- الإعلانات -
موجز الحكاية
في سنة 1863، إبان الحرب الأهلية، يجد الملازم جون دنبار نفسه داخل خيمة عسكرية، ينتظر بتر رجله الجريحة. يرفض الملازم. يرتدي حذاءه. يتسلق حصانا. يركض ذهابا وإيابا أمام خطوط العدو. يحمس رفاقه، ليشنوا هجوما حاسما. يعجب الجنرال، بشجاعته، ويقدم له أفضل رعاية.
يستعيد الملازم عافيته ويوشح، ثم يُعيَّن في موقع متاخم للحدود مع الهنود الحمر. يقطع الغرب المتوحش في عدة أيام. يسجل رحلته في يوميات. يصل إلى الحصن المهجور. يقرر البقاء وحيدا في انتظار التعزيزات والمئونة. ينشغل بمهام استعادة المخيم. يكتشف الملاجئ المحفورة المجاورة، والغزلان الميتة في بركة.
ينتظر الملازم وصول التعزيزات. يسجل ملاحظاته في دفتر يومياته. يلتقي بذئب. يحاول ببطء ترويضه على مدار الأيام. ثم يكتشف أحد هنود السيو متسللا إلى الحصن. يطرده. ثم يقرر دفن أسلحته ومدخراته، والقيام بحراسة منتظمة. يعلم السيو بوجود الملازم، ويختلفون في شأنه بين قتله أو الاتصال به.
يبادر الملازم. ينطلق للبحث عن مخيم السيو. في الطريق، ينقذ امرأة هندية بيضاء، ويعيدها إلى المخيم. يلتقي بالهنود لقاء متوترا. يقرر الهنود زيارة الملازم، ويتم التواصل. تقل درجة الحذر المتبادل. يفهم الملازم أن الهنود ينتظرون وصول الأبقار الوحشية. تتكلف الهندية البيضاء بالترجمة بما احتفظت به ذاكرتها، بعد مذبحة عائلتها إبان طفولتها المبكرة.
يكتشف الملازم قطيعًا من البقر الوحشي. يخبر هنود “السيو”. يتحرك الهنود نحو القطيع. تبدأ حكاية الاندماج بين الجندي وبين الهنود. يتحول بالتدريج، ومع توالي الأحداث، إلى واحد منهم. يتخلى عن هويته القديمة….

الوظيفة الخطابية
في هذا المستوى من التحليل، نتجاوز في دراستنا لفيلم ” الراقص مع الذئاب ” النصَّ الفيلمي، في تحققه المقطعي والحكائي، كبنية مغلقة؛ ونفتحه على التفاعلات الخطابية، كنشاط اجتماعي، يتم بين ذوات قولية فعلية، ويخضع في بنائه وتشكيله لغايات ووظائف، سندرسها على نفس المقدمات المنهجية والأهداف التحليلية، كما هي موضوعة في الخطاطة التحليلية؛ بالتركيز على عدد من المكونات: ( القضية – العلاقة التخاطبية – الفعل الخطابي الأساس – الاستراتيجيات الخطابية):
القضية
يتخذ الخطاب الفيلمي من الصراع التاريخي/ الثقافي بين المهاجرين البيض، وبين الهنود الحمر، في أمريكا الشمالية، قضيته المحورية؛ إذ يفتح هذه القضية في بعدها التاريخي على المواجهة العسكرية، في حرب الإبادة التي مورست على الهنود المجسدين، فيلميا، في شعبي “السيو” و”البوني”، ويفتحها في بعدها الثقافي على عملية الطمس الهوياتي التي مارستها السينما والخطاب الفيلمي على امتداد قرن من الزمان.

