فحص العلاقة بين اليسار وآليات الدفاع الذاتي وأدوات النضال الديمقراطي الجماهيري والمقاومة الشعبية التواقة للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية  ؟

ولن يتيسر هذا وذاك دون الاقتناع  بضرورة إحداث نوع من “التصحيح الاستراتيجي ” في منظومة  التفكير والتأمل. تصحيح يخلق التربة المناسبة لانتشار طرائق في التفكير والتداول  حول الأسئلة الحاسمة في تطوير وتعميق التحول المجتمعي المنشود، الذي يعتبر صراع الأفكار، وأهمية التثقيف السياسي والتنشئة الديموقراطية تجل حقيقي من تجليات ممارسة الصراع ، وهو ما يمكن من تشكيل ” وحدة ثقافية مجتمعية  ” تجعل من ” الإنسان الجماعي ” أساسها ومركزها. وحدة  يتم من خلالها تجميع وربط مجموعة متنوعة من الإرادات والتصورات المتعارضة ، وذات أهداف غير متجانسة، للوصول إلى خلق دينامية في النضال من أجل التحول، وخلق إرادة جماعية جديدة ودائمة، وتوفير شروط تحولها وتطورها إلى قوة قادرة على التأثير والتوجيه ، واستعادة التوازن وتحقيق  الهيمنة.

لقد  استطاعت  الملكية  أن تنجز تحولات نوعية في صلبها ومحيطها،  مكنتها من إعادة هيكلة النظام السياسي كإجابة على استراتيجية ملحة، بدأت بالاتفاق على إنجاز ” تناوب مُراقَب، وتوافق على تدبير أمور الاستخلاف وانتقال العرش”،  وعلى “توافق على اقتسام المجال العمومي وفق تراتبية تكرس  أولوية الملك في توزيع الأدوار وتحديد مجال المنافسة بين الفرقاء  السياسيين”   مكنتها من تكريس هيمنة العهد الجديد، بشرعياته واختياراته،  رغم انه” لم يؤسس مقومات ومداخل مأسسة التحول والتغيير الديموقراطي ، بل كرس تصورا للدولة في عملية الانتقال الديمقراطي، لا يوفر حتى مقومات تأسيس التحول” ، واكتفى بإطلاق صيرورة انفتاح النظام ولبرلته، كمحاولة” لتهذيب صورة المخزن البشع والمُعاقِب” .

فيما بقي اليسار  يراكم الخيبات والنكسات،  متشبثا بشرعيات تاريخية انتهت مهامها بانتهاء السياق الاجتماعي والسياسي والتاريخي الذي أنتجها وساهم في انبثاقها وبروزها، غير عابيء إلا بإحياء بناءات متكلسة وآيلة للسقوط،

و بتزين صورة زعامات انتهت مشروعيتها بتراكم نكساتها رغم شعارات الانفتاح وتجديد الفكر والنخب،  ورغم الهرولة تجاه اندماج معلول ،لا بتوفر حتى على أبسط شروط وأساسيات  بناء وإعادة وتشكيل  القطب اليساري الكبير كسلطة مضادة تعيد التوازن للمعترك السياسي، و قادرة على قيادة معركة المستقبل.

لقد شكل” النقد الذاتي ” للشهيد المهدي بنبركة المقدم للمؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في ماي 1962  مقدمة نظرية وتأسيسية للاختيار الثوري بالمغرب بشكل عام. فهل اليسار قادر على القيام بنقد ذاتي يعيد النظر في تاريخ الفكر والبشر، وتحقيق طفرة نوعية من أجل إعادة التموقع  ومن أجل الهيمنة وإنجاز التحول؟ .