صحافة البحث

الوظيفة الخطابية في فيلم حلقة الشعراء الغابرين

- الإعلانات -

تقديم

“حلقة الشعراء الغابرين” فيلم درامي أمريكي. تدور أحداثه سنة 1959 في مدرسة والطون الأكاديمية الداخلية، للنخبة المحافظة. وتتمحور حول مدرس اللغة الإنجليزية جون كيتنغ (Robin Williams)، الذي يحفز تلاميذه على التحرر من القواعد الاجتماعية السائدة في المدرسة، وعلى تجاوز الوضع الراهن، وعيش الحياة دون اعتذار، وذلك من خلال إلهامهم بواسطة تدريس الشعر. إلى أي حد كان الفيلم مؤثرا ومقنعا، وما هي الآليات الخطابية الموجهة لتحقيق أهداف الفيلم كخطاب.

لن نقف في هذه الورقة عند البنيتين المقطعية والحكائية، المشكّلة للنص الفيلمي في تحققاته التركيبية والتحامه السطحي، وتماسكه الحكائي، ووظائفه السردية والدلالية، والكيفية التي تشكل بها، باعتباره بنية مغلقة، ناجمة عن التفاعل بين البنية الحكائية وبين البنية المقطعية؛ كما يبدو من الصيغة الموالية:

   النص الفيلمي =  البنية المقطعية    ⟺  البنية الحكائية

سنتجاوز هذه البنية المغلقة التي لا تحيل إلا على ذاتها، ولا تفسر البعد الخطابي في تشكلها وبنينتها. أي أن الاقتصار على وصفها لا يمكّن من دراستها، وهي تشتغل كخطاب، وهي تتفاعل داخل بنية أوسع، كنشاط اجتماعي، كعلاقة بين ذوات قولية، كأداة للتأثير والتوجيه، وإعادة تشكيل الواقع وتمثلاتنا وإدراكنا للعالم. بمعنى أن التحليل سيظل قاصرا، إن هو اكتفى بالتحقق النصي، دون أن ينفتح على وظائفه وأبعاده التداولية والخطابية، وإبراز دورها في بنائه وتشكيله.

إن البنية المقطعية ليست محكومة، فقط، بغايات حكائية؛ والبنية الحكائية ليست مجرد نسيج مقطعي أو تحقق فيلمي؛ والنص الفيلمي ليس غاية في حد ذاته؛ بل إنه ما وجد إلا للتفاعل مع سياقاته الفيلمية والحكائية، ومع قضايا مجتمعه، وصراعاته الفكرية والسياسية والعقلية والعقائدية.

من هذا المنظور سنتعامل مع النص الفيلمي من زاوية خطابية، انطلاقا من تعريفنا للخطاب الفيلمي، باعتباره نشاطا لغويا سرديا، ينمو ويتماسك نصيا، ويتفاعل ويؤثر خطابيا. في هذه الزاوية، نعتبر الوظيفة الحجاجية آلية خطابية مبَنْيِنةً لكل المستويات اللغوية والنصية والخطابية؛ إذ تنطلق من القضية التي يحملها النص الفيلمي، وترصد موقفه منها، وتستحضر المواقف المضادة، وتصف الاستراتيجيات الموظفة للدفاع عن موقفه وترسيخه، اعتمادا على التحققات المقطعية والحكائية.

القضية

يتخذ الخطاب الفيلمي من مجال التربية، وتمظهراتها الديداكتية والبيداغوجية، وتفاعلاتها الفردية والمجتمعية، قضيتَه الأساس. إذ يحصر مجال اشتغاله في سياق اجتماعي محدد، تتبارى فيه نخبة راقية، من أجل حصول أبنائهم على تعليم ممتاز، يؤهلهم للارتقاء إلى أعلى المواقع الاجتماعية؛ وذلك بفضل الالتحاق بأكاديمية والطون الخاصة – المؤسسة التحضيرية للمدارس العليا – ذات الحضور المتميز والشهرة الواسعة؛ أو كما يؤكد ناظرها في خطبة الافتتاح، بعد أن جرد حصيلتها بالأرقام: [ المرور من أكاديمية والطون، خير معبر لأرقى المواقع الاجتماعية].

