صحافة البحث

“أصحاب ولا أعز”: الوجه العاري لتناقضات المجتمعات العربية

- الإعلانات -

الفيلم

قدمت منصة “نتفلكس” مؤخرا لمشتركيها فيلما جديدا، وهو عبارة عن “ريميك” للفيلم الإيطالي، perfect strangers ويحكي الفيلم عن قيام مجموعة من الأصدقاء بحفل عشاء للتعرف على حبيبة صديقهم العازب الوحيد في الشلة الأستاذ الجامعي “ربيع”.

“نادين لبكي” و” جورج خباز” هما المضيفان،” مي” طبيبة نفسية و”وليد” جراح تجميل، ينضم إليهم رائد الأعمال زياد” كرم” و” جنى” دياماند أبو عبود، كما يجلس على الطاولة المغتربان المصريان “شريف” إياد نصار و”مريم” منى زكي.

الصديقة المفترضة لربيع لا تحضر (يدعي أنها مريضة)، جو من الملل يسود الجلسة، فيقرر الرفاق وضع هواتفهم المحمولة على الطاولة بهدف قراءة  الرسائل الواردة بصوت عال ووضع جميع المكالمات على مكبر الصوت.

على هذا النحو، فإن الهاتف هو الضرورة السينمائية للفيلم، حيث يتلاعب بسرد القصة مثل ثقب أسود في الفضاء، ويرسم ما يدور في مداره، ويخفي الكثير من الألغاز، اذ ثم تقديم الفكرة في إطار عربي، فإنها تصبح أكثر مركزية لأن الهواتف الذكية تؤثر علينا كما تؤثر على العالم بأسره، وهوسنا بأسرارها كما لو أنها تؤثر على كل مواطن في هذا الكوكب.

بداية هادئة ولطيفة فسحت المجال لتفجير الحقائق الخفية والخيانات، إذ مع تطور الأحداث يكتشف كل فرد أن الاخر يعيش حياة مزدوجة ويخون شريكه، ويتضح لاحقا أن الأزواج الأربعة لم يعد يجدون إشباعا جنسيا في حياتهم مما دفع بهم إلى السعي وراء طرف آخر عبر طرق مختلفة، سواء عبر العلاج النفسي، علاقات غرامية عابرة أو افتراضية من جهة.

من جهة أخرى يبدو ربيع الأكثر هدوء ورزانة بالرغم من فصله من عمله في الجامعة دون مبرر، ليتضح لاحقا أنه مثلي الجنس. ويتطور السياق الدرامي للفيلم إلى تصعيد شبه مدمر لشخوصه، حيث تتحطم الأوهام التي كونتها كل شخصية عن الأخرى وتسقط الأقنعة تباعا.

في المشاهد الأخيرة ينتهي حفل العشاء أخيرا، ويرحل كل زوج على حدا بشكل هادئ وكأن العاصفة التي حدثت داخل المنزل لم تحصل، لينتهي الفيلم تاركا وراءه موجة انتقاد كبيرة في العالم العربي وهجوم على ممثليه وبالخصوص الفنانة “منى زكي”.

حاز الفيلم في نسخته الإيطالية Perfetti Sconosci على جائزة أفضل سيناريو سنة 2016 في مهرجان القاهرة السينمائي، وكان نقطة فارقة في مسيرة مخرجه ” باولو جينوفيري”، وتوج بلقب أفضل فيلم في جائزة “أوسكار السينما الإيطالية”، وقد اقتحم العمل كتاب “غينيس” بوصفه أكثر فيلم ثم نقله إلى لغات أخرى.

بعد أيام من صدوره، احتل الفيلم المرتبة الأولى في قائمة المشاهدة في مصر ولبنان ودولا أخرى في المنطقة، مستحضرا معه جملة من النقاشات المعتادة عند بروز أي عمل فني جريء، لدرجة مطالبة أحد أعضاء البرلمان المصري بعقد جلسة تشريعية لمناقشة حضر “نتفلكس” تماما.

تابوهات الهوية الجنسانية

في كثير من الأحيان، لا يتم إعادة الفيلم بشكل موحد، ولا يمكن إلا للمالك الأصلي أن يقرر ما إذا كان له أو لشخص اخر الحق في إعادة إنتاج الفيلم الأصلي، وماهي القيود المفروضة على عملية الإنتاج، بمعنى آخر أي شخص يمتلك المشهد الأصلي له الحق في فرض الامتثال لبعض أو كل عناصر ذلك المشهد.