في هذين البعدين يتحرك الخطاب، ويضعنا أمام تقابل صارخ بين صورتين متنافرتين لنفس الهوية، لنفس الكيان الوجودي والتاريخي: صورة شعب طحنته الأمراض والمجاعة والحصار والحقد الأبيض، وجرفه الغزو الصاخب للحضارة المعاصرة؛ وهي صورة مبهمة، باهتة الملامح، مطموسة المعالم، عفا عليها الزمان وطواها التحريف والنسيان؛ في مقابل صورة هندي شرير، شبح في العراء، يزرع الرعب، وينشر الدمار، ويقف سدا منيعا أمام نبل الرجل الأبيض، ورسالته الإنسانية والحضارية؛ وهي نسخة مشوَّهة للصورة الأصلية، التي أنتجتها السينما، وأشكال الصناعة الخيالية والفرجوية، وأعادت إنتاجها وإنتاجها، حتى ترسخت وأصبحت هي الحقيقة والمرجع والأصل.
من هذه الإبادة المزدوجة، تتشكل القضية الخلافية للخطاب الفيلمي: شعب أصيل وعريق، يجتث من أرضه ويباد؛ وخطاب ثقافي يبرر الإبادة، ويشرعنها ويقدمها قربانا وحلا مثاليا لتحقيق التقدم الحضاري الأبيض. ألا يمثل الهندي في الركام الخطابي السينمائي خطرا مُقلقا دائما، ينبغي أن يضمحل ويزول؟ ألم تقنعنا مشاهداتنا المتكررة لأفلام الويسترن بهذه الخطورة؟ ألم نكن نشعر بالارتياح ونشوة الانتصار، ونحن نشاهد شرذمة صغيرة من الجنود البيض، وهي تبيد جحافل الهنود أو ترغمها على الفرار؟ مَنْ – غيرُ المتخصصين في تاريخ أمريكا الشمالية – يعرف الهنود الحمر عن طريق آخر، غير طريق السينما والأشكال الفنية والتعبيرية المزامنة؟ لكن هل كان الخطاب الفيلمي الهوليودي في خدمة الإبادة والطمس الثقافي على الدوام؟ أو إلى أي حد استطاعت الأصوات المناهضة، لهذا التوجه، أن تنتج خطابا مضادا؟ وهل بالإمكان خلخلة الصورة السلبية الراسخة وإعادة الاعتبار للهنود؟ وأين يمكن أن نموقع الخطاب الفيلمي في “الراقص مع الذئاب؟
العلاقة التخاطبية
يستلهم قائل الفيلم المدروس الماضي. ينسج على منواله لحظات وأحداثا وصورا ليخاطب الحاضر. ينسج خطابا حول التاريخ، يحاور اقتضاءات وتمثلات وقناعات ومواقف؛ رسّبها ورسخها على امتداد قرن من الزمان، خطابٌ فيلمي آخر، سائد ومهيمن؛ يحتكر الماضي ويستحوذ على التاريخ، ويملك السلطة والقوة والقدرة على التأثير. لا حقيقة إلا حقيقته، ولا واقع إلا ما أنتجته آلياته. منذ أن كان هذا الخطاب، وهو لا يتوقف عن تمجيد الرجل الأبيض، وشرعنة هيمنته، وخدمة حضارته الزاحفة؛ منذ أن كان وهو يبرر القتل والإبادة، باسم التقدم والرقي البشري.
تخترق العلاقة التخاطبية، إذن، حدود النص الفيلمي، كتمظهر مادي ملموس؛ كفضاءات وشخصيات وأحداث، وتمتد لتتجسد في مواجهة خطابية، بين قائل جمع (أبيض) للخطاب الجديد؛ وبين متلق جمع ومتعدد (أبيض)، ساهم في صنع الخطاب المهيمن، أو أدمن على إعادة إنتاجه، ومراكمة استهلاكه؛ واستدخل أطروحاته وعانق مواقفه؛ أو متلقٍ مستضعف (ملوّن) استصغر ذاته، وصدق الصورة المرسومة عن هويته وتاريخه. وقد يجد في الخطاب الجديد عزاءه وشخصيته المفقودة. هذا التعدد في الذوات المتلقية، لا يعني بالضرورة تعددا في الخطاب؛ ما دام هذا التعدد متلقيا لنفس الخطاب، ومنبثقا من نفس الواقع المنتج لهذا الخطاب؛ وإذن سينحصر الخطاب الجديد في مواجهة الخطاب الآخر، وهدم أدواته وآلياته، وتفنيد مواقفه وأطروحاته، والدفاع عن ذاته، والعمل على التأثير في الذوات القولية على تعددها وعدم تجانسها.