تتضافر كل الخطوط مستقيمة، لتضبط الممارسة التربوية السائدة، وتحقق أهدافها وغاياتها: [الرغبة في الترقي الاجتماعي، والحفاظ على الامتيازات/ مؤسسة متميزة/ تلاميذ متحمسون/ أساتذة ممتازون/ إدارة حازمة/ نظام تعليمي صارم وعقلاني]. إنه، إذن، تصور تربوي واضح الأهداف، محدد المعالم، محسوب النتائج. كل شيء فيه يسير كساعة مضبوطة، وكل شيء ينبغي أن يصب في تحقيق التفوق؛ فما أن تشعل شمعة المعرفة، حتى ينطلق الجميع نحو تحقيق شعار الأكاديمية [ تقليد، شرف، نظام، تفوق].

ينطلق العمل الجاد إذن، وينصرف كل تلميذ إلى تحقيق مستقبله المحدد سلفا؛ وما عليه إلا أن يصارع منهاجا دراسيا كثيفا، وواجبات ثقيلة منذ الحصة الأولى؛ عليه أن ينضبط لنظام المراجعة الصارم، لنظام التإذية والملبس والاستحمام، لنظام الرياضة والترفيه المحسوب والمعقلن. فما الترفيه والعمل الثقافي والفني، في هذا المنظور التعاقدي، إلا أعمال تكميلية، ينبغي أن يضحى بها حين تدق ساعة الجد. ما على التلميذ إذن إلا أن ينضبط داخل هذا النظام، أن يستضمره، ولا يرضى عنه بديلا؛ فلا خوف على مستقبله، مادام قد اختار أكاديمية والطون؛ وما دام قد استطاع التكيف مع ممارساتها التربوية والانقياد لنظامها. الآباء مقتنعون. الناظر مقتنع. التلاميذ مقتنعون. الإجماع حاصل إذن، ولا مجال للخلاف.

لكن، سيحدث ما ليس منتظرا. يفتح الخطاب الفيلمي هامشا ثانيا موازيا؛ يقدم ممارسة مخالفة لكل البناء الصارم. تنطلق هذه الممارسة كنسمة خفيفة، حين ينتهي الحفل الرسمي، ويأوي التلاميذ إلى غرفهم، ويعبرون عن رغبة دفينة في التمرد، بترديد شعار مضاد، والقيام ببعض الممارسات العفوية، والاستجابات المألوفة. ثم تكتسب هذه الرغبة الطبيعية المضادة قيمتها، كمقدمة تمهيدية ضرورية، لتصور مخالف، يحمله الأستاذ الوافد الجديد بوعي وإصرار. تصور ينطلق من التلميذ كذات وكفرد، كمشاعر وانفعالات، كهوية مستقلة، مخالفة لتصور الآباء والأبناء. تصور يقوم على تعميق الإحساس الفردي بقيمة الحياة، وضرورة الحرية، والدعوة إلى التحرر الفكري والجسدي، وإلى تجاوز المصائر المعدة سلفا، وإلى الإنصات إلى الذات لانبثاق هوية جديدة.

مدرس مخالف. نظرة مختلفة إلى الإنسان. عشق كبير للتدريس. رفض للمناهج الجامدة المتوارثة؛ تلاميذ يحملون في دواخلهم بذور التمرد، والحاجة إلى الانطلاق. تلتقي الرغبة في التغيير، والقابلية للتغير، فينشأ فعل تربوي مضاد، ويتحقق الخلاف.