أخذ المخرج “وسام سميرة” النص الأصلي دون أن يرى أخطاء في مفرداته أو أحداثه، مؤكدا أن رسالة الفيلم يجب أن تنقل باللغة والمفردات المصاحبة له، وأنه لا يوجد فيه ما هو غير منسجم مع المجتمع العربي، الأمر برمته ليس أكثر من نقل غير مزخرف للصورة الحقيقية.

يتم أخذ جزء من التجربة السينمائية بعيدا إلى أراض خيالية أو مشاهدة شيء مثير يحدث في بيئة عادية، هذا هو السبب في أن العديد من الأفلام تستخدم الواقع السينمائي أي عالم يرتكز على الواقع الفعلي ولكنه يخدم بشكل أفضل الجمالية الشاملة للفيلم.

على الرغم من أن السينما المصرية كانت رائدة في تمثيل الحياة الجنسية، وأشهرها من خلال الراقصات الجريئات، وحتى مجتمعات الكوير، إلا أنها كانت ولا زالت تقتصر على الصور النمطية.

لا تزال النساء تصور عادة على أنها “تلبي نظرة الرجل”، ولا تزال شخصيات المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية، تمثل بشكل سلبي كأنها مرض عقلي أو سلوك إجرامي. حتي في الأساليب الأكثر إيجابية، تظهر الشخصيات الكويرية في الغالب في شكل “مشفر” مثل الشخصية الأنثوية التي يتم تصويرها على أنها مثلية بسبب شعرها القصير.

ومع ذلك، يواجه المخرجون والممثلون الذين يمثلون العلاقات الجنسية  أو المتعة الصريحة للإناث عواقب من قص أفلامهم أو حضرها من قبل مكاتب الرقابة التي لا تزال موجودة في العديد من دول الشرق الأوسط، إلى التهديدات بالعقاب من “قبل الدولة أو المتطرفين الدينيين”.

لسنوات عديدة ، تم تمثيل المثليين جنسياً في الأفلام العربية كشخصيات بشعة ومتشابهة، والتي كانت موضع سخرية واستندت في كثير من الأحيان إلى الصور النمطية العنصرية والتحيزات. تظهر الأمثلة البارزة لهذه الظاهرة في السينما المصرية في أفلام (” كإشاعة حب”، 1960)، و (البحث عن فضيحة، 1967)، و(فيلم “الإرهاب والكباب”1992). معظم شخصيات المثليين في السينما العربية من المفترض أنهم رجال مستقيمون لهم أصوات أنثوية وشعر طويل ولا يلتزمون بالقواعد الأبوية. غالبًا ما تكون هذه الشخصيات بوهيمية، تنخرط في الفن، وتنتمي إلى طبقة اجتماعية عالية، وتتأثر بالثقافة الغربية.

أول فيلم في العالم العربي يعرض شخصية مثلية هو فيلم زقاق المدق، صدر عام 1966، وهو عبارة عن اقتباس سينمائي لرواية 1947 زقاق المدق لنجيب محفوظ. لم يتم ذكر التوجه الجنسي لبطل الرواية صراحة في الفيلم، ولكن كان من الواضح أن شخصيته الماكرة والبغيضة، بصفته بائعا للمخدرات للجنود البريطانيين المتمركزين في مصر.

نوع آخر من تمثيل المثليين في السينما العربية يأتي في فيلم (عمارة يعقوبيان ، 2006)، من رواية علاء الأسواني عام 2002. تعتبر الرواية والفيلم اتهامًا لاذعًا للمجتمع المصري لأمراضه العديدة: الفساد العام، والانحلال الأخلاقي، والاختلافات الطبقية، والتحرش الجنسي، والقمع السياسي والديني. لكن الحجة الرئيسية في الكتاب والفيلم هي أنه يمكن شراء كل شيء بالمال: منصب في البرلمان والزواج وحتى الحب.