هكذا تتشعب العلاقة التخاطبية، ويتسع مجال اشتغال الخطاب الفيلمي، ليغوص في الترسبات المشكّلة للسياق الإدراكي والمعرفي والذهني. ويصبح التعدد المختلف في الهويات والمصالح والميولات، كائنا ثقافيا موحّدا، يبحث لاختلافاته عن منطق ناظم، ولتاريخيه عن حد أدنى من التوافقات، ولخطاياه ومآسيه الماضية والحاضرة عن مسكنات ومهدئات. لم تعد المبررات التقليدية مقنعة، ولا التفسيرات المتوارثة مستساغة، ولا الخطابات العنصرية مبررة. لا مناص، إذن، من إعادة رسم صورة الشعب الأمريكي. لا بد أن يتجاوز الخطاب المهيمن ذاته، أن تنبثق عنه خطابات معدلة أو ملطفة أو رافضة.
من هذا المنظور، لا يعتبر الخطاب الفيلمي المدروس طفرة عرضية، أو نبتة في الخلاء؛ بل هو نتيجة طبيعية للتفاعل الخطابي الاجتماعي، كما تجسد في أفلام الويسترن، وصوتٌ ينضاف إلى الأصوات المناصرة لقضية الشعب الهندي، والرافضة للإبادة الممنهجة، وللصورة السلبية المشوَّهة.

الفعل الخطابي
إذا كان الخطاب في فيلم “الراقص مع الذئاب” يبدو كصوتٍ مخالف منبثق من الخطاب المهيمن؛ ومحاولةٍ لقلب الصورة المرسومة، التي رسخها وكرسها عبر تراكماته الفيلمية، لتشويه التاريخ الهندي، وتبرير إبادته، خدمة للعصرنة والتقدم الحضاري؛ وإذا كان هذا الخطاب بمثابة أزمة وعي حضاري وتاريخي، تمارسه النخبة البيضاء من جراء إخفاقاتها المتتالية؛ فكيف نقلب الصورة، ونتجاوز الإخفاقات؟ ما الذي يقترحه الخطاب لإنجاز المبتغى؟ أية أطروحة يدافع عنها؟ وما هو الفعل الحجاجي الضمني الموجه والمنظم للخطاب؟
أي موقع يحتله قائل الخطاب داخل السياق الثقافي المهيمن؟ أي صورة يرسمها للصراع بين الهنود الحمر والجنود البيض؟ هل يعمل – بحكم انتمائه إلى البيض كفرد وكمؤسسة إنتاجية – على تكريس الهيمنة البيضاء؟ هل يناصر الهنود ويندد بإبادتهم ومحو هويتهم؟. لن نعتبره محايدا. ولا مجال للحياد، فليس أمامه إلا خياران: (1) أن يتبنى أطروحة المؤسسة الهوليودية، الداعية إلى إبادة أعداء المد الحضاري الأبيض، والفاعلة في صنع الإبادة وشرعنتها وترسيخها؛ أو (2) أن يقف موقفا مضادا، يسفه الخطاب المهيمن، ويساهم في إعادة رسم صورة الذات الهندية وصورة الذات البيضاء.