العلاقة التخاطبية

يضع قائل الخطاب الفيلمي متلقيه، إذن، في خضم الفعل التربوي كقضية مجتمعية، ويرميه في تقابل خلافي بين تصورين لهذا الفعل: (1) أن تقوم المؤسسة التعليمية بإعادة إنتاج البُنى الاجتماعية السائدة، وتُعدّ التلاميذ – الأفراد إلى مهام وأدوار اجتماعية مُعدّة سلفا؛ أو (2) أن تحترم المؤسسة الخصوصية الفردية، فتمنح فرصا أكبر للتعبير عن الذات، وتنفتح على المغامرة والاحتمال. هكذا يجد متلقي الخطاب نفسه أمام ممارسة تراقب الفعل التربوي، وتوجهه نحو أهدافها الواضحة والمحددة؛ في مقابل ممارسة تقوم على التلقائية والمغامرة والانفتاح على المجهول؛ دون أن تكون أي مواجهة حجاجية أو اتفاق بين الطرفين على تجاوز الخلاف، أو إيجاد مجال للتفاهم والحوار. كل تصور إذن يمارس قناعاته التربوية، ويوظف الأدوات والأساليب الكفيلة بتحقيقها، ويعمل على دحض التصور الآخر وإلغائه، باعتباره تصوره يمثل الممارسة الأسلم والمنهج الأنجع. هكذا نجد أستاذ الأدب الإنجليزي الجديد، يمزق مدخل الكتاب المقرر لتدريس الشعر، ويقتصر في تدريسه على الشعر الرومانسي، ويكسر العلاقات الصفية المتوارثة، ويلغي في النهاية كل الممارسات أو التصورات المخالفة. وهكذا أيضا نجد الناظر، كمجسد للممارسة التقليدية، يراقب ما يجري، ويتدخل لقمع الاتجاه المضاد، بالعقاب البدني والمعنوي للتلاميذ، وبتهديد الأستاذ وطرده في النهاية؛ إيمانا منه بأن النظام هو أساس كل تربية ناجحة. ويأتي المقطع الأخير من الفيلم، ليعلن استمرار المواجهة، وانقسام التلاميذ إلى تيارين (واقفين/ جالسين).

في هذا المستوى، إذن، تنتفي كل شروط الحوار العقلاني، التي تتأسس عليها المسلمات الحوارية، أو نظرية الأفعال اللغوية، والتي تجعل من الحجاج عملية عقلية متنامية لحل الخلاف، وتحقيق الاتفاق بين طرفين متضادين؛ في مقابل هذا الانتفاء ينحصر جور الحجاج في تبريرات ذاتية أو موروثة للقناعات التربوية الممارسة؛ بل تتحول الذوات الفيلمية، والنص الفيلمي في كليته، على مقدمات، وأدوات لغوية ونصية صريحة، لفعل حجاجي ضمني، يمارس في مستوى خارج فيلمي؛ أي في مستوى العلاقة بين الذوات القولية الخارجية، باعتبارها حاملة للخطاب، متناظرة ومتجادلة حول قضيته الأساس. هنا تصبح الوجهة الحجاجية ذات منحى خطي، تنطلق من قائل الخطاب الفيلمي، وتخترق النص الفيلمي لتبنينه، كجواب على أطروحة مضادة، أو تقوية لأطروحة مؤيدة، أو استمالة للمواقف المتذبذبة. وإذن فالذوات القولية الحكائية تعيش الحدث، وتجسد المواقف، كمصير محكوم ومحدد من طرف الذات الخارجية الحاملة للخطاب؛ أما الدفاع عن مواقفها أو إدانتها، فيتم في مستوى الخطاب. في هذا المستوى تتفاعل الذوات، وتتواجه الأطروحات، ويتحقق الجدل والحوار، وتتأسس العلاقة التخاطبية. وما النص الفيلمية، في كل تحققاته، إلا تمظهر سطحي وصريح لفعل حجاجي ضمني يوجهه ويتحكم فيه.

الفعل الخطابي

إذا كان الفعل الحجاجي فعلا ضمنيا، يثوي خلف التحقق السطحي للنص الفيلمي؛ وإذا كانت العلاقة التخاطبية قائمة بين ذوات حاملة لأطروحات متباينة، حول القضية التربوية كحقل للخلاف؛ وإذا كان الفعل اللغوي الأساس للخطاب الفيلمي، يوظَّف لدعم أو دحض أطروحة محددة، باستعمال النص الفيلمي وأفعاله اللغوية المنجزة؛ فأي موقف يتخذه قائل الخطاب من القضية المطروحة، وما فعله اللغوي المضمر والخفي؟

قد يفترض أن قائل الخطاب مجرد حاكٍ (بالجمع)، يضع مهاراته الإبداعية وقدراته الحكائية والتقنية، في خدمة مؤسسة إنتاجية، يهمها، بالدرجة الأولى، الربح المادي والرواج التجاري؛ وهذا افتراض لا يمكن نفيه أو تجاهله في أي إنتاج موجّه إلى السوق، ومحكوم بشروطه التنافسية؛ غير أنه لا ينفي، في الآن نفسه، أن المنتوج الفيلمي مصنوع من لغة سمعية وبصرية وطبيعية، ومن مادة حكائية، مشحونتين بدلالات وقيم وأفكار، ومواقف وأنماط للعيش والسلوك؛ وأنه بطبيعته هاته قادر على إحداث تغييرات جذرية وعميقة في حياة الافراد والجماعات، تتجاوز الاستهلاك المباشر وتخترقه.