في هذا السياق ، يتم تقديم الحب المثلي أيضًا كآلية للسيطرة على علاقات القوة في المجتمع “حاتم رشيد”، الصحفي الأرستقراطي المثلي من أصل فرنسي، يسيء  حسب الفيلم إلى وضعه الاقتصادي والاجتماعي لرغبته بربط علاقة جنسية مع رجل متزوج.

تكرر السينما المصرية بشكل روتيني الرسالة التي مفادها أن الغرب بشكل عام والاستعمار البريطاني بشكل خاص يؤثران سلبًا على الأخلاق الإسلامية والعربية، وهذا لا يتجلى فقط في تناول الكحول وتعاطي المخدرات والاستماع إلى موسيقى البوب​​، ولكن أيضًا في التوجه الجنسي. وهكذا، على غرار الظواهر السلبية الأخرى، فإن المثلية الجنسية هي نتيجة مؤامرة غربية  تهدف إلى تقويض الأخلاق العامة في مصر والعالم العربي.

مصطلح السينما النظيفة

ظهر في مصر في أواخر التسعينات تيار أطلق على نوعية الأفلام الخالية تماما من مشاهد القبل والعري أو ما يبدو أنها مشاهد جريئة للمتفرج، ولقد خاض العديد من الفنانين صناع السينما النظيفة رفقة ما تبقى من نجوم الثمانينات لينافسوا في مطلع التسعينات بالإضافة إلى “سينما المقاولات”، لينتهي هذا الصراع لصالح صناع “السينما النظيفة”، وترويجهم لبعض الشعارات كمناسبة الفيلم لجميع أفراد الأسرة، ومن أبرز رواد هذا الاتجاه منى زكي، محمد هنيدي، أحمد السقا وغيرهم.

يعتقد المخرج الكبير داوود عبد السيد أن مصطلح السينما النظيفة له أسباب تجارية محضة، استغلها صناعها لجلب المشاهد المحافظ في المجتمع خاصة بعد انتشار التيارات الاسلامية وتأثيرها على الشارع العربي، فكان طبيعيا أن تتأثر السينما كغيرها من المجالات بهذا الاتجاه الذي يرى أن السينما يجب أن تكون أخلاقية ولا تخدش حياء المشاهد.

أصبحت أجساد النساء المؤشر الأساسي على ما إذا كان الفيلم نظيفا أم لا، و أصبح الفن ساحة معركة من أجل فرض مفهوم “الإستقامة”، وأي تصوير لرغبات الأنثى أصبح مرتبطا بالفجور”، وبالتالي يتم تصويرهن كرافضات للفعل الجنسي أو الإنخراط فيه.

حملت سينما التسعينات أو ما قبل السينما النظيفة صبغة سياسية برزت في افلام قدمها الثلاثي عادل إمام والمخرج شريف عرفة والسيناريست وحيد حامد بدأت مع فيلم “اللعب مع الكبار” 1991، “الارهاب والكباب”  1992 و”المنسي” 1993، ثم “طيور الظلام” 1995.

شهدت التسعينات أعمالا جريئة انقسم الجمهور بين مؤيد ومعارض لها، حيث قامت المخرجة المناصرة لقضايا المرأة إيناس الدغيدي بمجموعة من الأفلام أثارت موجة انتقادات بسبب طرحها لمواضيع جنسية بعيدا عن التيارات المحافظة، بدأت بفيلم “عفوا أيها القانون” 1985 حول انتقاد القوانين التمييزية بين الرجل والمرأة في الأحكام المتعلقة بالقتل في الخيانة الزوجية، اذ يحكم الرجل بالبراة بينما يتم سجن الزوجة الخائنة.

جاء العمل التالي الأهم في محطة الدغيدي بعد عقد من التجربة الأولى “لحم رخيص” 1995 حيث تناول قضية زواج المتعة من أجانب باحثين عن الجنس فقط، وهو العمل الذي وصفه مدير الأرشيف القومي للفيلم المصري الأسبق  بأنه عمل سطحي يعرض إشكالية مهمة ويقدم صورة مشبوهة للمرأة بدلا من الدفاع عنها. بالإضافة لفيلم “مذكرات مراهقة” 2001 الذي عرف بجرأته وانقسام الجمهور حوله.