كل المؤشرات النصية تبين أنه آثر الخيار الثاني، ليجعلنا، كمتلقين، أمام الانتظارات المألوفة: نرافق ضابطا عسكريا يجسد الصورة المتواترة. ندخل في مغامرته الانتحارية. نشاركه هواجسه ومخاوفه من الهندي المتوحش، رمز البطش والموت في ذاكرتنا الفيلمية؛ ثم يأخذ في تبديد هذه المخاوف بهدوء وروية؛ ليكشف أمامنا – بالتدريج – الوجه الآخر، الوجه الإنساني المطموس. نكتشف فيه الرقة والحب والميل إلى التعايش والتعاون، والخوف من الاحتلال والزحف الأبيض. يتضح أمامنا الفرق الصارخ بين عنيف أبيض قاس وممنهج، وبين عنف أحمر تلقائي وطبيعي؛ بين عنف أبيض من أجل الهيمنة والسيطرة، وبين العنف من أجل الحياة. نتابع البطل وهو يدرك زيف هويته القديمة؛ وهو يتخلى هواجسه وقناعاته ومواقفه القديمة؛ وهو يتشرب الثقافة الهندية، بل ويقاتل من أجلها، ويعلن افتخاره بانتمائه وهويته الجديدة:
[ لم أشاهد معركة كهذه. لم نحارب من أجل سياسة أو أرض أو غنى، أو من أجل تحرير الرجال. بل نقاتل من أجل الحفاظ عن مؤونة الشتاء. نقاتل من أجل من نحب. أحس بفخر لم أعهده من قبل. لم أكن أعرف بالفعل من هو جون دانبارك. لأول مرة أحس من أكون بالفعل]
ليس الهندي إذن أداة للقتل، أو متوحشا ينشر الرعب والدمار، أو عائقا أمام التمدن والتقدم الحضاري. إنه لا يقاتل إلا إذا فرض عليه القتال؛ إلا إذا هدد في حياته وفي عيشه؛ أي أن عنفه ليس إلا عنفا مضادا. ماذا لو تمت معاملته كما عامله جون دانبارك؟ لو عم السلم والحوار؟ لو تعلم البيض لغنه، وأعطوه الفرصة في العيش والتعبير عن الذات؟ هل كانت الإبادة التي تعرض لها ضرورية وحتمية؟.
هكذا يحاكم الخطاب اختيارا تاريخيا عنصريا، فضل القتل والدمار والتهميش وطمس الهويات على التعايش والسلم والتلاقح الحضاري. يسير الخطاب إذن في الاتجاه المخالف، ليكشف الزيف ويستجلي الحقيقة، ويناصر الشعب الهندي. هنا يكمن الفعل الخطابي الأساس:
[ أكذب الأطروحة الهوليودية السائدة، وارفض صورتها المغلوطة وحقائقها الزائفة. أعيد الكتابة من جديد]
من هذا الفعل الخطابي المضمر، تنطلق الآلة الحجاجية، وتتفرع إلى أفعال لغوية، تنظم وتبني وتنسج الحكاية الفيلمية، كعالم مأمول وحقيقة مضادة.
الاستراتيجيات الخطابية
إذا كان الفعل الخطابي المضمر يسير في الاتجاه المضاد للأطروحة الهوليودية، ويرفض الصورة السلبية التي رسمتها للشعب الهندي، ويدحض الصورة الإيجابية المؤَسطِرة للفاتح الأبيض، فكيف يتحكم هذا الفعل في كل المكونات النصية والسياقية؟ كيف يبني استراتيجياته الحجاجية؟ أية وسائل سخرها لدفع المتلقي إلى تبني أطروحته، والإيمان بقضيته؟ أي دور قامت به البنية المقطعية؟ وما دور البنية الحكائية؟ وإذا استحضرنا قوة الآلة الإنتاجية الهوليودية، ودعاماتها الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية، فكيف واجهها الخطاب الجديد؟ وما هي الاستراتيجية المضادة التي وظفها لدحضها أو التقليل من فعاليتها، علما أنه – في نهاية التحليل- منبثق عنها؟. لن نتوقع من الخطاب حجاجا عقلانيا؛ لن ننتظر منه أن يقارع الحجة بالحجة، ما دامت طبيعته اللغوية والحكائية، لا تخاطب إلا الجانب الفعالي، ولا تشتغل إلا على السجل النفسي والمستوى الإدراكي، والتمثلات الذهنية والتراكمات العميقة.