وقد يفترض، أيضا، أن القائل محايد، يعرض أحداثا ورموزا دالة، وينظر إليها من أعلى بكل موضوعية؛ وهذا أمر مستبعد في خطاب طبيعي حكائي، ولو في صورته المقطعية، ما دام الخطاب الطبيعي مجالا لتفاعل الذوات وصراعها، وما دام لا يكتسب سمته الخطابية إلا من بعده الذاتي. أي أن الدخول في علاقة خطابية، لا يمكن، أبدا، أن يكون محايدا أو موضوعيا؛ بل إنه يرتبط بقناعات ذاتية، ومصالح فردية أو جماعية، أو يحدد مواقف، أو يعزز مواقع ويحافظ على امتيازات؛ كما أنه يستجيب لشروطه التاريخية والاجتماعية، ويشكل ملتقى للتقاطعات والتمفصلات، وإلا كان نصا برهانيا اصطناعيا، متعاليا وميتا.

لم يبق أمامنا إلا أن قائل الخطاب الفيلمي، يصدر عن قصدية حجاجية، ويوجه قدراته الإبداعية لخدمة قضية يؤمن بها، وأطروحة يُحاجّ من أجلها. ولن تكون أطروحته إلا أحد التصورين المتقابلين والمتوازيين، ما دمنا قد أبعدنا الموقف الحيادي كموقع ثالث. هل هو من أنصار الانضباط والصرامة والتربية المراقبة؟ أم أنه دعاة التحرر والانطلاق؟ كل المؤشرات النصية تسير في الاتجاه الثاني، وتدعو إلى الاعتقاد بأنه يخالف الاتجاه الأول الصارم، يرفضه أو يحقد عليه، ويعمل على تأزيمه وإبراز هشاشته؛ لذا يضعه أمام امتحان عسير، امام الوجه المضاد، ويواجهه بالجوانب التي يتجاهلها ويقلل من قيمتها. يجرد التلميذ من طاعته، والمدرّس من انصياعه. ينطق الصامت، ويفجر المكبوت. يجعل الحب لغة والتعبير حقا، والذات كيانا مستقلا. كما أنه يجرد الآلة من أقنعتها، ومن مظهرها الطقوسي، لتُشهر لغة العنف والإقصاء. يقول إذن كفعل لغوي عميق: [أرفض التربية التي تصنع من الإنسان آلة خرساء، وتميت فيه إنسانيته وإبداعه، وتحوله إلى سلوكات محسوبة ومتوقعة؛ وأدعو وأناضل من أجل أن يكون الإنسان إنسانا]. أرفض، أتمرد، أُدين، أدعو إلى التحرر.. كلها محاقلات تعبر عن نفس الموقف، وتجسد الفعل اللغوي المضمر. ومن هذا الفعل تنسج الأجهزة الخطابية، وتتحرك كآلة حجاجية منظمة ومُبنينة لتحققاته الفيلمية والحكائية.

الاستراتيجيات الخطابية

إذا سلمنا أن قائل الخطاب يرفض التصور التربوي القائم على الرقابة، ويدعو إلى تبني التصور المضاد، فأي وسائل سخرها لتنظيم حجاجه، وتدعيم موقفه، وإحداث التأثير المنشود في متلقيه؟ أو لنقل، كيف تحكّم الفعل اللغوي الأساس في كل المكونات النصية والسياقية، لبناء استراتيجياته الخطابية؟ في هذا المستوى يشتغل الفعل الحجاجي كآلية تنظيمية كبرى، تنتظم أفعالها اللغوية الجزئية، لتحقيق أهداف مرحلية محددة، ولتعزيز ومراقبة هذه التحققات على امتداد الخطاب الفيلمي.

الاستراتيجية المقطعية

يمثل المستوى المقطعي، أو التحقق الفيلمي المادي، السمعي البصري، الواجهة الأمامية للخطاب في علاقته بالمتلقي، كاستجابات حسية ونفسية، أو كعادات إدراكية تؤسسها المشاهدات المتراكمة؛ وأي تشوش أو غرابة أو اضطراب، أو خلل أو رداءة أو فقدان للجودة، أو غيرها من العوامل المؤثرة على عملية الإدراك والتلقي، تجعل البنية المقطعية فاقدة لوظيفتها التواصلية الأساس، أو مُخلّة في أداء هذه الوظيفة، مما ينعكس، سلبا، على الوظائف الخطابية الظاهرة أو المضمرة.