كل هذه المكتسبات السينمائية إنهارت أمام بروز السينما النظيفة او ما أطلق عليه بالكوميديين الجدد” كمرحلة عرفت انطلاق مجموعة من الممثلين الشباب أبرزهم منى زكي، أحمد آدم، علا ولي الدين وآخرون، بدأت مع فيلم” اسماعيلية رايح جاي” 1998، ورغم النجاح الساحق في شباك التذاكر، إلا أن هذه النوعية من الأعمال لم تكن تحتوي على عمق فني على غرار المراحل السابقة من السينما باستثناء ما سمي بسينما المقاولات، حيث تجنبت الخوض في القضايا الاجتماعية التي تعبر عن الشارع المصري والعربي، بل طرحت أفلام وجهت بالأساس إلى الأسرة والجمهور المحافظ فقط دون المخاطرة بوجود مشاهد أو مناقشة أفكار اجتماعية مثيرة.

لم تؤثر السينما النظيفة على صناعة السينما فحسب، بل شكلت تحولا في الممارسات الثقافية المرتبطة بالعلاقة الحميمية والجنس الأنثوي، وتطبيع العنف وتجريد المرأة من حقها في المتعة داخل وخارج الشاشة إعادة لإنتاج ثقافة العار من خلال جعلها تصبح سؤالا عاديا في المقابلات التلفزية  مع الممثلات ومسائلتهن عن مشاهد  العري والعلاقات الحميمية، حيث يتم فحص الإجابة بغض النظر عن السبب.

حساسية الجمهور اتجاه منى زكي

اضطرت الفنانة منى زكي لتحمل نصيب الأسد من الهجوم على الفيلم بسبب مشاهدها كمصرية تحتسي النبيذ وتدخن السجائر، وتقبلها لميول صديقها المثلي بالرغم من رفض الشخصيات الأخرى له، بالإضافة للمشهد الأخير من الفيلم الذي تصدر مواقع التواصل الاجتماعي وسبب هجوما حادا عليها وهو مشهد نزعها للسروال الداخلي.

عرفت منى منذ بداياتها كواحدة من رواد السينما النظيفة، مما وضعا في قالب “الفتاة المحترمة” التي ألفها الجمهور منذ التسعينات، لكن تغير هذا الأمر منذ فيلمها مع المخرج الكبير يسري نصو الله “إحكي يا شهرزاد”، وقد كان دخول منى إلى مجال التمثيل من خلال مشاركتها في الدراما التلفزية “بالعربي الفصيح” سنة 1991 من إخراج محمد صبحي المعروف بتقديمه أعمالا فنية أخلاقية وتربوية.

بالرغم من الهجوم على الفيلم، يمكن النظر إلى الضجة غير المنطقية التي استهدفته في مصر والدول العربية على أنها نتيجة الهوس العام “بالإنكار”، يمكن أن تحدث المشاكل الإجتماعية في أي مكان في العالم، ولكن ليس في العالم العربي وأي تلميح لها في الأعمال الفنية هو بمثابة “إهانة وطنية”.

يعيش المواطن العربي الذي يدعي حالة غير حقيقية من النقاء والعفة فيما يمكن تلخيصه ب: “the boiling frog syndrome  أو متلازمة” الضفدع المغلي” أي الإنكار التام لوجود نار تحت القدر، من خلال التكيف معها لن يلاحظ الضفدع أن الماء يصل تدريجيا لنقطة الغليان، وعندها لا مفر من الدمار.

ومن داخل فقاعة الهجوم على الفيلم، استفزت كلمة condom  الجمهور، حيث قام بتوبيخ شخصية الأب بسبب علاقته غير المألوفة للمشاهد العربي مع ابنته ودعمه لها وهي قيد الانخراط في علاقة عاطفية وجنسية، بالرغم من أنه نفس الجمهور الذي صفق بحرارة لسلسلة Euphoria،  وضحك لمشاهد التحرش بالنساء في أفلام عادل إمام.

كثير من الناس ينفون الخيانة الزوجية، العنف، النشاط الجنسي وعمليات القتل رغم امتلاء الصحف اليومية بالكثير من الحوادث المشابهة حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، لذلك لن تنتهي الأزمة بسهولة إذا اعتاد الجمهور العربي على كلمات مثل “الحجب”، “المنع” و”التجريم” حيث تم الإفراط في استخدامها وتم تدريب الجمهور على استهلاكها في كل مناسبة.