الاستراتيجية المقطعية
تشتغل الاستراتيجية المقطعية – كما أسلفنا – كجسر للتواصل بين الخطاب وقائله ومتلقيه المفترض؛ وتعمل كأفعال لغوية إنجازية جزئية، على توفير الشروط الضرورية لامتلاك المتلقي، والقضاء على كل أشكال المقاومة لديه. وقد تحققت هذه الاستراتيجية على الصورة التالية:
- اعتمدت طبيعة مقطعية بسيطة، توجه المتلقي نحو عناصر الحكاية، دون تشويش أو إزعاج؛ وتُنوع إيقاع التلقي بين الهدوء والتوتر. ويأتي التركيب التأطيري المتنوع، ليمكن المتلقي من التنقل بين الكل والأجزاء، في بنية سردية خطية، منفتحة على الترقب والانتظار، بفضل الالتحام الفيلمي المحكوم بتقنيات التركيب الفيلمي.
- يحتل المتلقي موقعا متميزا، ينتهي فيه كل شيء إلى الثبات، ويسود فيه الموقع الأفقي، وتختزل فيه العلاقات القولية البصرية إلى علاقة أحادية، بين الراوي الضمني وبين المتلقي، بكيفية مباشرة، أو عن طريق الراوي- الشخصية؛ وتتأكد نفس التراتبية في العلاقة القولية السمعية؛ مما يجعل العلاقة القولية المهيمنة، هي العلاقة السردية الخارجية، بين قائل الفيلم وبين متلقيه.
لا شيء، إذن، يعوق التواصل بين المتلقي وبين الخطاب؛ بل إن موقعه المتميز، يمكنه من التنقل من داخل الحكاية إلى خارجها؛ يتتبع بنية مقطعية خطية منسابة، ويعيش أحداث ومجريات الحكاية، ويخضع لتأثيرات الراوي الضمني، وتعليقات الراوي-الشخصية؛ مما يقوي استفادته من فائض المعارف والمعطيات، ويجعله محيطا بكل الدقائق والتفاصيل. لا شيء يعوق التلقي، أو يزعج المتلقي.
الاستراتيجية الحكائية
تنجز الاستراتيجية الحكائية، كأفعال إنجازية جزئية، عدداً من الأهداف المرحلية الصغرى، تعمل جميعها على صناعة حكاية مقبولة ومألوفة، يستطيع المتلقي تصورها وإعادةَ إنتاجها، والتفاعلَ مع أجوائها وأحداثها وشخوصها. وكلما تحققت هذه الأهداف، استطاعت الاستراتيجية الحكائية إدماجَ المتلقي في عالم الحكاية، وانخراطه في قضاياها، ودفعه إلى تبني أطروحتها ومواقفها. وقد استطاعت هذه الاستراتيجية في فيلم “الراقص مع الذئاب” أن تضع المتلقي داخل حكاية خطية منسابة، لا تعرف لبسا أو اضطرابا أو تفككا، كالتالي:
- حكاية بسيطة، أحادية المنحى، تسير في خط مستقيم، من الانفتاح إلى الانغلاق، بعد تجاوز التقابل الأساس، وتحقيق الإشباع، واستنفاذ إمكانيات التنامي والتوالد؛
- فعل حدثي قاعدي، يحكمه منطق سببي، يجعل الترابط بين الأحداث صارما، لا يدع مجالا للصدفة؛ مما يكسب الفعل الحدثي تماسكه وانسيابه؛
- فضاء حكائي، يتميز بتنقل متنام بين فضاءات ممتدة، في انسياب وبساطة، توازي حركة الشخصيات وتنقلاتها، دون تركيب أو تعقيد؛
- شخصيات مألوفة في طبيعتها وتمظهراتها. تتبنين في تقابل ثنائي تقليدي، يتفرع ويتشعب سطحيا، ليختزل، في العمق، في الصراع القائم بين السلب والإيجاب؛
- بنية زمنية، تتجه في مسار خطي نحو نهاية منفتحة على لحظة مستقبلية، وتخضع في تبنينها للتركيب الفيلمي، وفي تماسكها بقدرة المتلقي على ملء فراغاتها، لبناء وحدة زمنية متصلة.