من هنا انبنت الاستراتيجية المقطعية للخطاب الفيلمي المدروس، على مجموعة من التقنيات التي تسهل الإدراك والمتابعة، وتحقق الراحة والارتخاء، وتؤدي في النهاية إلى تهييئ المتلقي، وتنمية استعداده، وتقوية انشداده، ليتلقى كل ما يقدم إليه في سهولة ويسر:

  • طبيعة مقطعية بسيطة، ذات إيقاع هادئ، تسير بتدرج متنامٍ نحو التوتر، وتنتج بالمقابل وضعية سردية مريحة، يتدرج فيها الإيقاع النفسي، بدوره، من الهدوء إلى التوتر.
  • يتيح التركيب التأطيري، بدوره، سردية خطية، يتموضع المتلقي خلالها داخل فضاء الحكي بواسطة التاطير الكلي؛ ثم يدخل في علاقة مع الذوات الحكائية في بنية التناظر الحقلي، ليسهل التفاعل المباشر مع كل شخص، أو مع بعض الأجزاء الجسدية أو المادية. لا شيء يعوق هذه العلاقة، وما ينتج عنها من استجابات نفسية أو عاطفية أو فكرية.
  • يدخل التركيب لبناء الالتحام الفيلمي، فيحصر دائرة اهتمام المتلقي في ما يقدمه من بناءات، تحقق السرد الخطي الانسيابي؛ ويعفيه من عمليات الاختيار والإقصاء أو إعادة التركيب.
  • يظل المتلقي في موقع أفقي ثابت، يستهلك ما يقدم إليه من معطيات، ويحتل كل المواقع بفضل العلاقات القولية؛ إذ يأخذ موقع الراوي الضمني، أو مواقع الشخوص، مما يسهل عملية اندماجه في عالم الحكاية، والتفاعل مع ذواتها.

هكذا تشتغل الاستراتيجية المقطعية لتحقيق وظيفة تواصلية محددة، تهدف الاستيلاء على المتلقي المفترض، ومنحه كل الشروط القولية والنفسية، لتحقيق الاستجابة المنتظرة من مخاطبته، وإدماجه في عالم الحكاية، والتفاعل مع أحداثها وشخوصها وقضاياها. لذا عملت البنية المقطعية على وضع متلقيها في بنية مقطعية خطية، تسير وفق إيقاع متدرج التنامي، وتُمكّنه من التموضع في كل المواقع القولية، وتُسخر التركيب، للقيام بكل الوظائف الفيلمية المعقدة. لا شيء ينبغي أن يعوق التواصل الحسي والنفسي بين المتلقي وبين عالم الحكاية. هذه إذن مهمة البنية المقطعية كاستراتيجية خطابية حجاجية.

الاستراتيجية الحكائية

إذا كانت الوظيفة الخطابية للبنية المقطعية وظيفة تواصلية، تبني جسور العبور بين المتلقي وبين عالم الحكاية، وتسهل عليه إدراكها وتتبعها؛ فإن هذه الوظيفة تصبح لاغيةً إذا انعدمت الحكاية، أو كانت سيئة أو رديئة التكوين، أو باهتة الهوية والإحالات. هنا تتدخل الاستراتيجية الحكائية لتصنع الحكاية، أو لتجعل منها عالما مقبولا ومألوفا، يعرفه المتلقي، أو يستطيع تصوره وإعادة بنائه، والعيش بين جنباته؛ يستسيغه، ويتماهى فيه، ويتفاعل مع أجوائه وشخوصه، ويعانق أحلامه وقضاياه. من هنا عملت البنية الحكائية في الفيلم المدروس، على تشكيل عالمها الحكائي، في علاقتها بالمتلقي المفترض، على الصورة التالية:

  • اتخذت بنيتها التركيبية مسارا خطيا بسيطا، يستجيب للخطية المعتادة لدى المتلقي؛ إذ تثير لديه توقعات محددة، وتتجه إلى إشباع انتظاراته في مسار حكائي خطي، ينغلق مع انغلاق أفقه وتوقعاته. أي أنها تضعه أمام خطاطة حكائية مطابقة لبنيته الذهنية، المنحوتة بفعل المشاهدات المتكررة والمعتادة. فلا شيء يخرج عن المألوف.
  • تتعزز السردية الخطية ببنية حدثية، لا تترك مجالا للصدفة أو الغرابة؛ إذ يحكمها منطق سببي صارم، يُقنع المتلقي بمقبوليتها، ويدفعه إلى الانغماس فيها دون مساءلتها؛ حتى في مظهرها المأساوي، لا يملك إلا أن يتذوق طعن الفاجعة، ويرفض الأسباب والمسببات.
  • يعمق الفضاء إحساس المتلقي بوجود عالمين متنافرين، يتأرجح داخلهما بين الانفتاح والانغلاق؛ لينفر من الفضاء العدواني، وينجذب نحو فضاء، تُسيّجه الشاعرية ويسبح فيه الحلم، فيجنح إلى التحرر والانطلاق.
  • يتموقع المتلقي بحكم العلاقات القولية، في المواقع التي تحتلها مختلف شخوص الحكاية؛ ونتيجة للتواجد المتكرر في موقع الشعراء والعاشقين والمتمردين، ينجرف نحو عالمهم؛ يعيش إشراقاتهم، ويستمتع بلذاتهم، ويتبنى مواقفهم؛ بل يتعرض لما يعتريهم من إخفاق وإحباط ومعاناة؛ ويصير، بالتالي، في الطرف النقيض، الرافض للتحجر والعنف، وللمؤسسة ورموزها.
  • تأتي البنية الزمنية لتعميق الإحساس، لدى المتلقي، بالانتماء إلى عالم الحكاية؛ تشعره أنها جزء مقتطف من حياته، وتعطيه الفرصة ليملأ فراغاتها؛ ليعيد كتابتها وترتيبها من تاريخه وواقعه، فيمحو شخوص الحكاية ويصبح بطلها بامتياز.

تشتغل الاستراتيجية الحكائية، إذن، كآلية اختراقية، تتجاوز الفواصل النفسية بين المتلقي وبين عالم الحكاية؛ وتنفذ إلى أعماقه النائية، فتحرك تجاربه النائمة، ورغباته الدفينة، وتستمر حكايته الذهنية لتمتلكه، وتزيل كل مقاومة محتملة لديه. في هذ المستوى، تصبح الحكاية الفيلمية حكاية داخلية حميمية، يُعاد بناؤها من الزاوية التي يتماهى داخلها المتلقي ويتبناها؛ ويصبح – كما أريد له – حاملا لموقفها، وداعما لأطروحاتها. هنا تتحدد الاستراتيجية كوظيفة للاندماج والانصهار في عالم الحكاية، أي كوظيفة حجاجية للخطاب الفيلمي.

الاستراتيجية الذهنية

إذا افترضنا أن رحلة الخطاب الفيلمي نحو متلقيه قد تمت بنجاح؛ وأن الاندماج بين عالم المتلقي وبين عالم الحكاية قد تحقق على الوجه المطلوب، بحيث زالت المقاومة، وأصبح العالمان عالما واحدا، فهل نعتبر أن الفعل الحجاجي قد حقق مبتغاه؟ ما الذي يمنع استمرار المقاومة؟ وإذا افترضنا أن المتلقي، سيشغل مخزونه الذهني والعاطفي والثقافي، لإعادة إنتاج الخطاب المضمر، فما يمنعه أن ينتج مواقف مخالفة، أو يتبنى الأطروحة المضادة، أو يتبنى موقفا محايدا أو غامضا؟ أو ما يمنعه أن يختزل الحكاية الفيلمية، أو يفهم قضاياها فهما خاصا، أو يحصرها في تجربته الفردية، ويعجز أن يجعلها قضية عامة؟ كيف نحوّل الحجاج من السجل الفردي والقناعات الذاتية إلى السجل الجماعي والتمثلات الاجتماعية الكبرى؟ كيف يتجاوز الخطاب الحالة النفسية والجسدية الراهنة، التي أنتجتها الاستراتيجيتان المقطعية والحكائية، إلى لحظة الصحو واتخاذ القرارات الحاسمة، والترسيخ العقلاني للقناعات والمواقف؟ على الخطاب، إذن، أن يشغل استراتيجية جديدة، تعزز المكتسبات السابقة، وتوجه البناء اللاشعوري نحو التحقق المنشود.