كل المكونات الحكائية، إذن، تعمل على تقوية انخراط المتلقي واندماجه في عالم مألوف ومعروف، ومساهمته في بناء حكاية خطية، مماثلة لحكايته الذهنية المضمرة، والتماهي مع شخصياتها، باعتبارها امتدادا له، وإنجاح الأهداف المرحلية وأفعالها الإنجازية.
الاستراتيجية الذهنية
قد يتم التواصل، وتزول المقاومة؛ قد يتحقق الإدماج والاندماج، ويحصل التفاعل بين المتلقي وبين العالم الفيلمي، بفضل الاستراتيجيتين السابق ذكرهما؛ دون ان يعني ذلك أن الفعل الخطابي قد نجح في أداء وظيفته؛ أو استطاع أن يقضي على الاستجابة السلبية للمتلقي، تجاه أطروحة الخطاب الفيلمي وقضيته؛ أو يعني أنه انخرط كليا، أو نسبيا في صف قائل الخطاب. كيف يقاوم الخطاب التجربة الفردية للمتلقي، أو يحسن استثمارها؟ كيف يعزز التأثير العاطفي والانفعال الوجداني؟ كيف يوجه البناء اللاشعوري نحو التبني العقلاني، والاختيار الواعي؟. هنا تتدخل الاستراتيجية الذهنية، كأفعال إنجازية جزئية، لتشتغل على مستوى ذهني أعمق، لتعزير الميل إلى الأطروحة، والقضاء على التردد، وعقلنة الانفعال. لنتتبع هذه الأفعال في ما يلي:
الهدم/ البناء
ينطلق فعل الهدم/ البناء، كفعل مزدوج من صورتين سائدتين في أفلام الويسترن، وفي ذاكرة المتلقي: صورة البطل الأبيض في كل خصائصها الجسدية والنفسية؛ وصورة الهندي، بكل ما تحمله من تراكمات سلبية، وما تثيره من مخاوف وأهوال. تبدأ عملية الاكتشاف المتبادل، لتجرد البطل من بعده الأسطوري، وتبرز جوانبه الضعيفة؛ ولتبرئ الهندي، وتبرز خصائصه الحضارية والتاريخية والإنسانية؛ ويتحول لدى المتلقي إلى إنسان وديع متحضر، في حاجة إلى من يتفهم قضيته، وينظر إلى نظرة موضوعية، عادلة ومنصفة. لم تعد إذن صورة الرجل الأبيض رمزا للتحرر والتقدم الحضاري؛ ولم تعد صورة الهندي رمزا للتوحش، وعائقا أمام التمدن وسعادة الإنسان. وإذن لا مبرر للتطاحن والإبادة والدمار.
التحبيب/ التنفير
يوازي فعل الهدم والبناء الرامي إلى قلب التمثلات، فعلٌ آخر يشتغل على الجانب العاطفي، ويدفع المتلقي إلى الميل إلى طرف والنفور من الآخر. فبقدر ما ينجذب إلى الضابط في رقته وإنسانيته، وجنوحه إلى الحوار؛ بقدر ما يشمئز من همجية الفيلق العسكري وعدوانيته وتعطشه إلى الدماء. وبقدر ما يجنح إلى التعايش مع هنود السيو، ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، وحياتهم اليومية بكل تجلياتها؛ بقدر ما ينفر من هنود البوني، لاندفاعهم ومظهرهم المخيف، وميلهم إلى العنف والقتل. هكذا ينفر المتلقي من هندي أو جندي أو ينجذب إليهما، لا لانتمائه أو هويته، وإنما لسلوكه ومدى قربة أو بعده من الممارسة الحضارية، والقيمة الإنسانية.