في هذا المستوى، تصبح العلاقة التخاطبية مباشرة، ويتشكل المتلقي – الذي يختزل الذوات القولية والذوات الحكائية في ذات واحدة – ليصبح ذاتا خطابية فضفاضة، يفترض أنها تميل إلى أطروحة الخطاب أو تتردد في قبولها، أو تنحصر استجابتها في مستوى الانفعال. من هنا لجا الخطاب في الفيلم المدروس إلى أفعال لغوية جديدة، لتوجيه الاختيارات وتعزيزها وترسيخها:

الهدم/ البناء

ينطلق الخطاب الفيلمي من صورة جاهزة، من ملامح معدة سلفا، مجسدة في صورة شخص ناظر الأكاديمية. صورة تملأ المنصة، وتستولي على الأنظار، وتوحي بقوة المؤسسة وهيبتها. ينظر إليها من موقع أسفل في لقطة صاعدة، حيث تتموقع كل الذوات الحكائية والقولية { الأباء، التلاميذ، الراوي الضمني، المتلقي/ الطاقم الإداري والتربوي في موقع أعلى نسبيا}؛ وكأننا أمام هرم مثلث، يحتل رأسه العلوي شخص الناظر في شموخ، وتحتل قاعدته الراوي الضمني وباقي شخوص الحكاية. الكل ينظر إلى أعلى الهرم. الكل يستمع إلى الكلمات العلوية، في جو طقوسي يحيط بشخصية الناظر والمؤسسة بهالة من التقديس والتعظيم. تتكرر نفس الصورة، وقد جردت من قدسيتها، وبدا فيها الناظر يتحدث بلغة مغايرة، لغة العنف والتهديد؛ وقد تغيرت نظرة الطرف السفلي، إذ نجد “نواندا” من صفوف التلاميذ، يسخر من الناظر ويتحداه. تنزل صورة الناظر من علويتها نسبيا، وتفقد بريقها. تصعد صورة الطرف المقابل (التلاميذ) نسبيا. ثم ينقلب المثلث، يصير العلوي سفليا، والسفلي علويا. إذ ننظر كمتلقين من موقع الذات الحكائية، في لقطة مائلة نحو الأسفل، إلى المناظر مؤطَّرا بين أطراف تلميذ صاعد فوق الطاولة، وننظر في لقطة صاعدة نسبيا إلى التلاميذ الوقفين على الطاولات، وإلى الناظر والتلاميذ الجالسين في الموقع الموازي لأقدامهم. يسقط الهرم إدن، وتتغير العلاقات القولية والحكائية والمؤسسية، من الاستبداد إلى المساواة. هكذا يشتغل الفعل اللغوي في خطين متوازيين؛ يهدم صورة ليبني أخرى، ويبني صورة بهدم الثانية: يرهب المتلقي، ويحسسه بالدونية أمام صورة الناظر كفرد وكمؤسسة، ثم يخلصه تدريجيا من إحساسه بالدونية، بصناعة صورة مضادة؛ وتستمر العملية، حتى يسقط التمثال، وتسقط معه الهيبة والتقديس؛ وتستمر الصورة البديل معبرة عن الحب والإخلاص والاعتراف، صورة الذات وقد تحررت من الوهم القديم والسلطة المتجبرة.

التحبيب/ التنفير

يلجأ الخطاب الفيلمي إلى تشغيل فعلين لغويين متوازيين، يساهمان في توجيه اختيارات المتلقي وتزكيتها؛ إذ يعمل أحد الفعلين على التقديم الإيجابي للتصور التحرري، في صورة أستاذ متحرر، متفهم لنفسية التلاميذ ووضعياتهم: يحاورهم ويمتعهم؛ يعايش تجربتهم؛ يعينهم على التغير وتجاوز المعيقات النفسية والذهنية والجسدية؛ يشاركهم ألعابهم. يشجع إبداعاتهم. ينتقد أخطاءهم وهفواتهم، برقة ولطف وحوار هادئ. يزيل في النهاية كل الفوارق السطحية المصطنعة، ليتم التواصل الوجداني العميق. في الآن نفسه، يسير الفعل اللغوي الموازي في وجهة مضادة، إذ ينسب الصفات السلبية إلى التصور الصارم، فيضع متلقيه أمام ناظر صارم، لا تعرف البسمة إلى وجهه أو إلى وجوه مساعديه أو متلقيه سبيلا؛ ينظر من أعلى. يتوعد ويهدد. يمارس الضغط النفسي في الاستنطاق. يطرد ويستخدم العقاب البدني، ويأخذ في النهاية صورة السجان الصارم العنيف. بين التواصل والتهميش، بين اللطف والعنف، بين السلب والإيجاب، تتجاذب المتلقي عاطفتان متقابلتان، فيفر من الصرامة والقسوة، وينجذب إلى الرقة واللين، والتعامل الإنساني النبيل. هكذا يشتغل الفعلان اللغويان على السجل العاطفي، ويثيران التجارب الشخصية الدفينة لدى المتلقي، في علاقته بالمؤسسة الأبوية والتعليمية، وميله العميق إلى المعاملة التشجيعية، التي تتيح فرصا للتعبير عن الذات، والتمتع باستقلالية الاختيار، ليقويا انخراطه، ويعززا انتماءه إلى أطروحة الخطاب وفعله اللغوي الضمني.

الأدرمة

للقضاء على بقايا المقاومة والتردد والحيرة في حرية الاختيار، يلتجئ الخطاب الفيلمي إلى أدرمة الحدث الحكائي، إلى صدم متلقيه صدمة عنيفة؛ فبعد أن استكان إلى الحلم، بعد أن حقق الإشباع في قصة الحب في الفضاء الثلجي الشاعري؛ بعد أن سبح في اللغة الشعرية المنسابة من المسرحية الرومانسية؛ يأتي الإحباط؛ يأتي الانتحار كالصاعقة، فيتدمر كل شيء. تتلاشى رموز التحرر. تتبخر الأحلام الجميلة. يموت الشعر. ينتحر الحب. تنتهي المغامرة السعيدة إلى مأساة. هكذا تشتغل الأدرمة كفعل لغوي على صدمة المتلقي، وحرمانه من لذة الإغفاء والاسترخاء، وتجعله أمام مأساته الصارخة، وتدفعه إلى الاستجابة الجسدية والنفسية والعقلية، إلى البحث عن التوازن، إلى إزالة أسباب التوتر والخلل، واستعادة الحلم من جديد. من يقف وراء المأساة؟ من حطم كل رفاق هذه الرحلة الجميلة؟ هنا يجد المتلقي نفسه وجها لوجه أمام نظام صارم، أمام أب عنيف، أمام ناظر لا يرحم. لا بد إذن من الحسم؛ لا بد من الانتقام من صانعي الألم. هكذا تكمل الأدرمة ما بدأته الأفعال الخطابية الأخرى.

تشتغل الاسترتيجية الذهنية إذن، كمنظومة من الأفعال الخطابية المنجزة (الهدم/ البناء؛ التحبيب/ التنفير؛ الأدرمة)، التي توظف المخزونات الفردية والثقافية، وتشتغل على السجل العاطفي والانفعالي، لتعزيز ميولات المتلقي وتقوية اختياراته، والعمل على إزالة مظاهر المقاومة والحيرة والتردد، لتقوية أطروحة الخطاب وموقفه من القضية المطروحة. هذه إذن وظيفة الاستراتيجية الذهنية.

هكذا تحققت الوظيفة الحجاجية في فيلم الشعراء الغابرين:

  • يتناول الخطاب الفيلمي قضية تربوية، يتواجه حولها تصوران متناقضان: تصور محافظ/ تصور تحرري؛
  • ينطلق الفعل الحجاجي من فعل لغوي ضمني يرفض التصور التقليدي، ويتبنى التصور التحرري؛
  • تنتظم حول الفعل اللغوي الضمني، مجموعة من الأفعال اللغوية المنجزة، للتأثير في المتلقي ودفعه إلى تبني الفعل اللغوي الأساس؛
  • تتحقق الأفعال المرحلية المنجزة في ثلاث استراتيجيات، لتحقيق أهداف ثلاثة:
    • استراتيجية مقطعية تحقق التواصل وتستولي على المتلقي؛
    • استراتيجية حكائية، تدمج المتلقي في عالم الحكاية، وتمكنه من التماهي مع شخوصها وعوالمها؛
    • استراتيجية ذهنية، تعزز اختيارات المتلقي، وتقوي تبنيه للفعل الخطابي الأساس.