الأدرمة
يتدخل فعل الأدرمة، مقطعيا وحكائيا، لتقوية الاقتناع بالصور المرسومة، وتعزيز الاختيارات العاطفية، وتعميق الإحساس ببشاعة الإبادة. هكذا يشارك المتلقي، عاطفيا، في رحلة لصيد البقر الوحشي، ويحمل آمال هنود السيو في المؤونة والغطاء، ومقاومة الجوع وصقيع الشتاء. لكن تأتي الصدمة. تُبيد قطعان الأبقار وحشيةُ وجشع الصيادين البيض؛ ويخيم الحزن والشعور بالانكسار على الحكي وفضاء التلقي. تتجه الحكاية أيضا نحو النهاية. يترقب المتلقي نهاية سعيدة؛ نهاية يلتئم فيها شمل جون بأفراد عشيرته الجديدة، وتعرف حياتهم الأمن والاستقرار. لكن يتدخل فعل الأدرمة من جديد. يحضر الجنود كالصاعقة. يبددون الحلم المنتظر، وتنتهي حياة المخيم إلى التشرد والضياع. يواجه المتلقي، إذن، الخيبة والإحباط، ويتعزز ميله إلى اختياراته، انتقاما من مصادري أحلامه.
الإيحاء
يرسم هذا الفعل التعزيزي فضاء بكراً، خاليا من آثار الوافدين البيض وملامحهم الثقافية؛ يوحي في بساطته وتنوعه وغناه بالأرض الأولى، بالرحم الذي انبثق منه الهنود، وبجنتهم المفقودة. توحي الحركة المتجهة نحو هذا الفضاء، أن الأبيض مجرد وافد غريب؛ إذ لا يتم الصراع داخل فضاء مشترك، وإنما بين سكان أصليين، وبين محتل قادم من مكان بعيد. تقدم حركة الهنود خارج هذا الفضاء، نحو اللامكان في نهاية الفيلم، ومطاردة الجنود لهم، صورة موحية عن التهجير والطرد من الجنة.
التصريح
يلجأ الخطاب أيضا إلى الحجاج المباشر. يستحضر التاريخ، على لسان شيخ العشيرة، الذي يستدل بخودة عسكرية قديمة على الصراع القديم والمستمر، بين الهنود وبين الوافدين البيض. يُنطق الخطاب الهنود بلغتهم الأصلية “لاكوتا”، ويضع المتلقي في علاقة مباشرة مع هذه اللغة، ويجعله، أيضا، أمام طقوسهم وعيشهم وممارستهم اليومية. يعزز الفعل التصريحي، من خلال استحضار التاريخ واللغة والثقافة، اختياراتِ المتلقي، وانجذابَه العاطفي، بحقائق واقعية، تمحو صورة الهندي الشبح المثير للفزع والخوف، والمنتشر في العراء. يصرح أن الهنود أصالة وحضارة وتاريخ قديم.
هكذا اشتغلت الاستراتيجية الذهنية، في فيلم “الراقص مع الذئاب” على السجل العاطفي والانفعالي، وعلى التمثلات الذهنية، وعلى المباشرة والحجاج العقلاني؛ لتوجيه المتلقي نحو تبني القضية الهندية، والاقتناع بعدالتها، ولتأكيد اختياراته المفترضة، والقضاء على كل مظاهر التردد والحيرة والمقاومة.
تركيب
نخلص في هذا التركيب، على أن الوظيفة الخطابية، في فيلم “الراقص مع الذئاب”، قد تحققت عبر الخطوات التالية:
- انطلقت من الصراع بين الهنود الحمر والوافدين البيض، كقضية أساس.
- اتخذت من الصراع القائم موقفا مناصرا للهنود.
- تمثل الموقف في فعل خطابي ضمني، يرفض الصورة المألوفة عن الهنود.
- اتجه الفعل الخطابي نحو التحقق، عبر مجموعة من الأفعال الإنجازية الجزئية، والتي تفرعت إلى ثلاث استراتيجيات، استهدفت تحقيق ثلاثة أهداف مرحلية:
- استراتيجية مقطعية، تحقق التواصل وتستولي على المتلقي.
- استراتيجية حكائية، تدمج المتلقي في عالم الحكاية، وتمكنها من التماهي مع شخوصها، والانفعال بأحداثها وعوالمها.
- استراتيجية ذهنية، تعزز اختيارات المتلقي، وتقوي تبنيه للفعل الخطابي الأساس.